ليس أكثر ما يميز الإنسان السلبي والايجابي في التفاعل الاجتماعي، من الموقف، لقدرة الموقف على صناعة التاريخ، وما ذكره القرآن في سياق استحثاث الناس على آخذ المواقف في الظروف اللازمة، عبر قصة أصحاب الكهف، لكفيل بأن يؤسس لنا رؤية عن دور العارف وفضله في فرض منطق الاستنارة في مجتمعه، ففتية الكهف لم يفعلوا وفق منطوق السورة، أكثر من تحديد موقفهم الرافض لطغيان تحالف “الكنيسة والعرش” والخروج احتجاجا إلى الكهف والنوم لأزمة طويلة، إلى أن حدث التغيير وفق سننه وقوانينه فخلد القرآن ذكراهم، لموقفهم، وكآية لأصحاب العقول بأن الموفق هو أعظم ميزة للإنسان والمثقف.
قبل عقود من الآن، ألف الباحث السوسيولوجي والأديب الرحل عمار بلحسن كتابا مهما عنوانه “أنتليجانسيا أم مثقفون في الجزائر” ساءل فيه بعمق وتساءل عن الطبيعة الانبثاقية للمثقف الجزائري ومسار وظيفته الاجتماعية، في ظل الشروخ المرتسمة على بنى المجتمع الفوقية، وتطور خطاب تيارات الرفض لمشروع دولة الاستقلال الذي أفضى اليوم إلى حالة من الفوضى وعدم القدرة على الاستواء على أساس توافقي جدير بأن يغدو ملتقى التوجهات ما يتيح فرص ميلاد مجتمع مدني قوي يسهم في ملأ الفراغ الكبير الذي يقف عليه العقل الوطني في عديد أبعاده ومجالاته ويحدث بالتالي التغيير الحقيقي والمرجو على مستوى كامل البني الاجتماعية والسياسة للبلد.
وإثارة هذا التشظي الحاصل في حديقة النخبة والمثقفين في الجزائر، إنما تؤججه حالة التعبئة الحاصلة اليوم في فرنسا على خلفية اعتقال السلطات الجزائرية في إطار القانون، الكاتب الفرنكفوني بوعلام صلصال بسبب ما صرح به من كلام مس به الوحدة التاريخية للتراب الوطني، حيث اجتمعت الأصوات الفرنكوفونية وأجمعت على اختلاف توجهاتها الأيديولوجية والسياسية على ضرورة التصدي للقرار السيادي الجزائري بمحاكمة أحد مواطني الجزائر ممن أجرموا بالقول في حق أسمى ثوابت الأمة، من هنا طُرح التساؤل الكبير، ما الذي يدفع بمثقفي تلك التيارات للناشط الدعائي والإعلامي الكبير بغية الدفاع عن كاتب مزدوج الجنسية، في وقت تُرى فيه النخب المثقفة وكتاب الجزائر ملتزمة الصمت المريب؟
في الحقيقة كنا قد حرصنا فيما سبق من مقالاتنا على أن نضع ما ينتجه الفرنسيون من أشكال الكتابة التاريخية والسياسة والأدبية المتصلة بقضايا المستعمرات القديمة في سياق الفكر الاستعماري، الذي ليس فقط يبرر ولا يبرئ الاستعمار، وإنما يغذي طروحاته تساوقا مع تطور العلاقات السياسية بين المستعمر والبلدان المستعمرة، لذا لا يزال هذا الاستعمار يجد له القابلية النخبية من خلال استعارات الاستلاب اللغوية من مثل مقولة أن “الفرنسية غنيمة حرب”.
فالنخب الفرنسية مهما اختلفت في أصولها الأيديولوجية والسياسية من يمين إلى يسار، من أوليغارشية إلى نقابية عمالية، من لائكية متزمتة إلى لائكية جمهورية مؤسسية، تلتقي كلها عند مرجعية “الأمة الفرنسية العظيمة” بتراثها الثقافي وتاريخها الكولينيالي “الحضاري التنويري” الذي يتمظهر أساس باللغة باعتبارها الحصن المنيع لبقاء الأمم أو انهيارها في مساحات التدافع الحضاري في التاريخ، مثلما يحرص على تأكيده معظم المختصين في المسألة الحضارية.
هذا التلازم بين اللغة والتاريخ في سياق اشتغال العقل الفرنسي، هو ما يحدد في الكثير من المحطات التوجه السياسي والدبلوماسي للدولة، ويجعل منه على رأس كل الاهتمامات العمومية، وعليه فالتوظيف السياسي والدبلوماسي للقضايا المتعلقة بعلاقات فرنسا مع الغير، مهما تم إلباسها مزاعم كحقوق الانسان، وحق التدخل الإنساني، وحرية التعبير، تبقى في الأخير المصلحة الفرنسية الخالصة والتي تجتمع حولها الأمة بعناصر نسقها الكاملة.
في حين يظهر موقف مثقفينا في عديد القضايا مشتت، لأسباب لها علاقة بقوة تأثير هذا الفكر الاستعماري، الذي يستمر في استيلاب بعض النخب الجزائرية بأسس الديمقراطية الأوروبية التي تجد لها في نظرهم مبررات من خلال تقدم بلدانهم في شتى الصعد وأبرزها الديمقراطية وما أسهمت فيه من بناء مؤسسات سياسية وسيادية قوية أضحت لها مع مرور السنون تقاليد تتجاوز القدرة والإرادة على التغيير لدى الانسان الأوروبي بسبب نزوة أو شهوة للسلطة قد تدفع به إلى الدوس على المؤسسات ومراجعة المواثيق كتغيير الدستور أو غير ذلك من الهبل أو المغامرات التي تحدث من دون مشكل في العالم الثالث.
إن هذا الصمت حيال قضية بوعلام صنصال ليثير علامة استفهام كثير حول طبيعة المثقف الجزائري اليوم، والعجز عن التعبير الذي بات يظهره حيال قضايا كبرى تمس مجتمعه، وعدم قدرته على تحديد موقفه، هو أصل عديد البلايا التي تضرب هذا المجتمع في مقتل، ذلك لأن غياب صوت المثقف وموقفه ورأييه، (من مثل ما يحصل مع قضية صنصال) يحرم المجتمع من مصدر هام من مصادر تغذية وعيه السياسي، إذ بالمواقف تتطور الأفاق، وعبر نقاشات وجدالات عميقة يتأسس العقل وطني.
فما يعيشه اليوم المثقف من انهيار على مستوى القيمة الوظيفية والاجتماعية، هو نتاج هذا الصمت غير المنطقي الذي بسببه تكرست العشوائية في كل خطاباتنا السياسية والثقافية (إن جاز لنا حقا الحديث عن وجود هذه الخطابات) كما أن هذا الصمت نفسه كان سببا في حالة الفقر المؤسسي الذي يعيشه مجتمع الفكر والثقافة والابداع، وحال اتحاد الكتاب الجزائريين اليوم هنا، لأكبر دليل على حال مجتمع الثقافة والإبداع ما صار إليه من ميوعة واضمحلال عكس به تراجع صوت المثقف أمام أصوات العبث التي تتريد المشهد اليوم.
فالفكر الاستعماري المنتِج اليوم للرؤى الجديدة حيال قضايا المستعمرات القديمة، يلعب دوره في تعجيز وعرقلة ظهور فكر وطني خارج القوالب الديماغوجية، يصدر عنه خطاب ثقافي خصوصي يحمل أبعاد إنسانية معبر عنها من خلال التراث العالمي والمحلي، لكن طالما أننا كأمم لم نصل بعد إلى مستوى تحديد أطر الذات وعناصر تكوينها والحسم فيها، فلن يكون سهلا الحديث عن كسب التحديات التي يواجهها عقل الأمة في مختلف القضايا، وهنا تحديدا يبرز الصمت وغياب الموقف للمثقف الجزائر صادما.
بشير عمري