
بقلم: صالح عوض
يقال في الأثر أن سليمان عليه السلام كان يشرف على قيام الجن بعمل متواصل وكانوا له طوعا ولا يعصي منهم له أحد أمرا.. فمات وهو متكئا على عصا له ولكن الجن استمروا في الخدمة بلا تردد حتى نخر السوس عصا سليمان فسقط وقد كان ميتا منذ زمن ففر الجن!!.. المشهد يتكرر اليوم مع دول عديدة في العالم فبمجرد حدوث الفوضى في الولايات المتحدة ثم نزول الملايين إلى الشوارع بين فريقين عظيمين بدأ المتربصون في العالم يتمردون في محاولة لرسم الخرائط من جديد.. في الصين و المشرق الإسلامي والمغرب العربي وخليج النفط وباب المندب والصين.. حركة دءوبة قبل أن تعود العصا لمهمتها!!
التحركات الدولية:
لقد كانت جائحة كورونا وضغطها المعنوي والاقتصادي على الدول الرأسمالية الكبرى دورا في تحريك المؤجل في سياسات الدول صاحبة المشاريع، وجاءت العملية السياسية الامريكية في الانتخابات وتعقيداتها والفوضى المرافقة لها على مستوى صانع القرار الامريكي لتمنح الفرصة بشكل أكثر يسرا لتحرك كبير في أكثر من مكان.. و من أبرز الأحداث التي جاءت في ظل الفوضى الأمريكية قيام الصين في 15 نوفمبر الجاري و14 دولة في جنوب شرق آسيا والمحيط الهندي والصين واستراليا ونيوزيلاندا واليابان وكوريا الجنوبية في انشاء اكبر تكتل اقتصادي تجاري حر عالمي يشمل ثلث اقتصاد العالم حيث تلغي هذه الشراكة 90 بالمائة من الجمارك على التجارة البينية بينها.. وهي خطوة عملاقة تقوم بها الصين اذ لاول مرة تدخل شراكاته متعددة الوجهات مما يعزز انتشارها الاقتصادي في المنطقة ويمهد الطريق لدخول الصين على اتفاقيات التجارة الحرة العالمية لاحقا بصيغة مختلفة.
القفزة الصينية :
وهكذا تكون الصين انتقلت نقلة نوعية في طريق الحرير الذي كادت تحركات الهند والإمارات بدفع من الرئيس الأمريكي الى إفشاله في القسم العربي المار من باب المندب و في محاولة إحباط موانئ باكستان التي انخرطت في سوق الحرير، فلقد منح ترمب ابن زايد دورا اقليميا كبيرا وغطاه في كل جرائمه في اليمن و الإقليم مقابل قيامه بتدمير جزئي لطريق الحرير كما اعطى المباركة لرئيس وزراء الهند بقيامه بمذابح عنصرية للمسلمين كعربون لقيام الاخير بدور التخريب على طريق الحرير.
تكون الصين الان فرضت واقعا اقتصاديا عالميا خطيرا على الاقتصاد العالمي رغم ان الرئيس الامريكي حذر كل من يقترب من طريق الحرير بالعقوبات وسير في ذلك وزراءه ومستشاريه في اوربا واسيا الا ان هذه الفرصة الثمينة لتحرك الصين وعندما تنتهي الجولة الانتخابية بسلام تكون الصين قد انطلقت وشركاؤها في مشروعهم العملاق.
النفوذ التركي:
وفي 15 نوفمبر الجاري كانت السيارة المكشوفة تجوب مدينة مرعش القبرصية المغلقة منذ 46 عاما يطل منها الرئيس التركي مع رئيس جمهورية قبرص التركية يؤكد على ضرورة التنمية واسترداد الحقوق في بحر قبرص ومجالها الحيوي مؤكدا ان تركيا لن تسمح باستمرار الظلم الواقع على شعب قبرص التركية ومؤكدا انه بعد اليوم سيضطر ان يسير بنفسه لاسترداد الحقوق ولا ينتظر المجتمع الدولي الذي ظلم شعب قبرص التركي.. ومن المعروف ان الموضوع هنا لا يقف عند جغرافية قبرص التركية بل مجالها الحيوي في البحر و ما يحوي من ترسيم للحدود البحرية واكتشاف حقول النفط والغاز.. تجيء هذه التصريحات بعد ان حقق تركيا خلال الأسابيع الأخيرة نصرا استراتيجيا في أذربيجان بعد ان تمكنت القوات الأذرية من استرداد أرضها التي سبق لرومانيا احتلالها بتأييد من الدول الأوربية وفي العملية ظهر دور تركيا الاستراتيجي الذي استطاع ان يحيد الروس عن التدخل ومن ثم التشارك مع روسيا في ضمان عملية الانسحاب الأرميني من إقليم قره باغ وعودته لأهله الأصليين الأذريين..
لقد استطاعت تركيا إلحاق هزيمة سياسية بالغة بفرنسا في أرمينيا بعد أن هزمتها في الملف الليبي وأخرجتها منه فلقد أسرعت فرنسا إلى الإعلان عن دعم أرمينيا في مواجهة أذربيجان وأرادت تحويل القضية الى صراع ديني او حضاري بعد أن استنفرت بقوتها في موضوع بحر ايجا والسواحل المستحقة لتركيا في نزاعها مع اليونان، ولقد واصلت تركيا الاستكشافات رغم التهديدات الأوربية بفرض عقوبات عليها واستمرت السفن التركية القيام بمهماتها في الاستكشاف دون التفات لتهديدات فرنسا والاتحاد الأوربي الا انه ومن خلال مناورات تمثلت في سحب وإرسال السفن تمكن من فرض أمر واقع حتى الآن كما ان إدارته الصراع من قبل في منطقة أذربيجان استطاعت أن تجنب المنطقة صراعا متشعبا وذلك من خلال تفاهمات عميقة بين الروس والأتراك امتدادا لتفاهمات تركية روسية في سورية فلقد أدرك الروس والترك ان هناك مؤامرة فرنسية لجرهما الى حرب استنزافية في الإقليم في قضية فصل فيها القانون الدولي منذ عشرات السنين..
وبهذا تكون تركيا حققت جملة انتصارات في الإقليم تمنحها مجالا حيويا وقدرة على التحرك في الكومونولث العثماني بالإضافة لحضورها في الملف الليبي بعد ان أعادت التوازن الميداني للخصوم المتقاتلين وفك الحصار عن طرابلس ودحر قوات حفتر
القضية اليمنية:
يضغط الحوثيون بقوة على السعودية لإبراز قضيتهم في أعلى مستوياتها فيما يحاول السعوديون الخروج من الورطة لاسيما وان القادم للبيت الأبيض يرفض وجودهم في اليمن ويدين التدخل الإماراتي السعودي في اليمن ويطالب بإنهاء الأزمة بعيدا عن التدخل العسكري..
ويتحرك الحوثيون في تصعيدهم للضغط التكتيكي على صاحب القرار السعودي ولكن الخطورة هنا تمكن في ان مزيدا من الضغط على بلد لم يكون أصلا قادرا على المعالجات الأمنية قد يعرضه الى هزيمة وانهيار تودي به الى تجزئة يتم التخطيط لها بدقة في البنتاغون ومراكز صنع القرار الأمريكي، لاسيما وان ملفات عديدة على مكتب القادم للبيت الأبيض بخصوص المملكة من شانها ملاحقة كبار المسئولين بمن فيهم ولي العهد في قضايا حقوق الإنسان وقضية خاشقجي وقضية البرجين..
الضغط الحوثي حساس وخطير في هذه المرحلة ولا اعرف ان كان الحوثي يدرك خطورة ما يفعله الآن بالذات ضد المملكة.. لان ضعف المملكة وملاحقة حكامها في ظل غياب بديل سياسي حقيقي سيعرض الجزيرة العربية الى مزيد من التمزق كما حصل في العراق، وهذا لايعني ابدا التنقيص من خطورة النظام السعودي وسوئه انما دوما نحو مدعوون للتفكير وماذا بعد.
السعودية ومصر:
يعاني النظامان من ثقل ملفهما بخصوص حقوق الإنسان ففي مصر عشرات الآلاف من النخب المصرية أحيلوا على السجون في أسوأ الظروف المهينة منذ أكثر من سبع سنوات بلا محاكمات بعد انقلاب عسكري على انتخابات ديمقراطية وانتخاب أول رئيس مدني ثم السير في عملية سياسية شكلية يتم فيها القضاء على المعارضة وضبط عملية الانتخابات حسب رغبة الحاكم، الأمر الذي عرض البلد الى تدهور اجتماعي واقتصادي بالغين.
واما النظام السعودي مع ولي العهد فلقد شط بعيدا في قمع الحريات واعتقال آلاف العلماء والمثقفين واعتقال النساء بتهم واهية القصد منها تكميم الأفواه وكانت مأساة اغتيال خاشقجي بتلك الطريقة قضية أمريكية غطى عليها الرئيس ترمب ودافع عن ابن سلمان وابن زايد على اعتبار أنهما من يمكن أن ينقذا اقتصاده من الانهيار ويكفلا له تنفيذ التخريب المستمر في المنطقة والتصدي لحركات المقاومة والدول المستقرة وايران.
في هذه الأيام شديد القلق يقف النظام المصري والنظام السعودي على باب مرحلة جديدة مع الرئيس بايدن الذي لا يقبل بالتعامل السلس مع الديكتاتور السيسي حسب وصف ترمب له ولا موافقة بن سلمان في ملفته ولا تغطية لجرائمه.. من هنا أسرع النظامان في الإفراج عن مئات المسجونين والإعلان عن قرب الإفراج عن النساء المعتقلات في السعودية.
هناك محاولة سريعة لتقديم صورة للوافد الجديد على البيت الأبيض وهم يدركون ان بايدن أكثر صعوبة في التعامل من ترمب الذي كان بسهولة يمكن إجراء تغيير في موقفه.. ولن تكون الفرصة مواتية لتقديم الصورة الحسنة المقبولة إلا بإجراءات واسعة كبيرة وتظل المحاكم الأمريكية تلاحق ابن سلمان والسيسي في قضايا تمس حقوق الإنسان.
وبلا شك ستدفع السعودية ومصر ثمنا باهضا في العلاقة مع الولايات المتحدة في حين سيحدث انفراج كبير في العلاقة بين إيران والولايات المتحدة في ظل الديمقراطيين ويعود الاتفاق النووي مع بعض الإضافات الى الحياة، ولقد وجه الديمقراطيون رسائلا واضحة خلال أربع سنوات لمصر والسعودية مفادها ان سياسة البلدين مرفوضة من قبل الديمقراطيين في عدة ملفات.. ومن غير الواضح أن كان بايدن سيسير على خطى رئيسه أوباما في إنعاش الربيع العربي في المشرق العربي وتدعيم التنظيمات الشعبية والتركيز على الديمقراطية؟
المغرب والصحراء الغربية:
عانى المغرب من موقف ترمب في الفترة السابقة ولقد كانت هيلاري كلينتون تتبنى إلى حد كبير وجهة نظر المغرب الذي دفع لها في حملتها الانتخابية ملايين الدولارات قبل أربع سنوات.. ولقد راهن المغرب عليها كثيرا وقد مرت المغرب بظروف عصيبة ولذا ظل في منأى عن الإدارة الجديدة .. وازداد القلق في الرباط عندما عين جون بولتون مستشارا للأمن القومي حيث حاول إخراج قضية الصحراء من الجمود.
حاولت الإدارة الأمريكية تحريك دور المغرب في التطبيع مع الكيان الصهيوني مقابل الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء فرفض بولتون ذلك بشدة قبيل تنحيته من منصبه بسبب عدة ملفات اتسم موقفه فيها بالشدة.
عاد المغرب منذ فترة الى فلك الإمارات وإجراء لقاءات مع الوفد الصهيوني في نيويورك بإشراف إماراتي لإحداث المقايضة: الصحراء مقابل التطبيع الكامل و بإعطاء الانطباع بان المغرب يسير في عملية التطبيع رغم صعوبة ان يخرج ذلك الى العلن.. وبمجرد ما تم الإحساس بان بايدن هو القادم ومن المعروف ميل الديمقراطيين للمغرب وعدم مصادمتهم مع أي من الطرفين وفي ظل انشغال ترمب وجماعته في المعركة الانتخابية تم التسريع بخطوات ميدانية فكانت قضية الكركرات وهي مسألة حساسة في جملة القضية الصحراوية وتدل على كيفية تعامل المغرب في المرحلة القادمة مع ملف الصحراء.
تونس وقطر:
بعد أن جرب الرئيس التونسي الخروج من المأزق الاقتصادي بالتوجه مرة الى فرنسا ومرة الى الإمارات وعمل على تقريب رجال فرنسا واللائكيين وإجرائه مفاوضات عويصة مع فرنسا والبنك الدولي للاستدانة قدم مقابلها جزءا من مواقفه المبدأية وجد ان الطريق أمامه مسدود ولقد طلب منه رسميا من قبل الإماراتيين بالتخلص من العملية الديمقراطية وإخراج الإسلاميين من المشهد السياسي ولقد حاول ان يحل البرلمان ا وان يفرض رئيس وزراء من تلقاء نفسه لكي تكون رجة فعل الإسلاميين الخروج من المشهد..
لم ينل قيس سعيد مقابل جهوده تخفيف شعاراته البراقة بخصوص فلسطين والتي اصطدمت بأول موقف إزاء دول الردة العربية الإمارات والبحرين فلم يستطع إدانة التطبيع او الحديث عنه بمثل ما كان يقول في حملته الانتخابية: إن التطبيع خيانة عظمى.. لم تجد كل محاولاته في تحقيق استثمارات بريئة او قروض معقولة..
وعندما شعر بان عهد ترمب وصفقة القرن وكوشنير وابن زايد وابن سلمان ذهبت حظوتهم بمجيء رئيس أمريكي ينظر إليهم شذرا وله سياسته في المنطقة وهي انسجاما مع خط الديمقراطيين لاسيما رئيسه السابق أوباما بمعنى ان قطر ستكون المحطة الأمريكية القادمة لذا هرع قيس بن سعيد الى الدوحة معقل الأخوان المسلمين وحليفة تركيا فكانت القروض والهبات والعلاقات والتفاهمات.
الأمريكان ونحن!!:
لقد أصبحت ملفات المنطقة الشغل الشاغل لوزير الخارجية الأمريكي الذي يبدو أحيانا كثيرة أن لا قضية لها خارج قضايانا.. ولكنه سيفاجأ الآن بعد مرحلة ترمب وفوضاه التي أحدثها في جملة الملفات التي أصبحت في حالة بعثرة وفوضى من الصعب وضعها على سكة.. ومن الواضح ان المتربصين من أصحاب المشاريع في المنطقة سيواصلوا استغلالهم الفرصة لفرض وقائع على الأرض والتحاور فيما بعد مع الأمريكان على أرضية واقع جديد والأمريكان يحترمون ذلك لان لا قيمة لديهم لحق أو عرف إنما الوقائع.
وسنظل هكذا عبارة عن ملفات في حقيبة وزير الخارجية الأمريكية يديرها بما يتساوق مع رسالته العالمية وبما يعزز تسيده على العالم.. ولن يكون من السهل التحرر من التبعية والانقياد له الا بتوفر إرادة للوحدة ووعي بأهميتها وإيمان بحدوثها على الأقل تشكيل سوق عربي مشترك أو شراكة مؤسسات كبيرة بين بلداننا.. حينذاك نكون وضعنا الحجر الأساس لاستقلالنا ونهضتنا وحينذاك فقط نصنع الوحدة التي تحمي انتاجنا وأرضنا وتاريخنا.. إن الله غالب على أمره.