
على مدى قرون من الزمن، ظلت المرأة تحشد جهودها لتغيير العالم من خلال قوتها وشغفها وتصميمها. ولهذا السبب، أردت أن أقوم بتعريف إحدى هؤلاء النساء، الغير معروفات للكثير بالرغم من الشهرة التي تميزت بها من خلال مسارها المهني والسياسي النخبوي، ومن خلال بصمتها المنقوشة على صفحات سجلاتها الذهبية للتاريخ.
لقد لعبت المرأة في تاريخ الجزائر عامة وبمنطقة متليلي الشعانبة بولاية غرداية خاصة دورا أساسيا بارزا جد مهم في حياتها وحياة المجتمع وسجلته بأحرف من ذهب. اكتسبت من خلاله على مراحل تواجدها نفوذا وسلطة متنوعة أدبية علمية مهنية وسياسية.
ولم تقتصر على النشاط فقط. بل شغلت مناصب سيادية وقيادية مهمة في العديد من القطاعات سواء المهنية أو السياسية والنخبوية ومنه للقطاع الخاص بالمقاولاتية.
ولعبت دورا رئيسيا في تاريخ المنطقة سواء بمسقط رأسها أو بمقر ولايتها ووطنها.
هاته المرأة القوية، التي أصبحت مرجع جد مهم وسند كبير لكثير من النساء عامة والعاملات والسياسيات المتطلعات لمستقبل زاهر نحو حياة أفضل، توفر لهن أنموذج المرأة القوية في حياة الأنثى بصفة خاصة. إحدى صور الكفاح والتضحية، هي المرأة اللي صنعت نفسها بنفسها هذا الأنموذج التي بات مثال يقتدى به ويفتخر به, فكانت مرجع وسند لغيرها، لكثير من الإناث الملتفة من حولها وبمحيطها.
قوة شخصية الحاجة مريم بن خليفة سنوجزها في سطور للتعرف عليها وعلى سيرتها ومساهرها المتعدد والمتنوع الحافل بالإنجازات, المرأة المتعددة المواصفات ونجاحها في حياتها المهنية والاجتماعية والسياسية النخبوية والخاصة في مجال المقاولاتية التي فرضا عليها الواقع المعاش لثبت وجودها وتعلن كلمتها ورفع صوتها ليسمع ويصل للطرف الأخر.
فمن خلال هذه الملامح والشروط الموجودة عند هاته المرأة القوية, نجدها تختلف إلى حد كبير مع ما توجد عليه المرأة العادية التي قد تكتفي بالبحث عمن يضمن لها صورة اجتماعية وحياة معيشية مقبولة داخل المجتمع حتى وإن كانت أحيانا على حساب المستوى المادي والاجتماعي الذي كانت تحلم به وتطمح إليه.
إنها السيدة بن خليفة مريم بنت محمد. من مواليد 10 ماي 1952 بمتليلي الشعانبة قلعة الثوار الأشاوس, بنت الشهيد بن خليفة محمد, من عائلة محافظة ميسورة الحال, عائلة نضال ثورية عن كابر , تولد من رحمها المناضل و السياسي و الشهيد و خلفهم الإداري و الطيب و الإطار و الطيار وغيرهم من الألقاب و الأسماء و الصفات و الرتب.
مسارها التعليمي:
كأقرانها وبلوغها السن القانونية للتمدرس دخلت للتعليم النظامي بمدرسة الآباء البيض وقتها بمدينة غرداية بحكم الحقبة الإستدمارية للاحتلال الفرنسي.
وبتفوقها ونجاحها انتقلت للتعليم المتوسط والثانوي بحي الزيتون بالجزائر العاصمة.
والتحقت بجامعة السوربون الجديدة بفرنسا أين تخرجت منها بشهادة ليسانس شهادة تحكم علوم اجتماعية من كلية السوربون الجديدة باريس 3– 21 جوان 1992. تخصص علم اجتماع. موضوع دراسة المجتمع المعاصر, بعنوان مكانة الصناعة في المجتمع الجزائري.
حياتها المهنية:
بعد إتمام الدراسة والتكوين وظفت في منصب مضيفة طيران بالخطوط الجوية الجزائرية. لتسجل أسمها بأحرف من ذهب في سجلات التاريخ. لتكون أول امرأة من الجنوب الجزائري في وظيفة مضيفة طيران عامة من متليلي الشعانبة وغرداية خاصة.
تزوجت من المجاهد البطل من كبار رجال الإعمار والاستثمار بالجنوب الجزائري عامة الفقيد تمام الحاج موسى سجين بسجن وهران بالغرب الجزائري من طرف الاحتلال الفرنسي إبان الحرب التحريرية رحمه الله, أصيل مدينة تيميمون عاصمة الواحات الحمراء.
ككل إمرأة طموحة و شغوفة بالسياسة والانخراط الحزبي و دواليبها, ولجت عالمها في صفوف جبهة التحرير الوطني أين انتخبت لعدة عهدات عضوة بالمجلس الشعبي الولاية بولاية غرداية و رئيسة لجنة ونائبة لرئيس المجلس.
ويتقاعهدها من الوظيفة الحكومية وبروتينيها اليومي, لجأت إلى عالم الأعمال الحرة لتكون مرة أخرى أول امرأة مقاولة في البناء والتعمير من الجنوب سنة 1996 و اختارت لها اسم مقاولات الجنوب.
لهنا سميت ولقبت بالمرأة الحديدية لقوتها ومكانتها وبصمتها المنقوشة وتواجدها بفرض مكانتها و بروز اسمها المدوي في المشاريع المقاولاتية وباقي الأعمال.
مسار نشاطها السياسي:
عضوة منتخبة، نائبة رئيس للمجلس الشعبي الولائي بولاية غرداية.
النشاط الحزبي:
أول امرأة عضوة مكتب محافظة حزب جبهة التحرير الوطني بغرداية.
أول إمراه عضوة اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير على مستوى الجنوب أكمله.
العضوة الوحيدة باللجنة المركزية من المؤتمر السابع إلى يومنا هذا.
العضوة الوحيدة بالمؤتمر الأخير لتمثيل الجنوب رجال ونساء.
نائبة رئيس المجلس الشعبي الولائي لمدة عشرون 20 سنة.
بصمة العمل:
لقد كانت شغوفة بأمورها المتعددة، وتركت من خلال عملها إرثا تاريخيا لا يقدر بثمن بفضل خبرتها وحنكتها. وتركت دروسا للعبرة لا حصر لها، مما أدى إلى تخليد حقبة كاملة من تاريخها الحافل بالبلاد ومنه أرشيف تاريخي سياسي جد قيم تؤلف منه مجلدات.
مصير اجتماعي طبعته الظروف:
لقد حملت الحاجة مريم منذ الوهلة الأولى نصيبها من التحديات، وأظهرت شجاعة ساطعة ومثابرة في الظروف الصعبة.، عادت إلى الحياة الاجتماعية عامة والخيرية التطوعية خاصة منها مساعدة الفقير والمحتاج والأرامل والمطلقات وفئة المعاقين من ذوي الهمم. وأبدت رغبتها علانية بكل شجاعة وتحدي في مساعدة المجتمع, ومن أبرز نشاطاتها المدوية حملات الختان الجماعية لأبناء الفقراء والمعوزين خلال شهر رمضان المعظم من كل سنة كعينة من أنشطتها المتعددة التي لا تعد ولا تحصى.
سفيرة الاحترام والتقدير:
كانت السيدة الحاجة مريم بن خليفة شديدة الارتباط بالمجتمع بدون استثناء ولاترد طالب خدمة ولا سائل قدر المستطاع. وسعت بتنشيط تحسين الظروف الاجتماعية للجميع عامة والشخصية والاجتماعية للمرأة خاصة لنفض الغبار عليها وتحفيزها لأخذ زمام أمورها بيدها وتأهيلها لولوج حرم المجتمع من أوسع أبوابه. وإدماجها بالحياة اليومية المعتادة كغيرها, لقد تجاوزت مهمة مسؤولياتها كإطار إداري وكسياسية منتخبة. وأثبتت بكل جدارة أنها مثال مبتكر بين المسؤولين المنتخبين في ذلك الوقت وحتى يومنا هذا، حيث تعلمت كل صغيرة كبيرة لمسايرة الوضع وعملت بكل حرص شديد على احترام العادات والتقاليد وعدم تجاوز الأعراف كخط أحمر لا يمكن السماح لتجاوزه من طرف أي كان.
امرأة عملاقة فولاذية الإرادة. تميزت بقدرات متنوعة شعانبية الطباع عربية الجذور تفخر بها في كل المحافل, تتحدث عنها الأقلام السابقة لكى تعرض تجربتها القوية التي تحدت بها وأعلنت بكل قوة تواجدها وأثبتت مكانتها وسط المجتمع عن جدارة.
تألقت في مجالاتها التي اختارتها عن قناعة والتي نزعت عن روحها فتيل الإحباط واليأس والفشل. لتتخلص من الوهن فأصبحت بطلة تمتلك أدوات الاختيار للنجاح للمواجهة والتحدي حرة أبية في تحديد المصير واتخاذ القرار.
امرأه حديدية بدأت مشوارها من الضعف إلى القوة لتصبح علامة مضيئة في محيط بالمجتمع لتعلن ولوجها عالم دائرة السياسة والمنتخبين و في مجال المقاولاتية المهنة التي كانت سابقا حكرا على الرجال بدون منازع, لقد تخطت كل حدود الأزمات بأفكارها المتحررة من القيود العقيمة والمعارضة للحرية فأبدعت حتى بلغت قمة النجاح لترفرف عاليا براية النجاح بعد الكفاح المثمر .
هي امرأة شعانبية غرداوية لم تتخلى عن العادات والتقاليد والأعراف المجتمعية. بل كانت مناصرة لها ومحافظة عليها مثابرة وصابرة عليها لم تحظى منذ الصغر بفرصة حقيقية بل صنعتها لنفسها ونقشتها بأحرف من ذهب في سجلاتها المؤرشفة للتاريخ, حتى لقبت دون منازع بالمرأة الحديدية تتحدى كل عائق بكل فطنة وكياسة صنعت لنفسها حياة خاصة لتصبح بعد حين من زمن سابق أسطورة باقية في الأذهان .
امرأة شعانبية غرداية عربية الجذور على خطى أسلافها من الأشاوس الأحرار من المجاهدين والشهداء والقائمة طويلة. جاءت بإطلالة فريدة من قلب العالم تحترم ذاتها تعتز بوشاح أمجاد ذويها سلسلي الشرف والجود والكرم, لترفع الرأس بكرامة عالية يرافقها الصبر حتى ساحة النصر والطموح.
لم تنفرد بعرض تجربتها في الحياه بل جعلت خبرتها وسمعتها المدوية, تسطر أحداث الزمان لتحكي لأجيال المستقبل لتكون لهن مدرسة ومخبر يتزودن منه, تروى ذكريات مضت وحاضر كله أحداث ممتلئة العينات تحدت به كل المعوقات وقالت أنا موجودة.
أكدت الحاجة مريم التي تعد أول امرأة شعانبية غرداوية تدخل عالم مهن الرجال، على قدرة السيدات على المنافسة في وأعمال الرجال، معلنة أن النساء لديهن القدرات والمهارات الكافية والإمكانات المادية والمعنوية والجسدية التي تجعلهن ينافسن الرجال بنفس القوانين واللوائح بكل المستويات العالية بدون المساس بأحكام العرف والعادات والتقاليد الراسخة والثابتة في جذور أعماق المجتمع برمته ولقد أثبت بذلك للمجتمع أننا قادرة على المنافسة بقوة.
خلاصة القول:
وحتى اليوم، لا يزال اسم السيدة الحاجة مريم بن خليفة يتردد صداه كرمز للتفاني والافتخار والاحترام والتقدير. وسيظل إرثها كمضيفة طيران وسياسية ورائدة أعمال أنموذجًا ملهما للأجيال القادمة، ويشهد على قوة التعاطف والتضامن والتأزر لتجاوز الحدود على مر العصور.
بقلم الأستاذ الحاج نورالدين أحمد بامون – ستراسبورغ فرنسا.