أقلام

انحباس الوعي

يلزمنا مفهوم الصراع من خلف دلالاته اللغوية، أن ندرك طبيعته الوظيفية وعناصره الفاعلة في أي مستوى من مستويات اشتغاله وأي قضية من قضايا قيامه ونشوبه، ذلك لأن فلسفة الصراع عادة من تتلبس لدى الخاصة من الناس فما بالك بالعامة، لا سيما عندما تنزل إلى سوح السياسية وصداماتها المصلحية السياسوية والأيديولوجية “البوليتيكية” على حد توصيف المفكر الراحل مالك بن نبي، وتغدو لعبة قوى توظيفية كيانات وظيفيه، ولعل الاستعمار بمفهومه التاريخي، بما حققه فكرا وعملا مذ ظهر كحركة في التاريخ هو أبرز دلالات الصراع، الذي استعصى على الكثيرين فهمه وربما كان نعت “الإرهاب” بوصفه أقوى مستحضرات أدوات الصراع وخطابه، التي أعقبت الحرب الباردة، وفوضى توظيفاته الانتقائية والخلاقة، كان خير موضح لسوء هذا الافهم وما انجر عنه من إشكالات، ومنها تساءل الكثيرون عن طبيعة القضية الفلسطينية وسط فوضى التصنيفات والنعوت الصراعية تلك، هل الأمر يتعلق بمجرد حلقة من حلقات تصفية استعمار ببعده الكلاسيكي؟ ما دور عناصر التاريخ التي سبقت حركة الاستعمار في هاته القضية والتي تثيرها عديد التيارات الأصولية والقومية للطرفين؟ ولماذا يظل التعامل معها عربيا فوقيا والشعوب تبقى بمعزل عن القرارات التي تطبخ وتتخذ حياله لا سيما فيما بات يعرف اليوم بقطار بالتطبيع الداهس لكل معترض عليه وغير معترف به؟
حالة التيه
هي جملة من التساؤلات تفرضها حالة التيه التي يعيشها ما يسمى بالعالم العربي اليوم في خضم تناقض الخطابات السياسية والوطنية وتخطيها لكل خطابات المعرفة وسلطانها والوعي ومقتضياته من قبل سلط ونظم قُطرية أممت الإنسان المواطن بفكره ولحمه ولم يعد في منظورها سوى حيوان سياسي موجه.
إن مسألة الوعي بمشمول عناصره المفهومية والعملية، قضت في أدبيات الصراع وأحاديثه، أن يدرك الانسان ويعرف عدوه، هذا الادراك وهاته المعرفة الحيوية يجب أن تتجاوز البعد التصنيفي بحسبانه بعدا معياريا ايديولوجيا لتتأسس في واقع أو واقعية التاريخ، هي ما يبدو أنها تفلت من خارطة الانسان العربي الادراكية عموما، وعليه فهو اليوم يُتلاعب به بشكل سهل في التوظيف السياسي من جل الخطابات لمختلف التيارات بين علماني قومي، وديني اسلاموي وعلماني تغريبي وطبعا من سلط شمولية ذات توجهات إيديولوجية وطنية.
محطات مهمة
في سياق التصنيفات للقضية الفلسطينية تلك، أذكر كيف أنه في المؤتمر التأسيسي لحزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية سنة 1989 وصف وصنف أمينه العام الأول وقتذاك الأستاذ مقران آيت العربي القضية الفلسطينية وهو يعطي الكلمة لممثل السفارة الفلسطينية في المؤتمر بالقول “إن دعمنا للشعب الفلسطيني ليس لكونه عربيا، بل لكونه شعب يبحث عن مكان تحت الشمس كبقية الشعوب المضطهدة” أي منطق الحق في الوجود القطري القاطع مع خطابات النظم العربية الكلاسيكية التي كانت ترجع مسألة مواجهة الكيان الصهيوني للانتماء الجغرافي والسياسي العربي الموحد.
في ذات السنة كان النظام المصري أول المطبعين، قد أُعيد إلى حضن جامعة الدول العربية التي كان قد طُرد منها سنة 1979 إثر توقيع يشكل منفرد توقيعه لمعاهدة السلام مع إسرائيل وذلك في مؤتمر القمة العربية الذي عقد بالرباط للنظر في الحرب الاهلية اللبنانية، وهي العودة التي أشرت لبداية عهد جديد في التعامل مع المسألة الصهيونية في المنطقة، وهو ما سيتطور فيما بعد غزو العراق للكويت وما نجم عنه من حرب تدميرية سميت الخليج الثانية، أعادت رسم الشكل الجيوبوليتيكي للمنطقة – سيتطور – إلى مسارات سلام منفردة تفردت بها الصهيونية العالمية بالقطريات العربية كل على حدى وطغى من وقتها خطاب “التطبيع”
واليوم الإشكالية الكبرى التي يعيشها الوعي العربي بإزاء هاته القضية هي تلك المتعلقة أساسا بزاوية النظر إليها، حتى يدرك القيمة الحقيقية لخطورة التطبيع وأثرها على تاريخه وجغرافيته، هل هي دينية؟ وبالتالي تقتضي الاستمرار في المقاومة كما تقتضيه مسائل عقائدية أخرى، أما هي مجرد إشكالية جيوبولتيكية يمكن حلحلتها بآليات الحل التي توفرها القوانين والنظم الدولية؟
هل هي مجرد إشكالية؟
وإذا كان موقف الأرسيدي العلماني قد حسم الرؤية باعتبار المسألة الفلسطينية مجرد إشكالية حق شعب في البحث عن مكان تحت الشمس، أي تأكيد للوجود الفلسطيني بغض النظر عن طبيعة وصيغة هذا الوجود، وهي الرؤية التي تؤسس اليوم لمفهوم التطبيع في خطاب الإقناع به للنظم العربية التي امتطت سكته، فإنه على النقيض من ذلك تماما لدى التيار الإسلامي، حيث ظلت مسألة تحرير فلسطين غير قابلة للفصل عن الأصل العقدي، وهي بذلك مسألة كينونة أمة بكاملها من عدمها، لكن عدم قدرة هذا التيار على التوفيق بين مشروطات القُطرية وتفاعلها مع حركية الواقع الدولي، ومقتضيات الخطاب “الأممي” الإسلامي جعله يعجز، ليس فقط عن الاستيعاب الواقعي للقضية في إطار مشاريع التسوية بمختلف مضامينها، بل إنه ليبدو عاجزا عن أن لا يكون ضحية لمسارات التسوية تلك ومشاريعها وأسوئها بلا شك التطبيع، وهو حال الإخوانية في المغرب، التي جرى على يدها التطبيع من خلال حزب العدالة والتنمية الذي كان يقود حكومة التناوب ‪!‬ حيث اعتبر هذا التيار التطبيع خيارا مرا فرضته الظروف الإقليمية المحيطة بالمملكة، ويقصد بذلك مواجهة الجزائر على مسار القضية الصحرواية، أين ضغط الرئيس الأمريكي السابق ترامب على النظام العلوي كي يطبع في مقابل الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء.‬

انعكاس لسوء الفهم

إذن، فاستمرار أزمة القضية الفلسطينية، بشكلها المأساوي اليوم، في ظل ما يحدث من مجازر في غزة، وغيرها من أرض فلسطين، هي مجرد انعكاس لسوء فهمها وضبابية الوعي بها في العقل السياسي العربي، حيث النظر إليها يخضع لتصنيفات معيارية وايديولوجية ومصلحية، وهو ما يُعسر من فرص جمع الرأي والقدرات وتشكيل خطاب موحد حيالها يقفز على الاختلافات والاختلالات الايديولوجية الفاعلة في الصراعات السياسية الداخلية ويؤسس لمنظور واقعي جديد يحررها على حد سواء من قيد الخطاب الرسمي وخطابات المزايدة غير الواقعية من تيارات الترف الفكري والايديولوجي لنخب المعارضة السياسية منها والفكرية. .

بشير عمري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى