
بقلم احسن خلاص
انتقل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مرة أخرى من الوعيد إلى الفعل والتجسيد عندما راسل المدير العام للمنظمة العالمية للصحة إيذانا ببدء عملية انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من المنظمة التي ستستكمل بعد عام. القرار الذي يأتي أشهرا قليلة قبل انتخابات الرئاسة وفي عز أزمة صحية عالمية حادة بسبب انتشار كوفيد 19 ليس القرار الأول من هذا النوع فقد تم لترامب تجسيد كل ما كان يصبو إليه وهو مراجعة طبيعة انخراط الولايات المتحدة الأمريكية في المنظومة الدولية وعلى رأسها منظمة الأمم المتحدة وفروعها الموزعة أساسا بين نيويورك وجنيف وباريس.
وفي هذا الصدد يمكن أن نحصي لترامب انسحابه من المنظمة الأممية للتربية والعلوم والثقافة اليونيسكو عام 2017 احتجاجا على انضمام فلسطين إلى المنظمة ورفض هذه الأخيرة وجود أي ارتباط لليهود بالمقدسات الدينية بالقدس فضلا عن تفتحها على التنوع الثقافي واهتمامها بالتراث العالمي المادي وغير المادي دون تمييز. كان ينظر لانسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من اليونيسكو على أنه ضربة قاصمة لظهر المنظمة فهو يعني غياب دعم مالي لا يقل عن 22 بالمائة من ميزانية المنظمة الهزيلة أصلا حيث لم تكن في مستوى طموحاتها في ترقية الحوار بين الحضارات والاهتمام بالإنسان في بعده العالمي. وكانت محاولات أمريكا جر مشاركين آخرين للانسحاب على غرار بريطانيا وإسرائيل ودول أخرى بمثابة محاولة إفراغ المنظمة وتمكن من غلبة العالم الفرانكفوني فيها وهو ما تجسد باعتبار اللغة الفرنسية اللغة الرسمية لها.
وليست مغادرة المنظمة الثقافية الوحيدة التي تمت نصرة لإسرائيل فقد تلاها انسحاب آخر، هذه المرة من المجلس الدولي لحقوق الإنسان الذي اتهمته واشنطن صراحة بالتحيز المدمن ضد إسرائيل ووصفت مندوبة الولايات المتحدة الأمريكية في المجلس آنذاك نيكي هيلي المجلس بالمنافق الأناني الذي يستهزئ بحقوق الإنسان. وكان ترامب قبلها قد اتهم المنظمة التي يتواجد مقرها في جنيف بشن حملة ممنهجة ضد إسرائيل وأنها صارت تضم في داخلها دولا لا ترغب فيها أمريكا وتشك في حسن تعاملها مع حقوق الإنسان في إشارة إلى إيران.
وتتوالى تباعا الانسحابات الأمريكية لتطال اتفاقية باريس حول المناخ التي تقتضي التزام جميع الدول على درجات متباينة من المسؤولية بخفض انبعاث الغازات الدفيئة للحفاظ على توازن المناخ المهدد بفعل التسابق على التصنيع والاستغلال المفرط للوقود الأحفوري وبمساعدة تقدر ب 100 مليار دولار للدول الفقيرة لتتمكن من مسايرة الأهداف الجديدة المتمثلة في إيجاد الطاقات النظيفة. وكان هذا الانسحاب تجسيدا لوعد قطعه ترامب على الأمريكيين خلال حملته الانتخابية وقد وفى وأشعر باقي الموقعين وعلى رأسهم باريس التي استضافت مؤتمر كوب 21 عام 2015. واتهم ترامب الاتفاقية ومن وراءها هذه المرة بأنها تستهدف الولايات المتحدة الأمريكية بالدرجة الأولى إذ أنها ستقضي على عالم الأعمال بل هي خطوة مخادعة للولايات المتحدة الأمريكية وخانقة للاقتصاد الأمريكي لحساب أطراف أخرى ستستفيد منها بزعم ترامب. ويعد الانسحاب الأمريكي من اتفاق باريس ضربة موجعة أيضا بالنظر الى حجم مساهمتها المالية المعتبرة في الجهود الدولية لمحاربة التغيرات المناخية ويتوقع خبراء المناخ أن لا يتوقف تأثير الانسحاب الأمريكي عند جانب الدعم المالي ليتعداه إلى ابتعاد كبير للدول الموقعة وعددها 195 دولة عن الأهداف المسطرة في الاتفاقية التي تدخل حيز التنفيذ نهاية هذا العام وهو التاريخ الذي سيتزامن مع بدء الانسحاب الأمريكي رسميا حيث أن الاتفاق سيفقد أحد أكبر الملوثين للبيئة في العالم وهو ما سيزيد من ارتفاع درجة حرارة الكوكب ب0.3 درجة مئوية قبل نهاية القرن الواحد والعشرين بحسب تقدير المختصين في الأرصاد الجوية.
وفي كل مرة تحدث الولايات المتحدة الأمريكية طوارئ في المنتظم الدولي وتضع الصين والدول الأوروبية في حالة تأهب لتعويض الفراغ الذي يتسببه انسحابها وقد لا تنتهي فترة ترامب الرئاسية دون الانعزال التام للولايات المتحدة الأمريكية عن العالم الذي ساهمت في إنشائه بعد الحرب العالمية الثانية. وقد تجد خطوات ترامب التي تضاف إلى سحب بلاده دعمها لوكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين انوروا وغيرها وانسحابه من الاتفاق النووي مع إيران ضمن شرعية تاريخية تعود إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى ضمن ما يسمى مبدأ مونرو الذي يتأسس على غياب أمريكا عن المحفل الدولي واعتمادها سياسة العزلة التي ورثها شعار ترامب أمريكا أولا.
نعود إلى آخر انسحاب لها وهو من أخطر الانسحابات إذ تمثل مساهمة الولايات المتحدة الأمريكية 15 بالمائة من ميزانية منظمة الصحة العالمية وهو ما سيخلف هزة عنيفة في ظل أزمة وبائية وخانقة ورهيبة لم تفلح الجهود العالمية لحد الآن في التصدي لها. وإن كان الانسحاب الأمريكي غير ذي تأثير مباشر على مكافحة فيروس كورونا إلا أنه سيخلق ارتباكا في المنظمة فمنذ البداية كانت الولايات المتحدة الأمريكية توجه مساعداتها للمنظمة نحو مكافحة بعض الأمراض والأوبئة الخاصة بمنطقتي إفريقيا والشرق الأوسط. وكعادته، يبدأ ترامب بالوعيد قبل أن ينتقل إلى الفعل ثم يبرر موقفه بمهاجمة الشركاء باعتبارهم متآمرين ضد أمريكا ومصالحها وحلفائها وعلى رأسهم إسرائيل. وتأتي الصين على رأس المتهمين لاسيما ونحن نعيش حربا عالمية ثالثة غير تقليدية مجالها الاستثمارات والتبادلات التجارية بين الولايات المتحدة الأمريكية من جهة والصين وأوروبا من جهة أخرى. وهو ما يفسر اتهام ترامب للمنظمة بأنها أداة طيعة في يد الصين لضرب المصالح الأمريكية ولا يستبعد أن تلتحق بأمريكا بلدان أخرى مثل البرازيل التي لوحت بذلك وأن تهجر المنظمة التي ظلت ملاذ الضعفاء في العالم على قلة حيلتها.
تعليق واحد