مازن النجار
تمتلك كل الدول الطبيعية جيوشاً أما “إسرائيل فهي جيش يمتلك دولة”! يعني باختصار هي تشكيل إجرامي متعدد المستويات من عصابات السطو المسلح.
ترافق الصعود الأوروبي في العالم مع تحولات وتفاعلات تاريخية ودينية وفكرية وسياسية، أبرزها: النهضة الإيطالية، الإصلاح الديني البروتستانتي، معاهدة ويستفاليا، وانطلاق موجة الاستعمار والاستيطان والإبادة.
وواكب ذلك رؤية معرفية إمبريالية تنكر التكريم الإلهي للإنسان واستخلافَه في الأرض، ومركزيته في العالم، مُحصّناً بالشريعة الإلهية من الظلم والقهر والإبادة، وشرعنة اجتياح العالم واستعماره الذي غدا جوهر النظام الدولي تحت هيمنة الغرب.
فاتخذت الإمبرياليات الأوروبية من أكذوبة “الاكتشافات الجغرافية”، ومبدأ الحرب (العادلة)، وعبء الرجل الأبيض وتفوقه المزعوم، تكئة لشرعنة الغزو والاستعمار ومبرراً لاحتلال قارات العالم وإبادة شعوبها، وإقامة كيانات استيطانية أوروبية فيما وراء البحار، وتقاسُم قارات العالم.
وتم الاختطاف والشحن لعشرات الملايين من الأفارقة من غربي أفريقيا في سفن لا تليق بالبهائم، واستُعبِدوا في مزارع التبغ والقطن وقصب السكر في الجنوب الأميركي وجزر البحر الكاريبي، ومثلهم من الهند وجزر الهند الشرقية إلى جنوب أفريقيا وإقليم الإنديز في أميركا الجنوبية وجزر الكاريبي، وتسخير الملايين من سكان أميركا الوسطى والجنوبية الأصليين، حتى الموت بمناجم الذهب والفضة، وسُرقت كنوز ممالك الآزتيك والمايا، ونزحت كل هذه الثروات إلى حواضر المتروبوليتان الأوروبي.
”إسرائيل الجديدة”
استعار الاستيطان الأوروبي الديباجات والعنف والإبادة من نصوص التوراة وسردياتها وأحداثها ورموزها وتقاليدها. ومنها كوّن المهاجرون الأوروبيون رؤيتهم الكونية والدينية والأخلاقية. وكتب بعض المستوطنين عهداً على سفينة أقلتهم إلى أميركا الشمالية، يشبه عهد الإله “يهوه” لبني إسرائيل.
وهاجروا لأنهم أرادوا تأسيس “إسرائيل الجديدة” في العالم الجديد. وانطلقت أيديولوجية الاستيطان التي أسست فكرة “أميركا”، وهي الترجمة الإنكليزية لفكرة “إسرائيل الأسطورية”، بقوة دفع استيطانية عاتية تقوم على: احتلال أرض الغير؛ وإحلال شعب محل شعب؛ ووضع تاريخ مكان تاريخ. وكل منها مشروع إبادة قائم بذاته.
رأى المستوطنون أنهم خرجوا مما يشبه الأسر الفرعوني لبني إسرائيل (في مصر التوراتية) إلى أرض الميعاد. وامتلأ خطابهم بتعبيرات “أرض الميعاد” و”ميثاق الرب” و”شعب الله المختار” والاستكشاف وغزو التخوم وإبادة القبائل الأخرى (السكان الأصليين)، واعتقاد بفرادة استيطانهم تاريخياً كجزء من أجندة الرب، وأن كيان الاستيطان “مدينة على جبل” و”منارة الأمم” بتعبير العهد القديم!
”يهوه” مرجعاً أعلى
ولاحظ باحثون نشوء الدين المدني، دين الدولة الأميركية وأساسها، عن أيديولوجية المستوطنين “البيوريتان” الأوائل، مُكرّسا “يهوه”، رب العهد القديم، ورب العنف والإبادة مرجعاً أعلى! وهذا يفسر عنف الدولة الأميركية وشراسة منظومتها القانونية وعنصريتها وسلطويتها.
ارتبطت مشروعات الاستيطان ارتباطاً عضوياً بالاستعمار الأوروبي وأنشأت أوضاعاً ونظاماً استعمارياً استيطانياً قائماً على علاقات مؤسسية وشخصية. وتجمع بين عنصرين: إقامة المستوطنات وإنزال المستوطنين فيها؛ ونزوع دول أوروبا إلى استعمار بلاد أخرى والسيطرة عليها.
تتم إقامة المستعمرات كإعادة إنتاج للمجتمع الأوروبي في سياق استعماري استيطاني إحلالي. ويُعرّف المجتمع الاستيطاني انطلاقاً من توصيف دولة الاستيطان واقتلاع السكان الأصليين وصهر ثقافات المستوطنين في مشروع الاستيطان. وعمّت الغرب زمناً فكرة مفادها أن “إسرائيل” هي “أوروبا ما وراء البحار”.
تشكّل بريطانيا والولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا معاً ما يسمى الدائرة الأنغلوسكسونية Anglo Sphere، وتمثل نواة صلبة لمنظومة الاستيطان العالمي. وفي إثر طوفان الأقصى، شارك ضباطها وخبراؤها في قيادة حرب الإبادة الدائرة من مقر وزارة الحرب الصهيونية في “تل أبيب”.
نفي السكان الأصليين وإنكار التاريخ
ينطوي الفكر الاستعماري الاستيطاني على نفي السكان الأصليين وإنكار التاريخ. فعندما كان ونستون تشرشل وزيراً للمستعمرات وراعياً للمشروع الصهيوني، وتحويله من “وطن قومي يهودي” إلى “دولة يهودية”، أنكر حقوق شعب فلسطين قائلاً “إن وجود الكلب في البيت لا يعطيه حقاً في البيت”.
ولا تذكر وثائق الانتداب البريطاني شعب فلسطين إلا بتعبير “المحمديين”؛ أي لا علاقة لهم بالأرض! واستمر الإنكار بعد قيام الكيان الصهيوني. فرئيسة وزراء الكيان، غولدا مائير، لها صورة شهيرة بالمنظار مصحوبة بعبارة: أين هم الفلسطينيون؟! ومقولة شهيرة عن اللاجئين الفلسطينيين: الكبار يموتون والصغار ينسون!
تطور الإنكار مؤخراً إلى نفي وجود 8 ملايين فلسطيني في أرض فلسطين حالياً، إذ يزعم بتسلئيل سموتريتش أن الشعب الفلسطيني “اختراع من الدول العربية”، لكنه يُخيّر فلسطيني الضفة الغربية بين “التهجير والقتل والاستعباد لليهود”. ويقترح عميحاي إلياهو محو غزة بالسلاح النووي، و”إيجاد طرائق أكثر إيلاماً (للفلسطينيين) من الموت” لحسم المعركة وهزيمتهم وكسر معنوياتهم، كما فُعِل باليابان.
نزع الإنسانية
يرفض المُستعمِر إنسانية المُستعمَر، بل يطمسها. فمن العبث، كما يُصر المُستعمِر، التنبؤ بأفعال المُستعمَرين، إذ لا يمكن التنبؤ بشيء عنهم! فهم كائنات غير عقلانية لا يمكن التأكد من شيء أو معرفة شيء عنها! ويخيل إلى المُستعمِر أن هناك نوازع غريبة ودوافع مقلقة تسيطر على المُستعمَر.
فلا بد من أنه غريب أو شاذ جداً، وخصوصاً إذا استمر غامضاً بعد أعوام من العيش مع المُسْتعمِر. إذاً، يرفض المستعمِر الاعتراف بإنسانية الشعوب الواقعة تحت سيطرته؛ وبالتالي يَعُدّ المستعمِرون هذه الشعوب حالة شاذة، لا يمكن التنبؤ بسلوكها. ويبقى العنف والعنف البالغ والإبادة هي اللغة الوحيدة التي تفهمها!
يُذكر أن ريتشارد سوينبورن، الفيلسوف في جامعة أكسفورد، يبرر فكرة الذبح عند اليهود والتحريم القائم على الذبح والإحراق، وأن ذبح الفلسطيني بيد اليهودي تكريم للفلسطيني، بل يرى أن واهب الحياة له الحق في استردادها هو وشعبه (اليهود) أي استرداد حياة هؤلاء، فلا لوم على الإسرائيلي لقتله الفلسطيني، لأنه ينفّذ أمر واهب الحياة! ويبرر سوينبورن حق اليهود في القتل على قاعدة التوحيد! مع أن توحيد اليهود يعني أن “يهوه” إله اليهود وحدهم من دون الناس، وهذا لا علاقة له بالتوحيد!
العنف والإبادة
اضطردت شواهد ذلك على مدى 76 عاماً من عمر الكيان الصهيوني، وخصوصاً بعد طوفان الأقصى. وأوردت محكمة العدل الدولية عدداً وافراً من تصريحات قادة الكيان الصهيوني الحاليين، والداعية إلى الإبادة الجماعية في حيثيات حكمها الصادر في 26 جانفي 2024.
ومن مؤشرات دخول مشروعات الاستيطان طور النهاية والتفكك ارتكابها قدراً هائلاً من العنف والتدمير وإلحاق الأذى البالغ بالسكان الأصليين، وإبادة جماعية وتدمير شامل. يترافق هذا السلوك مع ارتباك شديد، ومطاردة أهداف متناقضة تفاقم أزمة الكيان الاستيطاني وتشققاته الداخلية وتنزع عنه الشرعية وثصعِّد دعوات “مقاطعته وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات عليه”.
تُقدّر كمية المتفجرات التي ألقيت على قطاع غزة منذ بدء الحرب بقوة تدمير عدة قنابل ذرية تماثل قنبلة هيروشيما. وهذا يحيل على عقيدة القوة والعنف والردع الاستيطانية: “ما لا يتحقق بالقوة، يتحقق بمزيد من القوة!” يقول رونين بيرغمان في كتابه «انهض واقتل أولا: التاريخ السري لإسرائيل»: إن مبدأ القتل الجماعي والإبادة الجماعية عقيدة راسخة في عقل “الدولة” الإسرائيلية منذ قيامها حتى الآن.
لذلك تبذل كيانات الاستيطان جهداً هائلاً لاحتكار العنف وأدواته واستدامتها وحرمان حركات التحرر الوطني من التسلح والتنظيم عبر قمع مستمر واجتياحات واغتيالات وعقوبات جماعية، كما يفعل الكيان الصهيوني بالضفة الغربية، وبمسميات دالة: “جز العشب” و”كاسر الأمواج” و”الأسوار العالية”. وبحسب وثائق بيرغمان، نفّذت استخبارات “إسرائيل” عمليات اغتيال بالآلاف ضد من صنفتهم أعداءً خلال 70 عاماً.
العسكرة والاجتماع الاستيطاني
تمتلك كل الدول الطبيعية جيوشاً أما “إسرائيل فهي جيش يمتلك دولة”! يعني باختصار هي تشكيل إجرامي متعدد المستويات من عصابات السطو المسلح.
المفارقة أن تنظيم المجتمع الاستيطاني وعسكرته على هذا النحو ليسا أمراً طارئاً تاريخياً، فلقد كان مارتن لوثر كينغ يتحدث عن ثالوث أميركي: العسكرة والعنصرية والمادية. وكان للأمير أسامة بن منقذ، زمن حملات الصليبيين، مشاهدات لأحوالهم: “والإفرنج خذلهم الله ما فيهم فضيلة سوى القتل والقتال، ولا عندهم تقدمة ولا منزلة عالية إلا للفرسان، ولا عندهم ناس إلا الفرسان، فهم أصحاب القضاء والرأي”!