
بقلم: احسن خلاص
khellasahcene@gmail.com
كشف تصويت الغرفة الأولى على رفع الحصانة البرلمانية عن النائب عن حزب جبهة التحرير الوطني عبد القادر واعلي أن البرلمان يمكنه له أن يقول لا، بعد أن قالها بشأن نائب حزب التجمع الوطني الديمقراطي بن حمادي بالنظر إلى ما عودنا عليه من تزكية لكل السياسات والقرارات ومشاريع القوانين التي تأتيه جاهزة من السلطة التنفيذية.
وقد كان أكبر المتفائلين بصحوة برلمانية جديدة قد انتظروا أن لا يحظى مخطط الحكومة بتأييد أغلبية مريحة من قبل النواب وأعضاء مجلس الأمة تكيفا مع الروح الديمقراطية التي أذكاها الحراك. لكن ها هو المجلس الشعبي الوطني يمارس حقه الدستوري والديمقراطي بأن صوتت أغلبية منه على رفض مطلب رفض الحصانة عن نائب متابع في قضايا تعود إلى عهد توليه وزارتي الموارد المائية والأشغال العمومية ومشاركته في تمويل الحملات الانتخابية للرئيس السابق بل قبلها لما كان واليا على عدة ولايات.
لقد كانت الحصانة البرلمانية من المبادئ التي أرستها الديمقراطيات العريقة منذ أن ظهرت في بريطانيا بعد الثورة وانتشرت إلى فرنسا وباقي الدول الأوروبية كما أخذت بها الجزائر منذ أول دستور لها عام 1963 وكرسته جميع التعديلات الدستورية إلى غاية 2016. وكان الهدف من إرساء هذا المبدأ في البداية تحصين البرلمان ذي الأغلبية البرجوازية من تغول الملك إذ أن الثورة الانجليزية، عكس الثورة الفرنسية، أفرزت تقاسما للسلطة بين البرجوازية والارستقراطية فكان من الواجب فصل القضاء عن الصراعات السياسية التي يمكن أن تفرزها هذه الثنائية.
لقد تطور مبدأ الحصانة البرلمانية في طريق التجسيد الفعلي والإجرائي لمبدأ فصل السلطة التشريعية عن السلطات الأخرى إذ لا يمكن تصور أي نجاعة للحصانة البرلمانية في ظل سلطات غير متوازنة وبرلمان لا تأثير له على القرار السياسي، فتحصين النائب من الضغوط والتهديد برفع الدعاوي القضائية والمتابعات البوليسية ضده أثناء ممارسته لمهامه النيابية أو التعبير عن آرائه وأفكاره يأتي كمحصلة ضرورية للمبدأ العام تماما كما هو حال استقلال القضاء الذي يقتضي استقلال القاضي في تقديره وإحكام ضميره.
ويميز الفقهاء الدستوريون بين نوعين من الحصانة البرلمانية وهما الحصانة الموضوعية التي تعني الكف عن مساءلة النائب عما يدلي به شفويا أو كتابيا، والحصانة الإجرائية التي لا تجيز أي إجراءات جنائية ضد عضو البرلمان في حال ارتكابه جريمة إلا في حالات استثنائية لاسيما حالة التلبس. ولا يمكن الحصول على رفع الحصانة إلا بتنازل طوعي من عضو البرلمان أو بتصويت أغلبية أعضاء الغرفة التي ينتمي إليها.
لم يكن مبدأ الحصانة البرلمانية في الجزائر يحظى باهتمام بالغ لسنوات طويلة إلى اليوم الذي اكتشف فيه الولاة والوزراء ورجال الأعمال أن من دخل البرلمان فهو آمن فهرعوا إلى حجز تذاكرهم للانضمام إليه وأغلبهم لا يدلي فيه برأي ولا يشارك في تصويت بل لا يشرف المبنى البرلماني بالحضور، يعد الأيام التي بقيت لانتهاء العهدة البرلمانية ليعد العدة لعهدة جديدة يتمكن منها بنفس الطرائق التي اكتسب بها العهدة السابقة، من بينها أن يحتمي بحزب الأغلبية من خلال الانضمام إلى كتلته البرلمانية أو يبلي البلاء الحسن ويجزل بالعطايا للدوائر المكلفة بترتيب نتائج الانتخابات.
لاشك أن الحصانة البرلمانية صارت أكبر محركات الفساد السياسي، إذ لا يعقل أن يدخل رجل أعمال أو وزير أو والي سابق المنافسة الانتخابية للظفر بمقعد قد لا يضيف شيئا إلى رصيده الاجتماعي سوى بطاقة زيارة جديدة تحصنه من ضحاياه ومن الحق العام الذي لم يسبق له أن تحرك في ظل نظام كامل يضمن الحصانة لأتباعه وعرابيه وخدمه فقد اتهم أعضاء من البرلمان علنا وعبر وسائل الإعلام بالفساد والمتاجرة بالمخدرات دون أن يحرك المدعي العام ساكنا ودون أن تطالب وزارة العدل كما تفعل اليوم بمباشرة إجراء رفع الحصانة البرلمانية عن هذا النائب أو ذاك، واتهم آخرون ممن انتهت مهامهم كوزراء وولاة ودخلوا جحر البرلمان ليحتموا به دون أن يسأل أحد كيف وصل هؤلاء إلى البرلمان وقانون الانتخابات يشترط نزاهة المترشحين لانتخابات البرلمان ويتطلب شهادة نقية للسوابق العدلية؟
الأمر إذن لا يتعلق بالحصانة البرلمانية بقدر ما هو مرتبط بعملية تحصين دائمة ظل يقوم بها النظام الفاسد لأتباعه وخدمه على جميع المستويات تحت شعار”معانا الريح ما يقيسكش”. وهو ما عبر عنه النواب عند تصويتهم برفض 201 نائب من أصل 286 نائبا حاضرا رفع الحصانة عن زميلهم الوزير والوالي السابق، وأغلبهم ينتمون إلى حزب جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي، حتى أننا نسمع نائبا يدعو وزارة العدل بشكل غير مباشر للكف مستقبلا عن إرسال ملفات رفع الحصانة عن النواب إلى مكتب البرلمان.
ويبدو أن النواب الذين بدأوا يحزمون أمتعتهم للخروج من المبنى نهاية هذا العام اختاروا الشراسة في الدفاع عن “سمعة البرلمان” الذي ظل يرميه الرئيس تبون بالفساد السياسي ويتوعد بأخلقة الحياة السياسية والمؤسسات وإبعاد المال عن السياسة كما اختاروا الدفاع عن الحصانة البرلمانية ذاتها وكأنهم يرسلون رسالة لوزير العدل مفادها أن رفعها ليس بالسهولة التي يتصورها بعد أن نجح في افتكاكها من ولد عباس وغول وبركات وطليبة ووقف عند عتبة بن حمادي وواعلي. فهل على العدالة انتظار حل البرلمان لمعالجة ملفات كثيرة وقفت أمامها الحصانة البرلمانية؟