
بقلم احسن خلاص
لا يمكن للتصعيد الذي يعرفه مسار النزاع بين المغرب وجبهة البوليزاريو أن يمر مرورا عابرا دون أن تظهر مؤثراته الجانبية على الحياة السياسية والاجتماعية في المنطقة المغاربية وهو ما بدأ يبرز من الدعوات التي ترتفع من هنا وهناك إلى ضرورة صون الروابط الاجتماعية والتاريخية بين المغرب والجزائر وسلها من النزاع الذي بلغ من العمر 45 سنة كما تسل الشعرة من العجين. وتظهر مواقع التواصل الاجتماعي صورا معبرة عن التلاحم الطبيعي والتلقائي بين الشعبين الجزائري والمغربي من خلال رفع علمي البلدين جنبا إلى جنب على أكتاف جزائريين ومغاربة.
وليست هذه هي المرة الأولى التي يجري فيها تأكيد هذه الروابط أمام مسار متوتر عرفته العلاقات الجزائرية المغربية منذ عام 1963 تخللته اشتباكات عسكرية على الحدود ومناوشات إعلامية وحرب مواقع ديبلوماسية واقتصادية بالرغم من دخول العلاقات بين البلدين فترة هدنة امتدت من عام 1987 إلى غاية عام 1994 أثمرت تأسيس الاتحاد المغاربي وبشرت بعهد جديد من التفاؤل بمستقبل كان من شأنه لو أتيح له سبيل التجسيد أن يدفع بالقضية الصحراوية إلى مخرج يرضي جميع الأطراف من جانب ويحدث ثورة في مجال التكامل الاقتصادي وتمتين النسيج الاجتماعي والبشري وترقية التبادل الثقافي بين بلدين يجمعهما الكثير على الصعيدين الاجتماعي والحضاري، في حين تظل شياطين السياسة في الداخل والخارج تفسد للود القائم قضيته التي لا يزال يطالب بها.
لا نحتاج إلى كبير عناء في البحث عن الشرعية التاريخية للتقارب المغاربي فقد أدرك رواد الحركة الوطنية منذ بداية النضال السياسي ضد الاستعمار الفرنسي أهمية العمل المغاربي المشترك لنيل استقلال وحدوي مغاربي وقد افتتح المسار الاستقلالي المغاربي نجم شمال إفريقيا وامتدت أدبياته إلى حزب الشعب الجزائري وحركة انتصار الحريات الديمقراطية وكان بيان جبهة التحرير الوطني في الفاتح من نوفمبر 1954 واضحا في ربطه استقلال الجزائر بوحدة الاستقلال المغاربي وقد تأسف في فقرة من فقراته من غياب وحدة العمل الثوري المغاربي التي ما فتئت الحركة الوطنية تطالب بها وجددها البيان عندما وضع تحقيق وحدة شمال إفريقيا ضمن أهداف الثورة الخارجية وهو ما جسدته مشاركة جبهة التحرير الوطني في مؤتمر طنجة إلى جانب حزب الاستقلال المغربي وحزب الدستور الجديد التونسي وقد بحث تشكيل مجلس استشاري مغاربي وقيام اتحاد فيدرالي للبلدان الثلاثة.
وإن نجحت الأحزاب الوطنية في الحصول على استقلال هذه الأقطار متفرقة إلا أن النزاعات بين الأنظمة القائمة لاسيما بين الجزائر والمغرب، قضت على ما تبقى من أمل في البناء المغاربي وفق توصيات مؤتمر طنجة وحتى مسعى اتفاق مراكش لم يتح بدوره فسحة للشعوب المغاربية لتجسد الوحدة بل ظلت المقاربة التي جاء بها مؤسساتية إذ سرعان ما نسفها المغرب بعد أحداث مراكش التي اتهم فيها الجزائر بالوقوف وراءها عام 1994.
وفي خضم التوتر القائم اليوم على الجبهة الصحراوية عاد الجدل حول موقع العلاقات الجزائرية المغربية من إعراب هذا النزاع المرشح ليعرف تصعيدا حربيا يجعل القضية الصحراوية التي تريد الجزائر أن تبقى في إطارها الأممي تطفو لتعكر صفو العلاقات التاريخية والروابط الاجتماعية والثقافية. وإلى جانبه يحتدم النقاش حول علاقة هذا النزاع بخطاب الكراهية المتبادل عبر المواقع الاجتماعية والمنسوب عادة إلى بؤر ذبابية لا تمت بصلة للجزائر ولا للمغرب تشتغل لإذكاء الفتنة خدمة لأجندات بعيدة تماما عن مصالح البلدين والشعبين.
ولا ينطلق الدفاع الشعبي عن الروابط الاجتماعية والتاريخية الجزائرية المغربية من أهميتها وقوتها فحسب، وهي التي تزداد قوة عند الجالية المغاربية في الخارج حيث تعيش أجواء مثالية من الأخوة والتقارب عندما يتاح لأفراد الشعبين الاحتكاك والتبادل الحر البعيد عن ضغوط الحسابات السياسية، بل تجد لها دوافع في دخول دولة الإمارات المتحدة على خط الأزمة بعد أن فتحت قنصلية لها في الأراضي الصحراوية المحتلة من قبل المخزن المغربي. ويسود الاعتقاد على نطاق واسع أن الاعتداءات المغربية على منطقة الكركرات جزء من مخطط صهيوني إماراتي لتوريط المغرب والجزائر في طور جديد من النزاع والتوتر هدفه المتوسط والبعيد محاولة زعزعة استقرار الجزائر التي رفضت علنا ومن منبر الأمم المتحدة مساعي التطبيع مع الكيان الصهيوني. وتتضمن الدعوات إلى المحافظة على الروابط الشعبية البينية دعوة أخرى لقيادات البلدين إلى التحلي بالوعي وعدم الانجرار إلى أي مغامرة تضرب السلام في المنطقة ولن يستفيد منها إلا من يستفيد اليوم في الأزمة في ليبيا ومناطق أخرى من العالم العربي. وتظهر دعوات الالتحام المغاربي مدى المناعة التي صارت تكتسبها الشعوب المغاربية والتجربة التي اكتسبتها من الخذلان الذي آلت إليه “الثورات العربية” لاسيما الدور الذي لعبته الصراعات الجيوسياسية في تجسيد هذا الخذلان.
ولعل الملفت للانتباه أن الوعي الشعبي قد وصل إلى الحد الذي تيسر عليه الفصل بين النزاع الصحراوي مع المغرب وبين العلاقات التاريخية والاجتماعية بين الشعوب المغاربية بما فيها الشعب الصحراوي. وقد يحدث أن تتهم أطراف أطرافا أخرى في الجزائر بخدمة مصالح المخزن المغربي أو أطراف أخرى مغربية بخدمة النظام الجزائري إلا أن مواقف الشعوب تبقى تستظل بظل التاريخ ويوم يتاح للشعوب لتقرر مصير الوحدة المغاربية سنكون أمام أمر آخر.