بقلم: أ/ الأخضر رحموني
تمر علينا الذكرى 42 لوفاة الشاعر الجزائري محمد العيد آل خليفة في صمت إعلامي مريب ،وهو الذي غادر الحياة يوم الثلاثاء 31 جويلية 1979 بمدينة باتنة ،و تم تشييع جنازته في موكب مهيب بمقبرة العزيلات ببسكرة بعد عصر يوم الخميس 02 أوت 1979 ، و كسرا لهذا التجاهل و اللامبالاة و النسيان ،أحببت التوقف عند نقطة تثار من الحين للآخر من طرف بعض المهتمين بشعره حول علاقة الشاعر محمد العيد بالطريقة التجانية، حيث يرونه تعارضا في اتصال الشاعر محمد العيد برموز الحركة الإصلاحية في الجزائر و انتمائه إليها ، مع سلوكه الديني و توجهاته الصوفية و خاصة في أخريات حياته .
و منها ما أورده الدكتور باسم بلام – أستاذ الأدب العربي بجامعة سطيف 01 فرحات عباس – في كتابه الذي حمل عنوان ( محمد العيد آل خليفة أمير شعراء الجزائر و الشمال الإفريقي – الأعمال الشعرية الكاملة ) ،وقد قام مشكورا بجمع القصائد و تحقيقها و صدرت في ثلاثة مجلدات عن دار الصديق للنشر و التوزيع سنة 2017 ،حيث شكك في نسبة قصيدتين للشاعر محمد العيد أوردهما الدكتور محمد بن سمينة في كتابه ( العيديات المجهولة) الصادر سنة 2003 عن المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية ،و هما قصيدة ( تحية الزيارة) و قصيدة ( فزت بالمنى ) معللا ذلك بقوله (لا أخفي شكي في نسبة هذه القصيدة و التي بعدها الى – محمد العيد- لما فيها من نفس صوفي غال ليس هو تصوف – محمد العيد- النقي من شوائب القبوريات ) ص 519 .و بعد استعراض أدلته العقلية و الأدبية و التاريخية يختم كلامه بقوله: ( أفبعد هذا كله يصح في ميزان العقل الراجح الناقد أن يسلم بنسبة القصيدتين التوسليتين ملؤهما الالتجاء الى غير الله ،و غلو واضح في فهم معنى الولاية ،كلا و ألف كلا ) . ص521
و كأن الحدس يشير الى أن صاحب هذه القصائد أحد شعراء الطريقة التجانية ممن مدحوا مشائخها و أبرزوا فضائلها مثل الشاعر المغربي أحمد سكيريج أو الشاعر التونسي الطيب الرياحي ، او الشاعر الجزائري المدرس بالزاوية اللقاني بن السائح أو حتى الجزائري الذي لا تعرف له قصائد نظمها في غير هذا المجال حقي محمد السائح .
و هذا الشك نفسه صرح به الأستاذ الفاضل محمد الهادي الحسني في المقدمة التي كتبها و سقطت من الكتاب السالف الذكر ،وأعاد صاحبها نشرها على صفحات جريدة – الشروق اليومي – بتاريخ 05/12/2018، باعتبار أن الشاعر كان تحت الإقامة الجبرية ببسكرة و لا يستطيع التنقل و السفر من مكان الى آخر و هو تحت المراقبة .
و يبدو أن جميع من توقف عند هذه المحطة المهمة في حياة الشاعر محمد العيد قد خفي عنه أن الشاعر قد ولد و تربى في عائلة دينية متمسكة بمنهج الطريقة التجانية ،و التي تعتبر طريقة سنية تهدف أساسا الى تزكية النفس و تهذيبها، و العمل الصالح و تقوية الإيمان ،سالكة مناهج الإسلام القائم على الكتاب و السنة .و مؤسسها هو العالم الشهير الشيخ أحمد بن محمد التجاني سنة 1196ه الموافق ل 1782 م بصحراء أبي سمغون بعين ماضي من ولاية الأغواط .و من أشهر أقواله ( زنوا كلامي بميزان الشرع ،فما وافق فخذوه و ما خالف فاتركوه ) .
فوالد الشاعر و هو الشيخ محمد علي خليفة يعد من بين مقاديم الزاوية التيجانية بمدينة عين البيضاء أولا ،ثم بمدينة بسكرة بعد انتقاله إليها سنة 1918 ،و هو من المساهمين في تعمير مسجد الإخوان المعروف حاليا باسم مسجد التجانية سنة 1918 و من الذين درسوا به الشيخ علي بن ابراهيم العقبي الذي لازمه الشاعر محمد العيد مدة ثلاث سنوات بمسجد الزاوية القادرية الواقع بحي سوق الحشيش ببسكرة ،و كان من مشجعيه على حفظ الشعر و كتابته.و قد كان والد الشاعر يحترم رجال الإصلاح الذين يزورون ابنه في بيته مثل الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي تربطه بعائلة أل خليفة علاقة مصاهرة و الشيخ الطيب العقبي ،بل أنه هو من يقوم بخدمتهم احتراما للعلم و العلماء ،حسب ما أخبرنا به المقربون من الشاعر .
و هو ما يؤكده زميله في الدراسة بمدينة بسكرة الشيخ حمزة بوكوشة في محاضرة ألقيت خلال الطبعة الأولى من مهرجان محمد العيد الشعري المنعقد بقاعة الزعاطشة ببسكرة أيام 04-05-06 مارس 1982 – و لا زلت احتفظ بنسخة منها و ستنشر لاحقا – ( ظن بعض الناس أن حذف اسم محمد العيد من صدر جريدة الإصلاح التي أصدرها الشيخ الطيب العقبي في عددها الثاني كان ذلك تلبية لرغبة والده لأنه من مقاديم الطريقة التجانية ، جريدة الإصلاح نزعتها وهابية ،و قد سألت الشيخ محمد العيد عن ذلك فأخبرني بأن والده رغم تعلقه بالطريقة التجانية ، كان محبا للعلم و العلماء ،و مبتهجا جد الابتهاج بملازمة محمد العيد للشيخ الطيب العقبي و جماعة الإصلاح ، و لقد كان الشيخ العقبي يزورهم في منزلهم و يستدعونه لولائمهم ، و لم يعاتبه والده على مشاركته للعقبي في إصدار الإصلاح لا تصريحا و لا تلميحا ،كما أنه لم يرغب منه حذف اسمه في صدر الجريدة ، غير أن العقبي أحس أن إخوة محمد العيد و هم أكبر منه سنا ،عدم ارتياح لذكر اسم أخيهم ،فحذف اسمه من العدد الثاني .)
و عندما قامت السلطات الفرنسية الزج بالشاعر محمد العيد في سجن الكدية بقسنطينة بعد توقيفه من العمل بمدرسة العرفان بعين مليلة ،كان لشيخ الطريقة التجانية الشيخ أحمد بن حمه التجاني الدور البارز و الموقف الشجاع في التدخل لدى السلطات الفرنسية على أعلى المستويات داخل الجزائر و خارجها من أجل إطلاق سراح الشاعر ،وتكللت جهوده بالأثر الإيجابي ،حيث تم الإفراج عن الشاعر بعد مكوثه بالسجن حوالي 14 يوما، و قد قال أحد السياسيين الفرنسيين ( لا يشرف فرنسا أن يدنس اسمها بقتل شاعر) كما صرح لي بذلك الشيخ المربي التواتي بن مبارك و سمعت نفس الكلام من الشيخ زهير الزاهري .
و ردا على هذه الشكوك الأدبية ، أنشر قصيدة للشاعر محمد العيد آل خليفة بخط يده ،قدمها هدية الى الشيخ علي بن الحاج محمد العيد التماسيني .و القصيدة غير مدرجة لا في كتاب ( العيديات المجهولة ) للدكتور محمد بن سمينة ،و لا في كتاب ( الأعمال الشعرية الكاملة ) للدكتور باسم بلام بغية التأكيد على نسبة القصيدة لكاتبها الشاعر محمد العيد و مدى علاقته الطيبة مع الأسرة التجانية .
القصيدة تحت عنوان ( نفحة شعرية ) تقع في 10 أبيات شعرية ( نسخة من القصيدة مرفقة بالمقال ) و هي :
يا علي اصطبر و أنت عليل
كم سقام به الفؤاد استقاما
إن لاما زيدت الى اسمك صارت
لك من كل ما يسوؤك لاما
رب ضر يجر للعبد نفعا
و ابتلاء به ينال المراما
إن نار الخليل باللطف عادت
و هي تصلى بردا له و سلاما
فوض الأمر للذي خلق الأم
ر و سلم و لا تفه بعلام
و اسأل اللطف ممن اختص بالمل
ك، فتدبيره على اللطف قاما
لست أوصيك بل أسليك فيما
أنت تشكو منه و تلقى اهتماما
هذه نفحة من الشعر ترضي
ك، و توليك عطفة و احتراما
حفك الله بالأمان من السو
ء ،و أبقاك للهداة إماما
و كما طبت في حياتك بدءا
بالصنيع الجميل طبت ختاما.
التوقيع : محمد العيد محمد علي
* اللام جمع لامة و هي الدرع .
مع العلم أن قصيدة ( فزت بالمنى ) مكنني الشيخ عبد المجيد بن حبة سنة 1982 بنسخة خطية منها مع الأستاذ أحمد بن السائح ، و هي منسوخة بتاريخ يوم الخميس 02 محرم 1392 ه الموافق ل 17 فيفري 1972 م تقع في 13 بيتا ،و مطلعها :
أيا زائرا هذا الحمى فزت بالمنى
فثق فيه بالبشرى و دع كل تخمين
مدح بها الشاعر محمد العيد الشيخ الحاج علي بن الحاج عيسى التماسيني ( 1766-1844/ 1180- 1260 ه ) رحمة الله عليه – عند الزيارة التي قام بها لزاويته في ( تملاحت ) التي تبعد عن زاوية تماسين ب 12 كلم ،و ذلك في غرة جمادي الثانية عام 1376 ه الموافق ل 03 جانفي 1957 م و ليس سنة 1956 كما نقل الدكتور باسم بلام عن بعض المصادر، و السنة التي ذكرها هي سنة زيارة أخرى لضريح الحاج علي التماسيني أين نظم قصيدته ( تحية الزيارة ) التي تقع في 43 بيتا و مطلعها:
سلام وارث الختم التجاني
عليك مبارك سامي المعاني .
و يبدو أن الشاعر و مرافقيه قد اختاروا تاريخ فاتح جانفي 1957 بالضبط للزيارة بسبب انشغال السلطات الفرنسية و اهتماماتها باحتفالات عطلة رأس السنة الميلادية .
و شيخ زاوية تماسين في تلك الفترة الحاج أحمد بن حمة التجاني ( 1898- 1978) كان محبا للعلم و العلماء حسب الوثائق ،و في عهده تم ترميم و التحسين بالزخرفة ضريح جده الشيخ علي التماسيني. و حتى عندما أدى مناسك الحج للمرة الثانية سنة 1385ه الموافق لسنة 1966 مع ركب الأسرة التماسينية التجانية كان الشاعر محمد العيد آل خليفة ضمن الوفد العظيم المختار المكون من 135 فردا.( الصورة المرفقة توضح الشيخ أحمد بن حمة مع الشاعر محمد العيد و طبيب الوفد محمد الحبيب دحماني على سطح الباخرة المتوجهة للحج ) .
و حسب من اتصلنا بهم ، فقد أهدى الشاعر محمد العيد آل خليفة نسخة خطية من قصيدته ( فزت بالمنى ) الى شيخ الزاوية التجانية ،و خول له حق إهدائها و نشرها وإعادة كتابتها ، و هو ما قام به المكلفون على شؤون الزاوية ،حيث تم نقشها و شرفوها بوضعها على جدار الغرفة التي يوجد بها ضريح الشيخ علي التماسيني تكريما و إجلالا . و من يقوم بزيارة الزاوية، و يدخل غرفة الضريح يجدها محفوظة في إطار فني و معلقة على سياج الضريح الى يوم الناس هذا ( صورة منها مرفقة بالمقال ) .
و الشيخ علي التماسيني الذي حياه الشاعر محمد العيد بهذه القصيدة وقصائد أخرى ، شريف حسني ، ذكر عمود نسبه الشريف الشاعر حقي محمد السائح التجاني في قصيدة منها :
يا سائلا عن نسب الولي
غوث الورى علي التماسيني
أبوه عيسى بن محمد التقي
بن محمد بن موسى المتقي
بن يحيى بن إسماعيل الفاسي
محمد قل طيب الأنفاس.
و حسب أتباعه فهو ( ممن بلغ أقصى درجات الولاية ،و حل بفضل ربه عليه أعلى منازل العناية ،حتى جلس على كرسي الغوثانية العظمى، و مسك بيمينه لواءها الميمون الأسمي خليفة الدولة الختمية و ليثها الهصور و حامي حماها الكتمي بحسام النور و مصباح بساطتها في عصره و زمانه و سراجها اللامع في وقته و أوانه ) .
و هو من أسس زاوية تملاحت سنة 1217 ه/1803 م،و نال الخلافة العظمى عن المكتوم الشيخ أحمد التيجاني في حياته سنة 1230ه/ 1815 م و عمره 51 سنة .و من أبنائه الشيخ محمد العيد (1230 -1292ه) الذي كان أول من تولى الخلافة بعد وفاة والده .و قد أطلق الشيخ محمد علي خليفة والد الشاعر اسمه على ابنه محمد العيد الذي ولد سنة 1904 م بمدينة عين البيضاء تيمنا به و تقديرا لأعماله المتنوعة .
كما أن للشاعر قصيدة أخرى طويلة في مدح الشيخ أحمد التيجاني تحت عنوان ( فك الأسير العاني بمدح العارف التجاني ) منها هذه الأبيات التي نشرها الدكتور عبد الرحمان طالب في كتابه الموسوم ( الشيخ سيدي أحمد التجاني و منهجياته في التفسير و الفتوى و التربية ) صفحة 52 :
ما كان في عهد الشباب سوى فتى
بر إلى عليا المراتب طامح
ماضي العزيمة فهو سهم نافذ
من (عين ماضي) و هو عين الناضح
رحالة للبحث عن آماله
يسقي الرجال و يستقي بالماتح
شد الحزام لها وجد منزها
عهد الشبيبة عن مزاح المازح
فطوى مقامات الولاية كلها
طيا و حسبك بالشريف الكادح
و رأى النبي مكافحا فأجازه
و حباه ما لم يحب أي مكافح
و الشمس مهما أشرقت أغنتك عن
قمر السماء و كل نجم سائح
فأقام في ( فاس) يذكر زاجرا
للخلق عن بدع فشت و قبائح
الى أن قال :
كل الشيوخ أدلة حازوا الرضا
لكن (أحمدهم) دليل الفالح
شهدت رسائله بأن علومه
بالله زاخرة كبحر طافح
و ختمها بقوله :
ما هذه إلا ملامح نزرة
من فضله معروضة بلامح
ليست سوى متن و ثم وراءها
شتى الشروح تركتها للشارح
و حسب ما جاء في كتاب ( نخبة الإتحاف في ذكر بعض من منحوا من الشيخ التجاني بجميل الأوصاف ) للعلامة الحافظ محمد بن محمد الحجوجي الحسني فإن الشاعر ( قد سلك الطريقة منذ صباه ،ثم ابتعد بعض الشيء زمانا ،ثم رجع نادما مستغفرا ،و أمضى الفترة الأخيرة من حياته في الانقطاع للعبادة و السلوك الروحي ،و له في الطريقة قصائد ) .بالإضافة الى قصيدة أخرى خاطب فيها شيخ زاوية عين ماضي الشيخ ابن عمر جاء فيها :
يا ابن التجاني المضيء بنوره
و شبيهه في البأس و الإقدام
كن ضامنا لي عفو جدك إنني
قد همت عن واديه بعض هيام
في فترة للقلب هاروتية
بالسحر، إضغاثية الأحلام
ثم انتبهت فلم أزل متضرعا
متطلبا منه الرضى بدوام
فعساه يسعفني ببذل لبانتي
و عساه يسعدني بنيل مرامي
هو قائدي للصالحات و رائدي
و كفيل تربيتي بها و إمامي
أحببته طفلا و لذت به فتى
و مجاوز الخمسين في الأعوام
فليشهد الكونان و الثقلان لي
أني له أبدا من الخدام .
و نجد حتى الدكتور أبي القاسم سعد الله الذي خص الشاعر بدراسة قيمة تحت عنوان ( محمد العيد أل خليفة رائد الشعر الجزائري في العصر الحديث ) الصادر عن دار المعارف بمصر سنة 1961،و الذي يعرف جيدا خبايا الشاعر و أسراره و قاموسه اللغوي الذي يغترف منه لقصائده ، شكك في نسبة مثل هذه القصائد له ،غير أنه تراجع في الأخير حسب ما ورد في كتابه ( تاريخ الجزائر الثقافي ) الجزء الثامن صفحة 38 حيث يقول (ولنتأمل هذا الشعر الغريب عن محمد العيد، فهو يطلب الشفاعة والضمانة من الشيخ التجاني، و يعترف أنه قد غوى بعض الوقت، ولكنه انتبه الآن. وقد كنا شككنا في أول الأمر أن يكون هذا الشعر صادرا من محمد العيد الذي نعرف شعره الآخر، غير أن التوقف عند معاني وألفاظ القصيدة وأسلوبها يدل على أنها لمحمد العيد ) .
و من أجل رفع كل لبس و تساؤل مشروع حول علاقة و ارتباط الشاعر محمد العيد آل خليفة بالطريقة التجانية ،و ردا على الإساءة الموجهة إليها مع سكوت أنصارها ،و حفاظا على التراث الشعري لحسان الحركة الإصلاحية في الجزائر، و تفاديا لضياع أعماله الأدبية التي لا تزال مجهولة و محفوظة في الخزائن الخاصة ،أرجو من المشرفين على تسيير الزاوية التجانية نشر التراث الثقافي و الوثائق و المخطوطات و الصور الخاصة بهذا الجانب العلمي و الأدبي من تاريخنا بين الناس ، مع تيسير الوصول إليها، و تمكين الباحثين الجادين و أساتذة الجامعات الجزائرية من التنقيب عليها ،حتى تسهل عملية توظيف هذا المتن الشعري في الدراسات العليا و الأكاديمية ،مما يسمح بالغلق النهائي لباب الشكوك و الاحتمالات و تقديم صفحة مضيئة عن دور الزاوية في خدمة العلم و الدين و نشر المحبة و التسامح .