أقلام

المعالجة الدستورية لمسائل الهوية الجزائرية

 

عرفت الجزائر ومنذ الحركة الوطنية في الأربعينيات من القرن الماضي صراع الهويات، ازداد تغولا مؤخرا بسبب انتشار تكنولوجيا المعلومات والاتصالات (TIC) ومواقع التواصل الاجتماعي.

 

 ويدور صراع الهويات في الجزائر حول ثلاث مسائل أساسية هي: التاريخ والدين واللغة، وغالبا ما يجول هذا الصراع بين القوميين بمساندة الإسلاميين والعلمانيين المعربين، والبربريين بمساندة العلمانيين المتفرنسين. تحاول السلطة في هذا المجال أن تلعب دور الوسيط والمنظم لهذه المسائل الحساسة حفاظا على تماسك المجتمع وإرضاء لكل الأطراف، وذلك عبر الوثيقة الدستورية. وقد اختلفت المعالجة السياسية-الدستورية لهذه المسائل من قبل السلطة وذلك حسب السياق التاريخي والسياسي لظهور كل دستور على حدة. فبين دستور 1963 الذي اختصر الهوية الجزائرية في الدين الإسلامي واللغة العربية، ودستور 2020 الذي اعتبر الجزائر أرض أمازيغية إلى جانب الأرض العربية، تكون السلطة قد قفزت قفزة نوعية في معالجة مسائل الهوية دستوريا.

  • المسألة التاريخية في الدساتير الجزائرية 

تباينت الدساتير الجزائرية في معالجة موضوع تاريخ الجزائر الذي لازال يطرح إشكاليات إيديولوجية وأخرى معرفية. لم يغص دستور 1963 بعيدا في أغوار التاريخ، واكتفى بذكر الغزو الاستعماري في سنة 1830 وما نجم عنه من كفاح مسلح وآخر سلمي-خلقي، لتصل إلى محطة أول نوفمبر 1954، فالاجتماع الأخير للمجلس الوطني للثورة الجزائرية مرورا على اتفاقيات إيفيان. لقد تجنب هذا الدستور أي إشارة إلى تاريخ الجزائر ما قبل الغزو الفرنسي، واكتفى بذكر الحقبة الاستعمارية التي استمرّت إلى غاية شهر مارس من عام 1962، أين خرج الشعب الجزائري منتصرا على فرنسا الاستعمارية بقيادة جبهة التحرير الوطني. كما تحاشى ذكر الدور الرئيسي الذي لعبته الحركة الوطنية بقيادة حزب الشعب الجزائري، ثم حزب حركة انتصار الحريات الديمقراطية بفصيلها المسلح والمتمثل في المنظمة الخاصة، وذلك في تهيئة ظروف قيام الثورة التحريرية. ويعود السبب في ذلك إلى موقف زعيم الحركة الوطنية مصالي الحاج من الثورة الجزائرية، وإلى إنشائه لحزب سياسي منافس لجبهة التحرير الوطني والمتمثل في الحركة الوطنية الجزائرية.  

اكتفى دستور 1976 بذكر الكفاح الطويل للشعب الجزائري دون تحديد مراحله ومحطاته، والحرب التحريرية التي خاضها بقيادة جبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني. لقد تحاشى دستور الرئيس بومدين الإشارة إلى تاريخ الجزائر الطويل، بل تجنّب حتى الكلام عن الغزو الفرنسي للبلاد في 1830، وحرب الإبادة التي مارسها الاستعمار طيلة وجوده بأرض الجزائر كما فعل دستور 1963؛ إنها “حيلة دستورية” لتفادي أي إشارة لدور الحركة الوطنية التي لم يشارك فيها بومدين نظرا لصغر سنه، ولأسباب أخرى تتعلق بموقف زعيم حزب الشعب الجزائري. في الحقيقة، حتى وإن تحاشى دستور 1976 ذكر هذه المحطات، فإن الميثاق الوطني لسنة 1976 فعلها وذكر مختلف المحطات التاريخية للبلاد. وقد جاء في الميثاق الوطني: “ليست الجزائر كيانا حديث النشأة. فمنذ أيام ماسينيسا المؤسس الأول للدولة النوميدية، ويوغرطة رائد المقاومة ضد السيطرة الرومانية، أخذ الإطار الجغرافي يتحدد في معالمه الكبرى”.

أما دستور 1989، فقد انطلق من العهد النوميدي مرورا بالفتح الإسلامي وصولا إلى الحروب التحريرية من الاستعمار بنقطتها الفاصلة في أول نوفمبر 1954، مع ذكر محتشم لدور الحركة الوطنية في تهيئة ظروف قيام الثورة التحريرية. هكذا، ولأول مرّة اهتدى المؤسس الدستوري الجزائري عبر دستور 1989 إلى ذكر المحطات التاريخية للبلاد والمتمثلة في العهد النوميدي والفتح الإسلامي والحروب التحريرية من الاستعمار التي جاءت على شكل الجمع، وهي إشارة إلى الثورات الشعبية التي قام بها الشعب الجزائري منذ أن وطئت قدما الاستعمار أرض الجزائر، أي من ثورة الأمير عبد القادر إلى ثورة غرة نوفمبر، مرورا بثورات عدّة منها أحمد باي والزعاطشة وأولاد سيدي الشيخ والمقراني والشيخ الحداد وغيرها. كما ولأول مرة أيضا، تمّت الإشارة ولو بإيجاز شديد إلى الدور التاريخي للحركة الوطنية في جمع شمل الشعب الجزائري، لكن دون ذكر الأحزاب والشخصيات الحاملة للنهج الاستقلالي، ونخص بالذكر حزب الشعب الجزائري الذي تحول إلى حزب حركة انتصار الحريات الديمقراطية تحت لواء مصالي الحاج للأسباب المذكورة سابقا.

حافظ دستور 1996 على هذا المعطى التاريخي لدستور 1989، فيما أكّد دستور 2016 على التاريخ الجزائري الممتدة جذوره إلى آلاف السنين، دون ذكر محطاته المختلفة، واكتفى هو الآخر بذكر العهد النوميدي والفتح الإسلامي والحروب التحريرية من الاستعمار الفرنسي. في الحقيقة، جاءت صياغة ديباجة دستور 2016 في سياق سياسي مشحون بصراعات الهوية الوطنية بين التيار القومي العروبي المدعوم جزئيا من قبل التيار الإسلامي، من جهة، والتيار الأمازيغي المدعوم هو الآخر جزئيا من قبل التيار العلماني، من جهة أخرى. يرى فريق من التيار العروبي أن للشعب الجزائري أصولا عربية، بل هو من العرب العاربة، فيما يرى فريق آخر أن الأصول الجزائرية تعود إلى الكنعانيين والفينيقيين. أما التيار الأمازيغي، فيرى أنّ الأصول الجزائرية تمتد إلى آلاف السنين، وقد أثبتت الدراسات الأركيولوجية أن الإنسان الجزائري استوطن المنطقة في العهود الحجرية الأولى، كما أكّد ذلك اكتشاف رجل تغنيف بولاية معسكر بغرب الجزائر، والذي يعود أصله إلى ما قبل التاريخ (700 ألف سنة على الأقل).

لم يأت دستور 2020 بأي جديد في المسألة التاريخية، حيث حافظ على محتوى دستور 2016 في موضوع التاريخ. نشير إلى أنّه ولا دستور جزائري تطرّق إلى الوجود العثماني بالجزائر والذي دام أكثر من ثلاثة قرون.

  • المسألة الدينية في الدساتير الجزائرية 

تتفق الطبقة السياسية الجزائرية منذ الحركة الوطنية إلى يومنا هذا على أن الدين الإسلامي هو العنصر الأساسي للهوية الوطنية إذ يعتبر المحرك الأساسي لتاريخ الجزائر الأوسط والحديث وفي نفس الوقت الحامي الأكبر للاستلاب الفكري والاغتراب الحضاري الذي قد يصيب الشعوب المستعمرة. وإذا كانت رؤية الطبقة السياسية واحدة إزاء دور الإسلام ومكانته الحضارية في المجتمع الجزائري، فإن الاختلاف سرعان ما يطفو لما يتعلق الأمر بمكانة الإسلام السياسي في المجتمع الجزائري؛ فالتيار العلماني يرى بضرورة فصل الدين عن الدولة، وبالتالي إبعاده عن كل الممارسات السياسية، كما يرى أن سبب الأزمة التي عاشتها الجزائر في التسعينيات يعود إلى تسييس الإسلام واستعماله لأغراض حزبية ودعائية؛ وعكس ذلك، يرى التيار الإسلامي أن الإسلام ليس دينا عقائديا فحسب، وإنما يحمل في طياته أنظمة سياسية واقتصادية واجتماعية صالحة لكل الأزمنة. هذا الصراع الإيديولوجي حول مكانة الإسلام في الحياة السياسية أخذته السلطة بعين الاعتبار في أول دستور جزائري ظهر للوجود في 1963، عندما راحت تدستر حكم “الإسلام دين الدولة”، قصد احتكاره لصالحها، وقد حافظت عليه كل الدساتير المتعاقبة من 1976 إلى 2020 رغم الانتقادات الموجهة لهذا الحكم من قبل التيار العلماني. لكن في المقابل عملت السلطة على فصل الدين عن السياسة وذلك في دستور 1996 الذي ظهر بعد أزمة يناير 1992. لقد أدت تجربة الانفتاح الديمقراطي وإفرازات الأزمة الوطنية بالسلطة إلى إحاطة إنشاء الأحزاب السياسية بضوابط دستورية تتمثل خاصة في عدم جواز تأسيسها على أساس ديني أو لغوي أو عرقي أو جنسي أو مهني أو جهوي، وفي نفس الإطار، لا يجوز للأحزاب السياسية اللجوء إلى الدعاية الحزبية التي تقوم على ذات العنصر. أكيد أن المعني بهذه الضوابط هي الأحزاب السياسية الإسلامية التي عملت على تغيير تسميتها وحذف كل ما يحمل شحنة لغوية دينية. في نفس الإطار، عمل دستور 2020 على منع استعمال أماكن العبادة لأغراض سياسية، وهي تعني بذلك المساجد التي اتخذها في الماضي التيار الإسلامي منبرا للدعاية الحزبية.

  • المسألة اللغوية في الدساتير الجزائرية 

 “اللغة العربية هي اللغة الوطنية والرسمية للدولة الجزائرية، والتحقق الفعلي للتعريب يجب أن يكون بكامل التراب الوطني وفي أقرب الآجال. غير أنه واستثناء لأحكام هذا الدستور، فإن اللغة الفرنسية يمكن استعمالها مؤقتا إلى جانب اللغة العربية”. هكذا بدأت المسألة اللغوية في الجزائر غداة الاستقلال. ففي أول دستور عرفته البلاد، اعترف المؤسس الدستوري أن اللغة العربية هي اللغة الوطنية والرسمية، كما أقرّ بضرورة التعريب وفي أقرب الآجال، لكن في نفس الوقت، فتح منفذا دستوريا للغة الفرنسية قصد استعمالها في المرحلة الانتقالية، وذلك حتى يتم التعريب الفعلي بكامل البلاد. إلا أن هذه المرحلة طالت ولم تنته، وأمست اللغة الفرنسية لغة الإدارة الأكثر استعمالا، رغم السياسات المتبعة في مجال التعريب ورغم أن الدساتير والمواثيق التي عرفتها البلاد من بعد (دساتير من 1976 إلى 2020 وميثاقي 1976 و1986) نصت كلها على أن اللغة العربية هي اللغة الوطنية والرسمية. وقد خضعت المسألة اللغوية بالجزائر لصراع سياسي كبير بين التيار الفرانكفوني والتيار القومي العربي، وقد كانت الكفة مرجحة كما وكيفا غداة الاستقلال لصالح التيار الأول والذي عرف كيف يستغل الفراغ الذي خلفه ذهاب المعمرين بعد الاستقلال ليستحوذ على المناصب الإدارية والاقتصادية الحساسة، بينما بقي التيار القومي العربي ينتظر الوعود السياسية التي لم تتحقق رغم المحاولات العديدة التي جرت في مجال التعريب. وكان التيار الفرانكفوني يرى بضرورة المحافظة على اللغة الفرنسية واستعمالها في المجال العلمي والتقني باعتبارها لغة عالمية وفي نفس الوقت علمية، وبالتالي فهي الوسيلة الأكثر فعالية للتحكم في التكنولوجيا الجديدة قصد الخروج من التخلف الذي تعرفه البلاد. أما اللغة العربية فهي لم تخرج بعد من قوقعتها القرنوسطية نتيجة تخلفها التاريخي، وبالتالي فهي لا تستطيع مواكبة تقدم العلوم والتكنولوجيا. كما يتخذ التيار الفرانكفوني من اللغة العربية الدارجة واللغة الأمازيغية منفذا وحجة للدفاع عن اللغة الفرنسية، إذ يرى أن اللغة العربية الكلاسيكية ليست بلغة الشعب الذي يتكلم اللغة الأمازيغية والعربية العامية، وبالتالي فتعميم اللغة العربية الكلاسيكية من شأنه أن يقطع الصلة بين الشعب والإدارة، وبالتالي بين الشعب والسلطة، وكأنّ اللغة الفرنسية يتقنها الشعب بأكمله !.

أما التيار القومي العربي، فيرى أن اللغة الفرنسية هي لغة المستعمر التي بها أراد أن يمحي الشخصية الجزائرية، وبالتالي فاسترجاع اللغة العربية لمكانتها الأولى يعني استرجاع الشخصية الوطنية فضلا على أن اللغة العربية هي لغة الإسلام دين الشعب الجزائري كافة. كما يتخذ هذا التيار من اللغة العبرية كمثال لمجابهة أفكار الفرانكفونيين، فاللغة اليهودية تعتبر من اللغات القديمة والميتة، كما لم تعرف الحضارة اليهودية التقدم العلمي والفكري الذي عرفته الحضارة العربية-الإسلامية، ومع هذا استطاع الإسرائيليون في القرن العشرين إحياء اللغة العبرية واستعمالها في شتى المجالات التقنية والعلمية، الأمر الذي يوحي أن المسألة هي قضية إرادة سياسية وفي نفس الوقت وراءها قوى ضاغطة تحركها أيادي من وراء البحر. وقد ظهر جليا هذا الصراع اللغوي بين التيارين المذكورين في قانون تعميم استعمال اللغة العربية الذي صدر في 16 يناير 1991، حيث استغل التيار الفرانكفوني الورقة الأمازيغية وذلك بتحريك التيار البربري قصد التنديد بهذا القانون الذي جاء لضرب اللغة الأمازيغية حسب زعمهم. وبدسترة الأمازيغية كلغة وطنية أولا في تعديل 2002 ثم رسمية في دستور 2016، يكون التيار الفرانكفوني قد ربح منزلة بين المنزلتين.   

  • ملاحظة: المقال مقتبس من كتابي المعنون: الثابت والمتغير في الدساتير الجزائرية الذي سيصدر قريبا في سوق الكتاب. 

محمد سعيد بوسعدية: باحث حر    

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى