
بقلم: احسن خلاص
khellashacene@gmail.com
زار الجزائر في الأيام الأخيرة السيد رشيد بن عيسى وقد رافقت زيارته ضجة عبر وسائط التواصل الاجتماعي قدمت الرجل بأنه عالم في اللسانيات، يتقن ما يقرب من عشر لغات وأنه زار جل بلدان العالم واحتك بمختلف النوادي الفكرية واللغوية والدينية وأخذ يعلن من أول لحظة عن الأجندة الفكرية التي حملها معه قبل أن تسارع جمعية الجاحظية إلى استضافته لإلقاء مداخلة استغرقت أكثر من 3 ساعات فرض فيها “الانضباط” على الحاضرين الذين لم يترك لهم إلا مساحة صغيرة للنقاش الذي لم يخرج في غالبه عن بيانات التزكية من قبل مريدين جاءوا ليشبعوا حاجتهم لحجج “علمية” تبرر أحكامهم المسبقة وميولاتهم المذهبية.
ليس يهمنا في هذا المقام أن نناقش من الناحية العلمية ما جاء في مداخلاته ولا حتى تدخلاته عبر وسائل الإعلام فذلك شأن يعني الباحثين المختصين في مجال اللسانيات وانتروبولوجيا وسوسيولوجيا اللغات بل إن مكان هذا النقاش بالدرجة الأولى ليس المنابر الإعلامية والساحات الثقافية المعروفة بانغلاقها الفكري بل إن مكانه الطبيعي هو مخابر البحث ومنابر النقاش العلمي المنهجي.
جاء السيد بن عيسى إلى الجزائر التي حرم منها لأكثر من 28 عاما كما قال، وكله عزم على أن يستأنف الجدل الذي كانت الجزائر ساحته قبل أكثر من 30 عاما، جاء ليحييه من جديد بعد أن أكل عليه الدهر وشرب. لقد أراد السيد بن عيسى إعادته إلى الساحة لعله يجد له حيزا يزاحم به النقاش العام القائم اليوم حول تغيير نظام الحكم وإرساء دولة القانون واحترام الحريات والسيادة الشعبية.
لذا فضل بن عيسى أن يدخل الجزائر فاتحا من بوابة الندوات العامة والظهور عبر وسائل الإعلام ولاسيما القنوات التلفزيونية، لكن دون أن يترك أسلوبه التلقيني الذي تجاوزه الزمن أي فرصة لفتح النقاش حول مواضيع لم تعد في المراتب الأولى في سلم اهتمامات المواطن الجزائري اليوم بعد أن استطاع الحراك الشعبي أن يحدث تحولات جذرية في براديغمات تناول القضايا والمرور إلى النقاش حول المسائل المتعلقة بتحقيق المواطنة والمشاركة في الحياة المشتركة للمجموعة الوطنية لتحقيق أهداف التنمية.
لقد أطل السيد بن عيسى على جمهوره بثوب العالم ليخطب عليه من مقام الواعظ الذي لا يقبل لفتاويه النقاش ولا يرضى لها إلا السمع والطاعة وقد حاول أن يربط بين اللهجات البربرية والفينيقية والعربية على اعتبار أنها من أصل واحد وأن “القبائلية” أخذت كل ما وجدته في سلة مهملات قاموس اللغة العربية فوظفته في التعامل اليومي مستدلا بعدة أمثلة على ذلك مع الذهاب أبعد من ذلك عندما ذكر أمثلة تماثلات بين مفردات عربية وقبايلية” وإنجليزية وغيرها.
وبثوب الواعظ الناصح دعا السيد بن عيسى إلى الكف عن السعي إلى البحث عن توحيد اللهجات الأمازيغية في لغة عالمة موحدة تدرس في كل المدارس الجزائرية والمغرب الكبير وتكون منطلقا لنهضة لغوية جديرة بالقرن الواحد والعشرين مشيرا إلى بربر شمال إفريقيا بالإبقاء على صفاء لهجاتهم الطبيعي البدائي دون التطلع إلى التلاقح مع الألسن الأخرى في عصر العولمة.
وبهذا لا يبتعد طرح السيد بن عيسى عن الطرح الانفصالي الذي يدعو إليه فرحات مهني الذي لا ينظر إلى الأمازيغية من خلال التنوع اللهجاتي في ظل الوحدة اللغوية المتكاملة والمضبوطة بل ينحصر منظوره في “اللغة القبائلية” باعتبارها لغة الدولة المنفصلة التي ينشدها. وهو ما يجعله يلتقي مع المنظور العروبي في رفضه الانطلاق من وجود ثقافة جزائرية تمزج بين البعدين العربي والأمازيغي على تنوعهما ونزوعه إلى ربط المنطقة المغاربية كرافد لثقافات مهدها المشرق تماما مثل ما ينزع تيار متطرف آخر يربط الأمازيغية بأصول أوروبية وهي تيارات تتفق على نفي وجود أي بعد تاريخي وثقافي جزائري.
ويبقى التساؤل مطروحا: ما الجدوى من إثارة مثل هذه الموضوعات وإلقائها أمام الملأ اليوم؟ وليست هذه دعوة إلى عدم الاهتمام بها في البحث اللغوي والانثربولوجي والإركيولوجي وطرحها على المستوى المخبري والأكاديمي، غير أن المسار التحرري للشعب الجزائري الذي بدأ في عشرينيات القرن الماضي ولا يزال ممتدا إلى اليوم قد قطع شوطا كبيرا نحو دولة مواطنة ووطن تتعايش فيه الأفكار واللغات والمعتقدات دون أن يسأل أحد الآخر من أين جئت حين يسود فيها السؤال إلى أين نحن ذاهبون كمجموعة وطنية تاريخية لا تحتاج إلى توجيه مركزي لتتوحد حول أهداف موضوعية مشتركة. الجزائر ليست بحاجة اليوم لمن يوقف عجلة تاريخها بنقاشات تهريجية عقيمة.