أقلام

حدث و أحاديث.. حرب المعلومات على هامش حرب غزة ولبنان

إبراهيم العبادي

المشكلة الأكبر في ترويج (الفهم المسطح) أو الساذج للصراع، السذاجة التي أنتجتها حرب المعلومات والتقنيات التي جعلت التطبيع يساوي السلام والازدهار وصارت إسرائيل مقبولة لدى هذا الفريق العربي رغم قباحتها، وجعلت المقاومة الإسلامية تخسر جمهوراً مهماً لأن خطابها اعتمد العاطفة الإسلامية للرد على الخصوم‪…‬‬
لم تخل حرب من الحروب التي خاضها العرب مع الكيان الصهيوني من انقسامات في الموقف السياسي رسمياً وشعبياً، إن لم يكن أثناء الحرب فبعدها، الإجماع مفقود دائماً ما خلا استثناءات نادرة، سبب ذلك اختلاف الرؤى والإستراتيجيات والمصالح والأفكار والأهداف.
تقدير الموقف وقراءة الواقع

والسبب الأكبر قد يكون الاختلاف الفاحش في تقدير الموقف وقراءة الواقع السياسي والعسكري موضوعياً، دخول الحرب يستلزم سرديَّة عالية الإقناع حتى وان كانت حرباً دفاعيّة، فالمعتدي الصهيوني كثيراً ما استفاد ووظف الأخطاء السياسيّة العربيّة ليبني خطاباً حربياً وسردية سياسية كان ناجحاً في تسويقها داخلياً وخارجياً رغم عدوانيته الصارخة وهمجيته غير المسبوقة وغطرسته المعهودة واستهزائه بالقانون الدولي والمنظمات الأممية. الموقف العربي غالباً ما عانى من صعوبات في تسويق سرديته محلياً قبل أن يكون خارجيا، ولهذا الأمر مشكلاته المستدامة، أهم هذه المشكلات كان وما زال احتكار المعلومة أو الفهم عند صانع القرار، بحيث تبقى مسببات الموقف مجهولة أو غامضة لدى الجمهور والنخب على حد سواء، ثمّ تأتي النخب بحسب انحيازاها لتقوم بعملية ترويج وتفهيم وتسويق وترميم الرواية الرسمية للحرب، أو معارضتها وتشكيل موقف مضاد منها عاطفياً ومعرفياً. حصل ذلك في حرب عام1967، التي سميت نتائجها بالنكسة أو نكسة حزيران وهي كانت نكبة بأدنى توصيفاتها، بعدها بسنوات نُقل عن المرحوم الشيخ محمد متولي الشعراوي، الأزهري الشهير قوله إنه سجد لله شكراً بعيد الحرب، كأنه أراد القول إن الخسارة العسكرية قد تكون مقبولة -رغم فداحتها وأثارها المدمرة – مادامت ستطيح بالمشروع السياسي للنظام الحاكم. وكان يومها المشروع القومي الناصري يأخذ بزمام العرب‪ .‬‬

المواقف الفرديّة والحزبيّة

راهناً لم يسبق أن انقسم الشارع العربي انقساما كبيرا كما انقسم إزاء الحرب الجارية في غزة ولبنان، وسائل التواصل الاجتماعي فضحت المواقف الفرديّة والحزبيّة، وتجاوزت ردود الأفعال حدود المسؤولية الأخلاقية والإنسانية، بلغت حدَّ التشفي والإساءة والرغبة في تحقيق الانتقام على يد من كان عدواً حتى الأمس القريب، للكثير ممن يحتفون بالتفوق العسكري الإسرائيلي حالياً!!!!!؟، سبب ذلك أن الطرف الذي قاد الحرب يعيش خصومة بالغة الحدة مع جمهور عربي كبير جداً‪ .‬‬
بطبيعة الحال لهذه المواقف دوافعها النفسية والسياسية المتعلقة بخيارات الفرد العربي وحساباته ومواقفه من التيارات والقوى السياسية التي تتقاسم جبهتي الصراع. ولكل حرب نتائجها وارتداداتها الفكريّة والسياسيّة‪.‬‬
حرب حزيران دشنت أفول الناصريَّة والشعارات القوميَّة، وحرب 1973 أنهت مقولة الصراع الدائم مع الكيان الإسرائيلي وحقق الأخير اختراقاً تفاوضياً أدى الى كامب ديفيد وانتهت دول الطوق العربي الى التفكير بمصيرها ومستقبلها منفردة رغم التنسيق الشكلاني، حرب عام 1982 التي شهدت احتلال لبنان ومحاصرة بيروت، أدت الى خروج المنظمات الفلسطينية من لبنان وتراجع مشروع التحرير الوطني وظهور البديل الإسلامي الشيعي (حزب الله) كمقاومة واعدة قوية وصلبة بمحركات عقائدية مستوعبة ومتجاوزة للأخطاء العسكرية والسياسية التي وقعت بها الأنظمة والتيارات التي سبقتها، حرب عام 2006 كرّست معادلة ردع متبادل مع إسرائيل دامت لمدة 18 عاما، وصار الخصم العنيد لدولة الاحتلال أحزاب وحركات مقاومة أيديولوجية عقائدية (فواعل غير دولتيَّة) تعد بزوال إسرائيل والصلاة في القدس الشريف‪.‬‬

عين نافذة ونظرة عميقة
لكن الخصومة التي اتّسعت ضد حركات المقاومة الإسلامية، لم تقرأ بعين نافذة ونظرة عميقة، الحروب ضد دولة الاحتلال تحتاج الى تعبئة كبيرة واستعداد شعبي وقومي شامل، حركات المقاومة دخلت حرب عام 2023-2024 وهي لا تواجه خصومة النظام السياسي العربي فحسب، بل خصومة جمهور واسع كان -على الأقل – يمثل ذخيرة عاطفية وإعلامية كون الجرح الفلسطيني قضية عربية إسلامية مركزية كما كان يقال. لكن الشارع انقسم بسرعة وانقسمت معه آراء النخب بشكل لافت وملاحظ في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي ما جعل طرف المقاومة يجهد كثيراً لبناء سردية يحافظ فيها على جمهوره من التقويض. صار الشارع العربي يعيش حرب دلائل وبراهين وسيناريوهات ومعلومات، وفي ذروة الحرب سعّر طرف الخصومة المذهبيّة والأيديولوجية والسياسيّة مقترنة بسوء الفهم والتحيّز، كان على الجهة المقابلة تحيّز من نوع آخر، فشرعية المواجهة وقداسة (الجهاد) ضد العدو الإسرائيلي كانت تستدعي موقفاً يقدم العواطف على الفهم، والمشاعر الوجدانيّة على التساؤلات المعرفيّة، وتركزت المعركة على ضمان تماسك الرأي العام المؤيد والمناصر، وصارت وسائل التواصل الاجتماعي مصدر المعلومات التي تشكل الرؤية والموقف وتعطي للبحث والدراسة مضموناً غير واقعي أحيانا، في ظل الفلترة (المعلوماتية) الجارية بين الجبهتين المتصارعتين وغدت المعركة معركة معلومات وتحليلات إعلامية قبل أن تكون معركة ميدان، صار التنافس المعلوماتي سلاحاً فتاكاً، فمن ينجح في ترويج خطابه ويومياته وسرديته ينجح في كسب التعاطف والتأييد، وبما أن العدو يتفوق تكنولوجيا وتقنيا وتسليحيا فإن خطابه وجد من يروّجه ويتقبّله ويردده ويؤمن به، حتى وإن كان على حساب (الأمة) وثوابتها ومقدساتها‪ .‬‬

الفهم المسطح أو الساذج للصراع

المشكلة الأكبر في ترويج (الفهم المسطح) أو الساذج للصراع، السذاجة التي أنتجتها حرب المعلومات والتقنيات التي جعلت التطبيع يساوي السلام والازدهار وصارت إسرائيل مقبولة لدى هذا الفريق العربي رغم قباحتها، وجعلت المقاومة الإسلامية تخسر جمهوراً مهماً لأن خطابها اعتمد العاطفة الإسلامية للرد على الخصوم، ودفعت النخبة المقاوِمة الى استخدام أسلحة الإسكات لوصف من يتساءل ويستفهم ويريد أن يعرف، (لماذا حصل الذي حصل؟ والى أين تسير الأمور؟)…. بأنه من المرجفين. دونما حساب بأن شرعية الموقف تنبني دائماً على الفهم والإقناع والاقتناع .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى