بقلم: صالح عوض
رسم القرآن الكريم معالم الفعل الشيطاني الذي يصرف عباد الله عن مهماتهم في الحياة ويحرمهم السلام ويسلب منهم الحرية ويبث فيهم الفتن، وسلط بآيات محكمة بيّنة الضوء على أركانه، فكان فرعون وهامان رمزي الطغيان السياسي والمالي المستبد، وعندما لم يلتزم بنو إسرائيل بأوامر موسى ولم يؤمنوا بالآيات أصبحوا كتلة إفساد، وكان المشركون التبّع لكبرائهم وسادتهم ركن الفعل الشيطاني الثالث. وفتح القرآن الكريم المعركة ضد أركان الشيطان ليحرر الإنسان من القيود المادية والمعنوية ومن كل ما يعيق تطلعه لحياة كريمة وسيره نحوها.
المشهد نفسه يتكرر بأسماء مختلفة في الأرض كل الأرض.. فالطغيان والإفساد والتبعية تكثيف الانحرافات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعقائدية.. وهي تبرز في حياة الناس كلما ضعف تدفق تيار الأحرار والثوار عن الضخ في نهر الحياة، وتنزوي أمام الثورات.. وسيظل التدافع سنة في هذا الكون ليكون على الأحرار دوما مهمة الإصلاح والمقاومة والتحرير.
مجتمعاتنا العربية:
لم نتفق في وطننا العربي على تشخيص علمي لما نحن عليه من مهانة واستضعاف،قد نكون لامسنا بعضها عن قرب او بعد لكن لم نستطع الخروج برؤية شمولية مرتبة الأبجديات ولهذا تأتي محاولاتنا الفجة في كثير من الأحيان لتعمق المأساة، ومع كل حالة انكسار تتعمق فينا هيمنة أركان الشيطان.
بأقدار متفاوتة تمر مجتمعاتنا العربية بأزمة بنيوية داخلية وبتبعية مهينة للحليف الخارجي.. لقد تحالف الطغيان السياسي الداخلي المتمثل باستئثار قلة بالقرار السياسي في ظل تغييب الأمة عن مصيرها مع استئثار فئة قليلة بالمال لينشأ سوء توزيع الثروة حيث تبلغ النسبة الكبيرة من شعوبنا العربية تحت خط الفقر.. وهنا تأتي العلاقة بالحليف الخارجي وهو في هذه الحالة سلطان ضاغط على سلوك الحكومات وبرامجها في شتى المجالات تجاه شعوبها وتفاصيل حياتها بل يصبح في كثير من الأحيان الآمر في صيغة برامج يقدمها الحليف للبلد للتنفيذ على أكثر من صعيد وقد يستعين الحليف بمنظمات دولية وقرارات ملزمة تفعل فعلها في تكسير قوة المجتمع الذاتية.. ومن هنا يصبح من الصعب تناول الحديث عن الجانب البنيوي بمعزل عن علاقته بسلطان الضغط المتولد عن التحالف بالخارجي الذي يحميه ويوفر له ضمانات الاستمرار.
وفيما تحاول شعوبنا في هذه المرحلة التاريخية التفاعل تحت عناوين عديدة حراك وربيع ودعوة وجماعة ونخبة وأحزاب وتيارات وسوى ذلك من أنشطة ومسميات سياسية واجتماعية غير متفقة على هدف محدد ولها طرائق فهم مختلفة لابد ان نسأل ماذا نريد؟ هل يكمن الضعف في مجتمعاتنا ام في دولنا؟ بماذا تقاس قوة دولة؟ وبماذا تقاس قوة مجتمع؟ وهل المجتمع جاهلي ام متخلف ام مهزوم؟ ماذا يعني مجتمع ضعيف؟
لماذا عندما تضربنا زلازل التحديات الخارجية او الفلتان الداخلي ننهار ونتشظى كما حصل في العراق وليبيا وسورية واليمن وتونس؟ ولماذا خرجت اليابان من الحرب العالمية الثانية وبعد أن ضربتها أمريكا بالقنابل الذرية تبني تطورا تقنيا مذهلا وكذلك فعلت ألمانيا بعد سنوات قليلة من الحرب؟ ولماذا تواجه الدولة في أوربا هزات داخلية قوية متواصلة دونما حدوث تصدعات او انشطارات على الأقل حتى الآن؟
إن الأمر يدعو للتأمل حقا.. وعلينا أن نجدد السؤال بأكثر من صيغة لماذا تنهار مجتمعاتنا وتخرج أسوأ ما فيها ويصبح من الصعب تجميع شتاتها كلما هزها تحد وضربتها عاصفة خارجية او داخلية؟ أين تكمن الأزمة؟
في تعريف الوضع الذي تعيشه مجتمعاتنا بعضنا يستدعي مصطلحات من واقع آخر ومن تجربة أخرى لها حيثياتها المختلفة كما يفعل اللائكيون، ويستدعي البعض مصطلحاته من ماضينا وواقع عشناه في تجارب خاصة يسقطها على واقعنا وهي قد كانت لواقع آخر وقد عاشت ظروفا غير التي نحيا كما يفعل السلفيون “والمقصود بالسلفيين هنا ليس فقط المجموعات السلفية انما كل من رهن عقله بالماضي” مما يحدث الاضطراب عندما نواجه الحياة وتلتبس علينا المفاهيم ونضيع في التسميات التي تستتبع بأوصاف وتقييمات ومن هنا فلنختر من العربية ما يصف حالنا المقيد بالمعطيات الحالية.. لن تعجز اللغة عن منحنا مصطلحا يليق بمرحلتنا بدقة.
نقول باختصار: لسنا مجتمعات جاهلية لأن مجتمعاتنا لم ترتض منظومة قيم غير قيمها ولم تستدع قوانين غير شريعتها ولم تستبدل عقيدتها بعقيدة أخرى وهي تعلن كلما وجدت فرصة عميق صلتها بقيمها وعقيدتها هذا رغم ما تمر به.. فمن العبث طرح قضايا الهوية في مرحلة التحرر من الاستبداد السياسي والفساد المالي.. ففي البداية لابد من الاتفاق على الفكرة الجوهرية في مرحلة المواجهة مع أحد أركان الفعل الشيطاني، ولعل مواجهتنا ضد الطغيان والظلم تقودنا الى إبراز قيمة الحرية والعدالة، الحرية في التعبير عن الرأي والعدالة بين الناس في خريطة الحقوق والواجبات وسيادة القانون على الجميع، وحتى لا تستغرقنا الأفكار والشعارات لابد من الاتفاق على الخطوة الأولى في الآلية فهي تبني شبكة علاقاتنا على ضوء كفاحنا وعملنا ليس فقط على صعيد مكتنزنا التاريخي.. وهكذا تنشأ من خلال الدعوة للحرية والعدالة قيم وأخلاق ضرورية لحماية المجتمع المتحرك في واقع الحياة نحو بناء كيان إنساني محكوم بالقيم وله رسالة محددة.
مجتمعاتنا مستضعفة مستغلة.. هذا هو المصطلح الأقرب لحال أمتنا ومن هنا يصبح الواجب التصدي للاستكبار والإفساد.. يقودنا المصطلح إلى رؤية عمل ورؤية سياسة كما ينظم لنا عملية تفكير في سياق محدد.. فمجتمعاتنا لا تعيش أزمة هوية ولا أزمة عرقية إنما تعيش أزمة استضعاف واستغلال.. ومتى استطاعت مجتمعاتنا تكسير حلقات الاستضعاف والاستغلال فإنها ستجد نفسها و بكامل شخصيتها ولياقتها.
هنا يجب أن ندرك إن السلوك الإنساني الطبيعي في مواجهة التحدي المفروض يقتضي أن لا تطرح الشعارات المفرقة ولا الأفكار الإيديولوجية الحادة ولا التصورات المسقطة من خارج واقع القضية لأن ذلك من شأنه تبديد طاقات المجموع وإفشال قوة الدفع المجتمعي..
الثالوث الشيطاني:
لقد أدى الطغيان السياسي والمالي وسوء توزيع الثروة إلى تكسير عناصر القوة في المجتمع وافقد الناس القدرة على السير المنتظم لانجاز حياة تليق بالإنسان لان المجتمع حينذاك أصبح رهين القلة السياسية والقلة الاقتصادية المتنفذة والتي تضع القانون وتتجاوزه او تتكيف مع التهرب منه.. وتفرض على المجتمع رأيا ليس لأحد أن يتجاوزه “لا أريكم إلا ما أرى” وافقد الطغيان السياسي والمالي المجتمع القدرة على الانتظام في بناء تراكمي لفعله في اتجاه التقدم والنهضة، كما افقده التفكير في كيفية إحداث الاستمرار في تراكم الانجازات، إذ أن لا شيء يسير بسلام في المجتمع.
في حالة استمرار هيمنة الطغيان السياسي والمالي “فرعون وهامان” تتولد علاقة بين الطغيان والمجتمع عنوانها الاستبداد والاستضعاف، الظلم والسكونية، الاستغلال والجوع، وهنا يصبح المجتمع في حالة استضعاف وقهر وتسلط.. فان تعايش معها يفقد قيم الإنسانية شيئا فشيئا حتى يصبح غير قادر على تحسس قيم الكرامة والعزة.. في هذه الحال تتولد في المجتمع كل مفاسد النفس والسلوك الاجتماعي فيصبح الالتواء والدونية والحرص على حياة مجرد حياة هدفا، ويكون هذا المجتمع قد تحول الى حالة فساد لا ترى الا ما يراه الطغيان في نفسها.. وهذه هي خطورة السكون للطغيان السياسي والمالي “فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ”
ومن هنا بالضبط تأتي التبعية للأجنبي سلوكا تلقائيا لمجتمع محطم لاستكمال الضروري من شروط الحياة في ظل غياب الإنتاج وشل الطاقات، مجتمع فقد القدرة على البناء وانكسرت روحه وانسحبت همم أفراده الى أنانيات قاتلة كما كان حال “بني إسرائيل” أمام فرعون الذي كان يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم ويستولي على ثرواتهم.. فان استمرار الطغيان السياسي والمادي يتولد عنه مع الزمن مجتمع منهار موبوء بكل أنواع المفاسد.
وهنا يبرز دور الطغيان العالمي من خلال صندوق النقد الدولي والمؤسسات الدولية التي صنعت في ظل انتصار الحلف الاستعماري ورسمت من القوانين ما يكفي لاستمرار استعباد الآخرين ونهب ثرواتهم والسماح بالتدخل في أخص شئونهم.
لا سلطان للطغيان العالمي -على الأقل الحاد- بدون وجود طغيان داخلي ومجتمع منهار.. فيجيء الطغيان العالمي على أرضية مجهزة تماما لمشاريعه وخططه التي يقيد بها الدولة والمجتمع في السياسة والثقافة والاقتصاد.
تترابط هذه العناصر والحلقات ويعتمد كل منها على الآخرين في السلسلة الشيطانية ومن هنا تبدو صعوبة الإفتكاك من حالة الاستضعاف والمظلومية وكسر حلقاتها، كما لم يكن الأمر صعبا في أي زمان سبق بعد أن أصبح العالم كله قرية واحدة مهيمنا عليه من قبل القوى الامبريالية التي سريعا ما تتدخل في حال نشوء تمرد على السلسلة في أي مكان على وجه الأرض لاسيما في وطننا العربي وعالمنا الإسلامي.
و هنا لابد من الإشارة إلى فكرة تأسيسية مشتركة لدى كل المجتمعات والدول ذلك إن قوة الدولة تكمن في قوة المجتمع قبل أي شيء.. فلئن سقطت الدولة يكون الامتحان أمام المجتمع بما يملك من رصيد انضباط وجدية وعلم ومعرفة وتجربة وهكذا تتجلى نتائج تكرس النظام السياسي الطاغي والنظام الاقتصادي الفاسد في بلد ما والمرتبط بتحالفه مع قوى خارجية.. هذا النظام الذي جوف المجتمع وسطحه وافقده عناصر القوة وسلبه حريته وكرامته فلا مختبرات علمية ولا نظام تعليمي ولا مؤسسات اجتماعية حقيقية ولا تربية منهجية في المدارس ومؤسسات التعليم فعندما تتعرض الدولة الى ضربة ما خارجية او داخلية حينها ينهار كل شيء ويصبح المجتمع يدور حول نفسه تيها وتمزقا كما هو حاصل الآن في ثلاثة بلدان عربية العراق وسورية وليبيا.
تجارب الخلاص:
و عند هذه النقطة يجب أن ننتبه أن الوعي باللحظة التاريخية ليس كافيا، بل ان الوعي بالهدف الكبير البعيد ليس كافيا أيضا، إننا على أرضية ما سبق ذكره لابد ان نحدد الخطوة الأولى الضرورية مهما صغر حجمها وان تكون بسمات جديدة لا تحمل من الواقع السابق أمراضه.. وهنا من الجدير توجيه انتقادات لتجارب حصلت في الوطن العربي في موجة الربيع العربي حيث وقعت التجربة المصرية والسورية والتونسية والليبية في الخطأ الذي ولد كوارث مجتمعية وسياسية.. تجربة حراك شعوبنا العربية التي خرجت إلى الشوارع مدفوعة من حاجتها الضرورية للتغيير انتهت إلى مأساة ذلك بكل وضوح لأنها فاقدة الوعي بترابط حلقات السلسلة الشيطانية فوقعت في أحابيل احدها وكذلك لأنها فاقدة فن إدارة أوضاعها وفاقدة للوعي بالخطوة الضرورية الأولى تجاه الحلقة المركزية.. لذا كانت تجارب دامية ألحقت بمجتمعاتنا خسائر كبرى وأمعنت في تبعيتنا للأجنبي واستدعته، ذلك لانها لم تدرك الحلقة المركزية في الطغيان.
عن اجتياز مرحلة التردد والتيه يكون بتحرك المجموع نحو تكريس منجز استراتيجي يتم البناء عليه لأن أغلبية الأصوات وكثرة الهاتفين بأمر ما لا تعني شيئا هنا بل قد تشوش على التفكير وتجره الى انفعالات غير مفيدة.. وهذا ما يجعل التفكير ضروريا بان يتم تحديد الخطوة الأساس المتمثلة في الاتفاق على فكرة النهضة والحرية والنظافة.. أي إقصاء الطغيان وإرساء العدالة في توزيع الثروة والامتلاء بالعزة الوطنية.. و هنا يكون التجديد واقعا على مستوى العمل المباشر باختيار وتحديد الخطوة المباشرة الأولى والاقتناع بها والتركيز عليها ومن ثم التحرك لوضع آليات منهجية تضمن بناء صحيحا على أسس تحمل أكثر ضمانات انحسار الطغيان السياسي وقمع الفساد المالي ووضع آليات صحيحة لعلاقات متوازنة بالخارج.. وإن أكثر الضمانات تلك هي المتعلقة بالجوانب المعنوية بالشفافية و بالحرص على حرية الرأي وحمايتها من التغول السياسي وتكريس حقوق الأفراد في التعليم والطبابة والعمل وتقديس العلم ونشر المعارف..
لقد كان الربيع العربي مهما في أنه عبر عن رغبة عميقة في التغيير ومحاسبة الطغيان المالي والسياسي والمطالبة بالحريات والعدالة إلا أن الربيع العربي اختطف من قبل الأمريكان ” أوباما وهيلاري كلنتون” الذين حولوه ضد الشعوب في أكثر من بلد عربي لأن قادة الربيع العربي انخرطوا في استرضاء الأمريكان وتعاونوا مع وكلاء الأمريكان وحلفائهم في المنطقة وتقديم تعهدات عديدة بالتعاون والموافقة على سياستهم.
من هنا يجب قلب صفحة الربيع العربي واعتبارها مرحلة في حركة المجتمعات يجب استخلاص العبر منها وعلى رأسها عدم التحرك نحو الحرية والعدالة في القطار الأمريكي بل ان لم يكن بالتضاد مع اتجاهه فعلى الأقل بعدم التواصل معه على اعتبار أن المواجهة المبكرة معه تجلب خسارات كبيرة..
ان التصدي للطغيان السياسي والمالي والتصدي للفساد الاجتماعي والتصدي للتبعية للأجنبي وطغيان القوى المهيمنة يعني بوضوح أننا وضعنا أقدامنا على الطريق المستقيم ولكن بعد إدراك علاقة كل طرف بالأطراف الأخرى لابد من معرفة الخطوة الأولى بتدقيق والله غالب على أمره.
تعليق واحد