الأولىالعالم

بين لبنان و “الكيان الصهيوني”؟..ما سر إصرار أمريكا على إنجاز الترسيم البحري

ما سر استفاقة أمريكا “مذعورة” لإنجاز اتفاق لترسيم الحدود البحرية بين لبنان والكيان الصهيوني ، وإصرارها على توقيعه قبل انتهاء ولاية الرئيس اللبناني، وقبل الانتخابات الإسرائيلية نهاية الشهر الجاري؟
هل يكون السبب الخفي، هو اقتراب مرحلة التسوية الداخلية في لبنان أولاً، وهل يؤدي إنجاز الترسيم اللبناني-الإسرائيلي، إلى تشجيع أمريكا على تكرار التجربة لحل النزاعات الحدودية بين تركيا واليونان وقبرص؟ ما يسمح باستثمار فعلي لثروة غاز شرق المتوسط المعطلة بسبب هذه النزاعات.
يكتسب هذا التساؤل مشروعيته من عدم كفاية الأسباب المتداولة مثل الحاجة إلى الغاز الإسرائيلي للتعويض عن صادرات روسيا إلى أوروبا؟ أو الخوف من تهديدات حزب الله بشن حرب على إسرائيل إذا بدأت باستخراج الغاز من حقل كاريش.
فهذه الأسباب على أهميتها، لا تبرر استفاقة أمريكا بعد 12 عاماً من السبات والمماطلة، لتمارس أقصى الضغوط على إسرائيل ولبنان لإنجاز الاتفاق، لتجنب عرقلته إما بسبب نتائج الانتخابات الإسرائيلية وإما بسبب الشغور الرئاسي في لبنان وانفلات غير محسوب للأوضاع الأمنية على الحدود. وليبادر المبعوث الأمريكي آموس هوكستين إلى إجراء التعديلات وتقديم الاقتراحات خلال ساعات بدلاً من أشهر وسنوات كما كان يفعل أسلافه من المبعوثين.
 
ترحيل المسائل الخلافية
 
وكان واضحاً أن المطلوب إنجاز الاتفاق حتى لو تتطلب الأمر تأجيل البت بمسائل خلافية جوهرية مثل النقطة البرية التي ينطلق منها خط الترسيم. فإسرائيل ترفض الاعتراف، لأسباب عسكرية وأمنية كما تدّعي، بالنقطة الفاصلة في رأس الناقورة المعروفة بالنقطة B1، والمحددة بموجب اتفاقية بوليه-نيوكومب الموقعة عام 1923 بين فرنسا وبريطانيا، والتي جرى تثبيتها في اتفاقية الهدنة بين الكيان الصهيوني ولبنان عام 1949.
ولذلك نص الاتفاق على حل “مستغرَب” وهو أن يبدأ الترسيم من نقطة في البحر تبعد عدة كيلومترات عن البر. ما يخلق منطقة متنازعاً عليها يصعب، إذا لم نقل يستحيل، التوصل إلى حل بشأنها. كما تضمن الاتفاق حلاً “مبتكراً” لمشكلة “حقل قانا” المشترك بين البلدين، ينص على وضعه بالكامل تحت السيادة اللبنانية. ولكنه ينص بالمقابل على إلزام شركة توتال دفع تعويضات إلى إسرائيل مقابل حصتها في الحقل.
وعليه يمكن القول إن الاتفاق بقدر ما يشكل إنجازاً يمكّن لبنان من بدء استغلال ثروته النفطية، فإنه يحمل بين أسطر بنوده الملتبسة عوامل تعطيله، ما يجعل حل النزاعات الكامنة والخفية فيه من مسؤولية الراعي والضامن الأمريكي، وهنا “مربط الفرس”.
 
إرهاصات التسوية الداخلية
 
ومن “مربط الفرس” هذا يظهر احتمالان لتفسير الاستفاقة الأمريكية لإنجاز الاتفاق بهذه السرعة القياسية ولفهم فرحة الرئيس بايدن الذي تعمد التعبير عنها باتصال هاتفي مع الرئيس عون، وكذلك لفهم مباركة حزب الله للاتفاق وتأكيد تموضعه مجدداً “خلف الدولة”. وهما:
الاحتمال الأول: ان الاتفاق يشكل مؤشراً على إنضاج طبخة تسوية داخلية تقوم على تغيير وتجميل التركيبة السياسية اللبنانية الحالية.
ومن أبرز ملامح هذه التركيبة، لبننة التوجهات والخيارات السياسية لحزب الله، وانخراطه في التسوية التي تؤمّن حضوراً فاعلاً للطائفة الشيعية في إدارة الدولة وكذلك في الإدارة الاقتصادية والمالية، والنفطية بطبيعة الحال.
على أن يُحيّد السلاح عن الحياة السياسية في سياق استراتيجية دفاعية أو ما يتفتق عنه الذهن من تسميات وآليات. ولتشكل ثروة النفط والغاز الموعودة قاطرة للتسوية ولانخراط حزب الله فيها.
 
و تسوية نزاعات شرق المتوسط
 
الاحتمال الثاني: أن يكون حل مشكلة الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، يأتي في سياق توجه أمريكي-أوروبي لحل النزاعات الحدودية في منطقة شرق المتوسط عموماً وتحديداً بين تركيا واليونان وقبرص. ومع أن هذا التوجه لا تتوافر حتى الآن مؤشرات ومعطيات كافية بشأنه، لكنه يعتبر شرطاً حاسماً لأي حديث جدّي حول إمكانية أن يشكل غاز المتوسط تعويضاَ ولو جزئياً لأوروبا عن الغاز الروسي.
ولنلاحظ استناداً إلى الأرقام وليس الأوهام، أنه لا يوجد في شرق المتوسط كميات كافية للتصدير إلى أوروبا، بغياب تركيا وقبرص واليونان وليبيا. ففي حين تقدر حاجة السوق الأوروبية بنحو 540 مليار متر مكعب سنوياً، فإن إجمالي صادرات منطقة شرق المتوسط بلغت في العام 2021 نحو 13.5 مليار متر مكعب جرى تصديرها من مصر وإسرائيل فقط لأن الإنتاج في قبرص لم يبدأ حتى الآن رغم اكتشاف عدة حقول كبيرة نسبياً.
ولنلاحظ أيضاً أن حل النزاعات بين تركيا وجيرانها، لا يؤدي إلى زيادة كبيرة في الاحتياطيات القابلة للاستخراج والتصدير فحسب، بل يؤدي، وهو الأهم، إلى حل مشكلة التصدير المستعصية، من خلال مد خط للأنابيب من شرق المتوسط إلى ميناء شيحان التركي ليرتبط بشبكة الغاز التركية والأوروبية.
إذ يقتصر التصدير حالياً على تسييل الغاز في محطتي إدكو ودمياط في مصر، بما يحمله ذلك من مشاكل تتعلق بزيادة التكلفة ومحدودية القدرة الاستيعابية للمحطتين. أما خط انابيب “إيستميد” التي يمر عبر اليونان إلى ايطاليا، فسقط بالضربة القاضية الأمريكية بعد إعلان إدارة بايدن مؤخراً سحب دعمها للمشروع.
 
موقف أمريكا من النزاع اليوناني التركي
 
لكن حل النزاعات بين تركيا وجيرانها، يمكن في مقاربة مختلفة لأوروبا وأمريكا لهذه النزاعات وتحديداً في مسألة استعادة تركيا لجزء من مياهها البحرية التي حرمت منها لنحو قرن من الزمن.
وهذه المقاربة لا بد أن تنطلق من دعم أمريكي وموافقة أوروبية، للتوصل إلى اتفاقيات لترسيم الحدود البحرية تتضمن عودة السيادة التركية على بعض جزر بحر إيجة، مثل جزيرة كوستاليريزو (مايس) بالتركية، التي تبعد عن الساحل التركي كيلومترَين فقط. ما يؤدي تلقائياً إلى زيادة المياه البحرية التركية بنحو 100 ألف كيلومتر مربع. إضافة إلى إيجاد حل يرضي تركيا للمسألة القبرصية.
هذا التوجه سيشجع الشركات النفطية وخاصة الأمريكية على المشاركة بقوة في عمليات الاستكشاف والتنقيب في المياه البحرية التركية واليونانية وحتى القبرصية التي ظلت خارج دائرة اهتمامها حتى الآن.
وتجدر في هذا السياق، مراقبة التطورات المتسارعة في الصراع اليوناني التركي، والتي لن يكون آخرها مطالبة الرئيس رجب طيب أردوغان، في خطاب أمام الحكومة، الاتحاد الأوروبي “بدعوة اليونان إلى حوار ثنائي مع تركيا بدلًا من دعم المبادرات غير العادلة وغير القانونية بشأن مشاكل شرق المتوسط وبحر إيجة”. وليعلن في ذات الخطاب استعداد بلاده للمواجهة العسكرية، مجدداً تحذيره لليونان: “سنأتي ذات ليلة على حين غرة”. ولم يكن من قبيل الصدفة مبادرة تركيا الأسبوع الماضي إلى توقيع اتفاقية مع الحكومة الليبية، التي يرأسها عبد الحميد الدبيبة، للتنقيب عن النفط والغاز في الجرف القاري الليبي، تنفيذاً لمذكرة التفاهم الموقعة بين البلدين.
بغض النظر عن الأسباب الكامنة وراء الاستفاقة الأمريكية لإنجاز الترسيم البحري بين لبنان وإسرائيل، فالاتفاق يفتح “كوة” في ركام الانهيار السياسي والاقتصادي والمالي في لبنان، وربما يفتح كوة أكبر في جدار الصراع في شرق المتوسط، ما يفسح المجال لمرحلة من الاستقرار والتسويات بدلاً من الهزائم والانتصارات.

ق.د/وكالات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى