أقلامالأولى

ترمب ويلتسن.. هل هي النهاية السوفيتية لأمريكا

بقلم: صالح عوض

نجح بايدن في الانتخابات حسب النتائج المعلنة حتى الآن، ولكن هل ينجح في الوصول الى البيت الأبيض؟ اشتعلت في الولايات المتحدة المعركة بين اليمينية البيضاء والليبرالية المسيحية في ظل شرخ اجتماعي واسع فهل نحن أمام تحدي انهيار الإمبراطورية.. لقد سقط الاتحاد السوفيتي في 1989-1990 في لحظة ماجنة لم يتوقعها أحد.. دولة عظمى تمتلك ترسانة عسكرية نووية وكل أنواع الصناعة وتشمل أكبر خريطة جغرافية في العالم تسقط فجأة كأنما كانت هيكلا كرتونيا.. 

في تلك اللحظات كان الرئيس السوفيتي يترنح من السكر  وكان الاتحاد السوفيتي يترنح تماما، كما يفعل ترمب بدون سكر فهو يستعرض القوة والانقسام بتهريج واستخفاف.. وهاهو يرفض نتائج الانتخابات ويصر على عدم انتقال السلطة إلى خصمه الانتخابي.. 

تطورات خطيرة:

جاءت الانتخابات الأمريكية الحالية بعد عهدة رئاسية تمكن خلالها الرئيس ترمب من رسم معالم سياسة جديدة: خارجيا تجاه الحلفاء والأصدقاء، وداخليا نحو طبقات الشعب.. وهي سياسة مختلفة عن سياسة من سبقه حتى عن سياسة الرؤساء الجمهوريين السابقين، ولقد بدا واضحا أن عنصرية الرجل الأبيض وجدت سبيلها في الشارع الأمريكي باستهداف متكرر للأمريكان الأفارقة، ولم يتردد الرئيس الأمريكي في إذكاء العنصرية تجاه المواطنين من أصول أمريكا اللاتينية لاسيما المكسيك كما انتشرت المليشيات العسكرية اليمينية إبان الإنتخابات في مدن أمريكية رئيسية وقد تم بيع ملايين قطع السلاح في العام الأخير.. 

كانت تكلفة حروب الإدارات الأمريكية السابقة على العراق وأفغانستان أحد أهم أسباب التصدع في المجتمع الأمريكي فلقد أرهقت الموازنة الأمريكية وألحقت بها خسائر فادحة ضخمت من المديونية التي تجاوزت العشرين تريليون دولار بالإضافة إلى إلقاء عشرات آلاف الجنود المرضى نفسيا وماديا الذين عادوا في المجتمع بعد هزيمتها في أفغانستان والعراق..

لقد أغرقت السياسة الأمريكية في التخبط وإهدار الأموال على مدار سبعين عاما من محاولات التسيد والتدخل في معارك وفي انتشار مئات القواعد العسكرية الأمريكية في العالم وما تكلفه من إمكانات مادية باهضة.. فجاء ترمب برؤية مفادها تخليص الخزينة الأمريكية من الأعباء الملقاة عليها فانسحب من اتفاقيات دولية والتزامات نحو منظمات دولية وأعاد صياغة طبيعة العلاقة مع الحلفاء في الناتو وطبيعة العلاقة مع الدول العربية الخليجية.

في هذه المعركة الكبيرة وقفت مؤسسات أمريكية تاريخية ضد سياسات ترمب لأنها حسب رأيهم تحد من تسيد أمريكا على العالم فكانت المؤسسات الإعلامية والفنية وهليوود وجهاز الاستخبارات الأمريكية أي الدولة الليبرالية المسيحية في سباق مع الزمن لإثبات تورطه في قضايا فساد ولم يتركوه يوما بلا معركة وفي النهاية كانت الحملة الديمقراطية من خلال الإعلام ضده في موقفه الخاص من كورونا، إلا أن إيمانه بتعديل وجهة أمريكا جعله يتجه إلى خطاب شعبوي انقسامي داعيا إلى نزعة شوفينية أمريكية من نوع جديد..  

من الواضح أن ترمب لا يخطر بباله أن يسلم الحكم للديمقراطيين على الأقل في هذه الدورة وقد سبق له أن صرح بذلك قبيل إجراءات الانتخابات لأنه يتجه لاستكمال خطته الداخلية والخارجية في عهدة رئاسية ثانية ولقد تم الشحن المعنوي للمجموعات اليمينية المتطرفة بما فيها الإنجيليين لهذا الغرض.

جاءت نتائج الانتخابات متوقعة من قبل الرئيس الأمريكي الذي يشعر أنه يخوض المعركة في أسوأ الظروف لاسيما وتكالب وسائل الإعلام ضده بما فيها وسائل الإعلام الأوربية فاعتبر انتصار بايدن انتصارا إعلاميا.. ومن هنا بدأ التراشق بين الجمهوريين والديمقراطيين في الكونجرس ومجلس الشيوخ وخارجهما وقد وصل الذروة.. فرئيس كتلة الجمهوريين ورئيس الديمقراطيين يتمترسون في موقفين متناقضين ففي حين يقول الجمهوري ان فرز الانتخابات مستمرة بشكل يدوي في بعض الولايات وان المحاكم ستتولى أمرها وينبغي عدم القول بان بايدن رئيسا فالمسألة لم تحسم بعد وتؤكد الناطقة الرسمية للبيت الأبيض أن ترمب يتطلع لعهدة رئاسية جديدة متهمة الديمقراطيين بممارسة الضغوط والإبتزازات في العملية الانتخابية  فيما يحمل الديمقراطي الجمهوريين المسئولية عن التلاعب حسب وصفه ومطالبا بتقديم التقارير الأمنية الخاصة للرئيس المنتخب والتهيئة لانتقال السلطة فيما يرفض الرئيس ترمب أيا من هذا.

لم يسلم الجمهوريون بنتائج الانتخابات الأولية و هم يشككون فيها الأمر الذي يجعل سلمية العملية الانتخابية احتمالا ضعيفا في ظل الحشد على الأرض لاسيما من قبل الجمهوريين المنتشرين بسلاحهم في الشوارع..إن ما يمكن التأكد منه على اعتبار انه أهم تحول في المجتمع الأمريكي هو التوجه نحو الداخل و بروز انشطار اجتماعي بين الأبيض والملون. مدعوما من البنوك وشركات العقار و شركات النفط العملاقة ومجمع السلاح الحربي. تبدو الولاياتُ المتّحدةُ الأمريكيّةُ، وكأنّها تكرر المأزق السوفيتي وقد يكون المشهد أكثر دموية..

البعد الديني:

يجمع المتابعون لتطورات الحياة الاجتماعية في الولايات المتحدة الأمريكية أن البعد الديني من أهم العوامل التي تشكل حالة التمايز في المجتمع وهي التي تقف مرجحة بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي فمن الصعوبة بمكان ان نفهم الدولة العميقة في واشنطن في هذه الفترة من الزمن دون الأخذ بالحسبان دور الدين بقوته الأصولية وتأثيره في رسم العلاقات والسياسات حيث ان أمريكا تعتبر أكبر تجمع مسيحي في العالم وفي السياق نفسه تشير الأرقام الى أن 50 بالمائة يتجهون إلى الكنيسة وأن 95 بالمائة من الأمريكان يؤمنون بوجود الله عكس المجتمعات الأوربية التي ينتشر فيها الإلحاد بنسب كبيرة ففي أمريكا بيت عبادة لكل 865 شخص، وفيها يحصل المبشرون على أكبر دعم مادي وتنتشر وسائل الإعلام للتبشير المسيحي البروتستانتي في الولايات المتحدة حيث يوجد 200 قناة تلفزيون تبشيرية.. ومن الملاحظ أنه في أمريكا أصبح تلقائيا اختلاط الخطاب الديني بالسياسي.. وفي أمريكا ملايين الأشخاص الذين يعتبرون أنفسهم على تواصل مع السيد المسيح مباشرة لدرجة أن بوش الإبن قال في خطاب متلفز: أن الرب أبلغه عن خريطة عمل في المشرق العربي وفلسطين.. ولقد أصبحت الكتب التي تتحدث عن المسيح والخلاص هي أكثر الكتب انتشارا في الولايات المتحدة الأمريكية و قد كان واضحا أن المتدينين هم من دعموا ريقان وبوش وصولا الى ترمب الذي لم يتردد في رفع الإنجيل بعد مقتل الرجل الأسود بمحاذاة كنيسة تاريخية بالقرب من البيت الأبيض.. هذا وكان الرئيس ترمب قد عين العديد من الأصوليين في مواقع حساسة في إدارته على رأسهم وزير خارجيته الأمر الذي جعل المحافظين يعتبرونه المنقذ.

منذ مجيء كارتر الى الحكم أخذ تأثير تيار المسيحية الأصولية الأمريكية في تزايد حضوره في السياسة الخارجية الأمريكية لاسيما فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية وبعد تطورات التكنولوجيا وأدوات الاتصال ولعوامل أخرى انسحبت المسيحية التقليدية مخلية المكان للمسيحية الأصولية متبنية الفكرة الصهيونية تماما ببناء دولة يهودية على أرض فلسطين وان يكون ذلك بوصلة العمل الرسمي الخارجي وكذلك ليكون للدولة الأمريكية موقفا منسجما مع توجهاتها الدينية في التصدي للإجهاض والمثليين، كما رأوا أن سياسة الديمقراطيين في ملفات الهجرة وحقوق الأسرة والنساء مسألة مدمرة للموقع المميز للأمريكيين البيض البروتستانت.. ومنذ السبعينات زحفت الكنائس لتأخذ موقعها في صناعة القرار في أمريكا.

فالمرجعية الدينية حاضرة كذلك لدى الديمقراطيين كما كان مع كارتر الرئيس الأسبق.. ويذهب الكاتب الأمريكي “والتر سيل” في كتابه “الدين في السياسة الخارجية الأمريكية”  الى القول: ان الشعب الأمريكي متدين منذ موجات الهجرة حيث اعتبر ان الهجرة إنما هي الى أرض الميعاد واعتبروا أنفسهم شعب الله المختار لبناء أورشليم.. فالأمريكان ينظرون ان بلدهم تمثل حصون المسيحية وأن لهم رسالة سماوية يحملونها إلى كل شعوب العالم. ونرى أن هذه العقيدة تقوم على: تراث متشدد أصولي وتراث أخلاقي يعرف بالليبرالية المسيحية وتراث افنجيليكي و لذلك فالمسيحية البروتستانتية الأصولية والليبرالية المسيحية تمثلان أهم عناصر الهوية الأمريكية.

انقلاب عسكري:

يزداد التخوف في أوساط عديدة في الولايات المتحدة من أن يقدم الرئيس ترمب على أعمال دراماتيكية في السبعين يوما القادمة بحيث قد عين شخصيات بمواصفات معينة في مواقع حساسة بمراسيم وقرارات.. فهل يتجه الى إخراج قواته من أفغانستان ويتجه لضربات مواقع أخرى في إيران لتدمير مفاعلاتها النووية بشكل مباشر او بتوجيه الكيان الصهيوني لفعل ذلك؟ 

 ماذا سيفعل على الصعيد الخارجي ان تمكن من السيطرة وبقوة على الأوضاع؟ هل سيتجه الى مزيد من ضبط الحريات لاسيما لوسائل الإعلام المعادية له وهل يتجه في هذه الفترة الانتقالية إلى إدخال أمريكا في حرب فيلغي حدوث الانتخابات ثم بشكل خاص نسأل: هل يضربون المفاعل النووية الإيرانية من قبل إسرائيل التي لا تحتمل أن يكون هناك مفاعلات نووية  في دول لها معها ساحة مواجهة عسكرية مباشرة او بالوكالة فلقد سبق ان دمرت مفاعل تموز بالعراق ومفاعل دير الزور بسورية.. فكما أعلن الرئيس الأسبق لوكالة الاستخبارات السابق من خلال مقابلة مع ال”سي.ان.ان” قال: “تغييرات قادة الجيش أمر مزعج تماما وانني قلقل جدا ان يفعل خلال الفترة الانتقالية”.. فهل ستكون تغييرات قيادة الأمن والجيش فقط لغرض خارجي ام انه سيستقوي بالجيش في فرض أمر واقع في الولايات المتحدة بما يشبه الانقلاب العسكري.

إعادة تشكل:

بعد ان انهارت الكتلة الشرقية برزت العديد من الدول بتوجهات جديدة وانعتاق لتكوين نفسها  بنفسها او الدخول في أحلاف جديدة والآن نحن أمام الكتلة الرأسمالية الأضخم في العالم الولايات المتحدة الأمريكية وكيف تكون مواجهتها المخاطر الداخلية التي تستهدف وحدتها ومصيرها.. فالمجتمع الأمريكي الذي ينقسم أيديولوجيا وسياسيا والى حد كبير اقتصاديا يجد نفسه الان وفي ظل ظروفه المالية البائسة مدعو الى إعادة النظر في طبيعة الدولة ولن يسلم أي طرف للآخر بسهولة الأمر الذي يعني ان ترمب رغم انه يمثل قوة سياسية اجتماعية فائقة الا انه يرتكب حماقات في التعامل مع الكل الأمريكي وفي الخارج وهو جاهز تماما للتعديل في موقع كان فهل تكون الحرب سبيله ام الضغوط فقط، 

دونالد ترمب الأمريكيّ هو بوريس يلتسن السّوفياتيّ، فهما من صنعا واقع التمزق الداخلي والانسحاب من الخارج ليقع البلد تحت مزيد من ضغط الديون وارتباك الدولة وهكذا لتفكيك البلد ببنائه المتصدع كان أحدهما سكيرا لا يملك إلا الهجوم على الآخرين والآخر مهرجا يتحرك في السياسة كالبهلوان يظن ان تجارة العقارات تستطيع منحه فلسفة للحكم..

في عام 1987 نشر المستقبليّ الأمريكيّ آليفين توفلر ثلاثةُ كتبٍ هي الأشهرُ بين كتبه (الموجةُ الثالثةُ Third wave، وخرائطُ العالمِ World maps، وتوزيع/ تشظّي السُّلطة Power distribution)، ففي الكتاب الأوّل تنبأَ توفلر بانهيارِ الاتّحادِ السوفياتيّ في غضونِ بضعِ سنوات، وهذا ما تحقّقَ بشكلٍ مُذهل، فبعدَ بضعِ سنواتٍ بالفعلِ من صدورِ الكتابِ سقطَ العملاقُ الكرتوني.. وهناك العديد من الكتاب الذين تنبّأوا بسقوط الإمبراطورية الأمريكية كما يتوقع المفكر الأمريكي إيمانويل تود في كتابه “سقوط الإمبراطورية الأمريكية” والذي نشرته جامعة كولومبيا سنة2001 يتوقع فيه سقوط الإمبراطورية الأمريكية في آجال قريبة..

 كان سقوط الكتلة الاشتراكية والحلفاء والأصدقاء دفعة واحدة فيما كانَ غورباتشوف يقومُ بتفكيكِ الاتّحادِ السوفياتيّ لإعادة هيكلته كما نظر،.. في حين كانت تقوم أمريكا بتدبيرُ (الثورةِ) ضدّ شاوشيسكو، وقررت تفتيت يوغسلافيا.. كانت أمريكا قد وضعت خطتها لتغيير معالم الدول في الكتلة الاشتراكية، واستخدمت الدين والكنيسة والفاتيكان وأدواتها في أكثر من مكان.

إن الاستقطاب الحاد في المجتمع الأمريكي بين الجمهوريين والديمقراطيين يعني ان الأصولية البروتستانتية للبيض تقف ضد الليبرالية الخليطة من اللاجئين والملونين والبيض الليبراليين.. وتبدو الدعوة العرقية المجبولة بالأصولية الدينية تجد نفسها اليوم في موقع ينبغي عدم التفريط فيه وهكذا يرون لا شرعية لانتخابات تأتي بالديمقراطيين وقد أعدوا للأمر عدته فهاهم يتسابقون لشراء السلاح ولعل استعراضاتهم في الميادين العامة مدعاة لقلق حقيقي في تفكك الاتحاد الأمريكي لدول او ولايات.. وهناك صفارات إنذار يطلق صفيرها كبار الأمنيين والمفكرين والسياسيين بأن شوارع أمريكا ستشهد حمامات دم قبل أن تنتهي إلى دول مستقلة.

 يمكن و لا يمكن:

من المستبعد ان يصدّر ترمب مشكلاته مع اليساريين والليبراليين الديمقراطيين كما يسميهم الى الخارج بشن حرب ضد إيران او اشتباك مسلح في بحر الصين مع الأسطول الصيني فهو قد يكتفي بتشديد الحصار على إيران والعقوبات المتلاحقة، وقد يكتفي ان يعطل مشروع طريق الحرير بتحريك القوى المضادة في عديد من المناطق لضربه وعدم ترك الفرصة له ان ينجح.. إذن لماذا هذا الاهتمام بالمؤسسة العسكرية في هذه المرحلة؟ ان له تفسير واحد التوجه للحسم في الوضع السياسي داخليا من خلال قوة السلاح بعد ان فقد الوسائل الإعلامية.. إن أي حركة في مثل هذا الجو المضطرب ستدفع بالأوضاع الى الانفلات عن سياقها وتقود الولايات الى التفكك وانهيار الإمبراطورية الأمريكية والله غالب على أمره. 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى