أقلام

الوعي الجديد بالشأن الخارجي

مقاربات للتجاوز وأخرى للإنتاج

بات إيقاع التغيرات المتسارع الذي يكتنف طبيعة العلاقات الدولية، يفرض على الفاعل الدبلوماسي كثيرا الأناة والذكاء وخاصة القدرة على التكيف المصلحي السريع مع معطيات الواقع، والدول والحكومات التي أفلحت إلى حد ما في ضبط مصالحها وفق هذا الإيقاع لا شك أنها حصدت ما يغني رصيدها من الأهداف الدبلوماسية والمصالح القومية، ويعزز بالتالي من قوة حضورها في المشهد الدولي الدراماتيكي اليوم على أكثر من مستوى وصعيد.
إلى عهد قريب ظل النقاش السياسي في الجزائر محصورا في قضايا الداخل، بالنظر إلى التعقيدات التاريخية التي واكبت قيام دولة الاستقلال، من صراعات وسجالات في الشرعية والمشروعية والتوجهات والخيارات المرتبطة بالمشروع الوطني، قضايا احتد واحتدم السجال حولها إلى حد أن كلف الامة خسائر في الارواح والممتلكات فيما عرفت بالعشرية السوداء، ولم يول الجزائريون طيلة هاته العقود الستة من عمر الاستقلال، أدنى اهتمام بالسياسة الخارجية للدولة، لاعتبارات عدة، منها فلربما، ما هو متعلق بمنطق الأولويات أين طغى الداخلي على الخارجي، ومنها ما هو نابع من ثقة الأغلبية في القدرة الدبلوماسية للدولة، التي كانت فلربما الأنشط والأكثر تميزا ونجاحا في أداء دولة الاستقلال.
لكن بعد الانهيارات الكبرى التي شهدها العالم على صعيد شتى نظمه السياسية والاقتصادية وحتى التكنولوجية وما تعلق بانتشار ثقافة عصر ما اسماه أحد عقول السياسة الخارجية للولايات المحتدة الامريكية زبيغتيو بريجينسكي بعصر التيكنوترونية، ضاق العالم في مسافاته ومساحاته واخترق الخارجي الداخلي في واقع ووعي الناس وقدراتهم الادراكية للظواهر، وما يجري في غزة البقعة الصغرى في الجغرافيا الكبرى في التاريخ اليوم والصيت الذي نالته لدى شعوب، كانت من فرط تمركزها حول ذاتها كرائدة للعالم، هي أجهل الشعوب بالجغرافية الخارجية، مثل الامريكان وفي قلب كبرى جامعاتهم، لأفضل من يمكن الاستدلال به في هذا المجال، فمذ ذاك صار الجزائريون يبحثون عن شكل حضورهم في المسرح الدولي بالتركيز على طبيعة العلاقات التي تنسجها دولتهم مع باقي الدول وانعكاسات ذلك على مصلحة بلادهم.
ولربما ما هيج أكثر اهتمام الجزائريين المتوهج خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، هو الصراع الإقليمي الذي اتسع نطاق اشتعاله على حدود البلد كمحصلة لانهيار المنظومة السابقة للعلاقة بين دول المنطقة، وهذا مذ تفجر الربيع العربي موديا بنظامي بن علي في تونس والقذافي في ليبيا، بالإضافة الصراع الشرس الحاصل على مناطق النفوذ بالساحل الافريقي بين قوى الاستعمار القديمة (فرنسا) والقوى الصاعدة كالصين وروسا، وهكذا لم يعد ملف الصحراء وحده محل اشتغال الجهاز الدبلوماسي الجزائري، كما كان في السابق وإنما ملف المنطقة بكامل حدود تماسها مع الجغرافية الجزائرية الأمر الذي بات يفرض، مثلما يراه الجزائريون، على القائمين على إدارة الشأن الخارجي وهندسة خرائط طريقه، أكثر من تغيير في القراءات والتحليلات بغية التوصل إلى تجديد موضوعي في هذا الجانب الحساس من نشاط الدولة.
في هذا الاطار كان الصحفي والمالك السابق لصحيفة البلاد عبد القادر جمعة، قد كتب على حسابه بالفيسبوك يقول: “السياسة بين الدول، تحكمها مصالح وحسابات، وتقوم على تحالفات مدروسة‪..!‬ أما الحبّ والعشق، الوفاء والخيانة، اللوم والعتاب .. مكانها المسلسلات” في إشارة ناقدة للمسلكية الدبلوماسية للجزائر .‬
فما يمكن قراءته في منشور عبد القادر جمعة وغيره من المناشير والتغريدات التي تصب في ذات الاتجاه، هو لوم المدرسة الدبلوماسية الجزائرية على عدم إقدامها على تغيير بعضا من عقيدتها التي لم تعد تفي بالغرض في خضم عالم يميل فيه بشكل صارخ إلى الواقعية الصرفة في العلاقات والتحالفات والتكتلات، وينزع عنه يوتوبيا المثالية الإنسانية، ما يعني بأن الرؤية الجزائرية للخارج المتصفة اليوم بعدم الثبات، أضحت محل مطالب بالمراجعة السريعة بل وإعادة النظر في العديد من جوانبها ذات البعد الجيوبولتيكي.
أذكر في هذا الصدد ما نشره بداية الالفية الحالية الجنرال خالد نزار في مذكراته، عن القضية الفلسطينية، حيث طالب بتغيير جذري حيالها بما يمكن أن يصل إلى حد التنصل منها وترك الفلسطينيين يتصرفون كما يشاؤون وهذا كتعبير عن غضب من ياسر عرفات الذي بعد توقيع اتفاق أوسلو سنة 1993 قام بجولة لشرح الاتفاق في منطقة المغرب العربي مستثنيا الجزائر، التي كانت وقتئذ منهمكة في مواجهة الإرهاب ما عزز، حسبما رآه خالد نزار، من الحصار الذي كان مضروبا على الجزائر وقتها، والغريب أنه في ذات الكتاب عبر الجنرال عن رفضه للاتجاه الجديد لشاذلي .
طبعا لا يمكن لأي تغير في الخط الدبلوماسي والخيارات في العلاقات الدولية أن يبنى على موقف لشخص أو شخصية في السلطة، فضلا أن يكون ذلك الموقف ناتج عن لحظة غضب، لأن العلاقات بين الدول تقوم على مصالح وليس عواطف، مثلما أشار إليه عبد القادر جمعة في منشوره السابق، لذا لم يُستجب لرأي خالد نزار، لكن مجرد طرح الفكرة، كان سابقة في طبيعة المواقف الديبلوماسية الرسمية للجزائر تقفز على ثابت من ثوابت عقيدتها الكلاسيكية.
لكن هل المطالب بضرورة أن تتكيف السياسة الخارجية للجزائر مع المتغيرات الكبرى وذات الإيقاع السريع والتقلب المتواصل التي تعرفها العلاقات الدولية، تعني التخلي عن المبادئ التي قامت عليها الديبلوماسية الجزائرية وبها تميزت في السابق؟
الإجابة هنا تفرض أولا سؤالا مقابلا حول مفهوم المبادئ وطبيعة ممارستها، فمثلا مبدأ عدم التدخل في شأن الآخر يؤخذ على اطلاقه، والدليل ما هو حاصل عند جيراننا في دول الساحل، حيث يجري افتراس سيادتها بوحشية، بدعاوى مختلفة كمحاربة الإرهاب، ونشر الديمقراطية، وحماية الأقليات، ولكنها في واقع الأمر لديها أكثر من معارك مصلحية طاحنة بين كبار شطرنج السياسة الخارجية في العالم.
الفرق إذا كبيرا بين فرضية “التخلي” عن المبادئ وشاكلة “التحلي” بها، فالتخلي يظله غير وارد في قاموس الخطاب باعتبار أن تلك المبادئ هي أساس صلب من أساسات قيام الدولة، بيد أن عنصر المصالح يفرض من ناحية، مساحة كبرى من التأويل للمصطلح وشاكلة اعماله، ويحفظ لعنصر التحلي بها، من ناحية أخرى، حظه من التجلي والتمظهر، وإلا بقيت الامة تتحمل ركام من الأعباء الناتجة عن صراعات ديبلوماسية وجيوبوليتيكية لا تسهم فيها بما يلزم من مقاربات جديدة تدفع بها عنها المخاطر وتجلب من خلالها ما بوسعها من مصالح.
.
بشير عمري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى