تمر يوم غد الذكرى 57 على الانقلاب الأبيض الذي قاده الرئيس هواري بومدين ضد الرئيس أحمد بن بلة. وقد اختلف السياسيون ومعهم الأكاديميون والمؤرخون حول تسمية وطبيعة الحركة؛ فبينما اختار الانقلابيون مصطلح التصحيح الثوري للتأكيد على أن العملية ما هي إلا تصحيح مسار ثوري بدأ عشية أول نوفمبر ولازال مستمرا بعد الاستقلال قصد بناء الدولة الوطنية، يرى الفريق المعارض للحركة أنه انقلاب عسكري قاده وزير الدفاع الوطني رفقة فريقه المعروف تاريخيا بزمرة وجدة.
1- تمهيد: الظاهرة الانقلابية
الانقلابات العسكرية ظاهرة سياسية تميزت بها الكثير من دول العالم الثالث بعد حصولها على الاستقلال، وغالبا ما تكون هذه الانقلابات مُدبرة من الخارج، على غرار دول أمريكا اللاتينية، حيث أغلب الانقلابات العسكرية التي عرفتها دول المنطقة كانت من تدبير الولايات المتحدة الأمريكية على غرار الانقلاب الذي قاده بنوشي بالشيلي ضد الرئيس سلفادور ألندي يوم 11 سبتمبر عام 1973. نفس العمليات الانقلابية عرفتها دول إفريقيا وبتدبير خارجي أيضا من قبل الاستعمار القديم خاصة فرنسا، قصد إبعاد الوطنيين من الحكم، وإرساء دكتاتوريات عسكرية وظيفتها حماية المصالح الاقتصادية للقوى الاستعمارية التقليدية.
نشير أنّ أوروبا عرفت هي الأخرى في العقد السادس والسابع من القرن الماضي انقلابين عسكريين بكل من اليونان والبرتغال. فاليونان عرفت انقلابا عسكريا يوم 21 أبريل 1967 ضد الملك قسطنطين الثاني، وعُرف هذا النظام العسكري بدكتاتورية العقداء الذي استمر إلى غاية إعلان الجمهورية يوم 8 ديسمبر 1974. أما البرتغال فقد عرفت عدّة انقلابات عسكرية، أولها كان يوم 14 مايو 1915، وآخرها كان يوم 25 أبريل 1974 والذي أسقط النظام الديكتاتوري لسلازار.
عرفت الدول العربية أيضا الظاهرة الانقلابية؛ بعض الانقلابات حدثت ضد الملكيات والسلالات الأجنبية الحاكمة مثلما حصل بمصر والعراق وليبيا، حيث حدثت هذه الانقلابات ضد العائلة الخديوية الألبانية بمصر، وضد العائلة الهاشمية الحجازية بالعراق، وضد العائلة السنوسية ذي الأصول الجزائرية بليبيا. أما الانقلابات الأخرى فكانت نتيجة الصراع على السلطة، كما حدث في سوريا واليمن والسودان وموريتانيا وكذا الجزائر.
2- الظروف التاريخية والسياسية الممهدة لحركة 19 جوان 1965
استغل الرئيس أحمد بن بلة حركة تمرد منطقة القبائل لتفعيل المادة 59 من الدستور، وذلك بعد ثلاثة أسابيع من الاستفتاء على القانون الأعلى للبلاد من قبل الشعب. تسمح أحكام هذه المادة لرئيس الجمهورية باتخاذ إجراءات استثنائية بقصد حماية استقلال الأمة والمؤسسات الجمهورية، حيث قام بتجميد الدستور وجمع عدّة مسؤوليات تحت سلطته الرئاسية. في الحقيقة، الرئيس بن بلة لم يثق -ولو للحظة- في وزير الدفاع الوطني و”زمرة وجدة”، فهو دخيل في المجموعة وغير مرغوب فيه، إذ يعتبر من خريج الحركة الوطنية ومن جيل الثورة الأوائل، بينما باقي أعضاء الجماعة كانوا أصغر سنا منه، وهم من الجيل الجديد الذي التحق بالثورة دون المرور على مدرسة الحركة الوطنية. كان لدى بن بلة إحساس أن العقيد هواري بومدين الذي تمرّد على رئيسه عبد الحفيظ بوصوف عشية الاستقلال، يستطيع أن يتمرّد عليه في أية لحظة من فترات حكمه، ولذلك سعى بن بلة بكل ما أوتي من حيلة خلال حكمه لإضعاف سلطة نائبه ووزير الدفاع العقيد هواري بومدين.
ويمكن تلخيص الأحداث والصراعات السياسية بين الرئيس وجماعة بومدين بطريقة تسلسلية، والتي مهدت لحركة 19 جوان 1965 في النقاط التالية:
– التحاق العقيد محند أولحاج الذي كان يقود المعارضة المسلحة بمنطقة القبائل، بساحة المواجهة بالحدود الغربية للتصدي للجيش المغربي الذي هاجم المواقع الجزائرية يوم 9 أكتوبر 1963، وذلك إثر اتفاق سري جرى بينه وبين الرئيس أحمد بن بلة دون مشاورة وزير الدفاع العقيد هواري بومدين، المسؤول الأول عن العمليات الحربية والذي عارض الاتفاق؛
– رفْض بومدين للمتطوعين في الجيش، بعد النزاع الحدودي بين الجزائر والمغرب، حيث كان يفضل العمل مع الجيش النظامي الذي يتحكم فيه بصرامة، بينما دعم الفكرة الرئيس أحمد بن بلة لاعتبارات سياسية؛
– رفْض بومدين لوقف الاقتتال مع المغرب، واتهام بن بلة له بخرق اتفاق وقف إطلاق النار؛
– تحويل صلاحيات وزير الداخلية تجاه الولاة إلى رئيس الجمهورية بموجب مرسوم ، وذلك عقب تمرد العقيد محمد شعباني، وقد استقال على إثر ذلك وزير الداخلية أحمد مدغري، قَبِلها الرئيس، وعيّن نفسه في ذات المنصب مؤقتا، ثم نهائيا بمناسبة التعديل الحكومي الذي تم يوم 2 ديسمبر 1964 ؛
– إلغاء وزارتي المالية والإعلام وتعويضهما بمديريتين تابعتين للرئاسة؛
– إلحاق المديرية العامة للتخطيط والدراسات الاقتصادية، وكذا المحافظة للتكوين المهني وترقية الإطارات بالرئاسة؛
– إلغاء الدواوين الوزارية التي كانت تحت سلطة الوزراء وتعويضها بأمناء عامين للوزارات يتم تعيينهم بموجب مرسوم؛
– تعيين الطاهر زبيري قائدا للأركان من قبل الرئيس بن بلة، خلال فترة غياب بومدين الذي كان في زيارة رسمية بالقاهرة؛
– إنشاء ميليشيات شعبية مسلحة من قبل الرئيس بن بلة، موضوعة تحت سلطة الحزب لحماية الثورة، وكان قد أعلن ذلك في خطاب له يوم 14 جويلية 1964؛
– إشعار وزير الخارجية عبد العزيز بوتفليقة من قبل الرئيس بإبعاده من المنصب عشية انعقاد المؤتمر الأفرو-آسيوي بالجزائر نهاية جوان 1965.
وكان هذا الحدث الأخير بمثابة السبب المباشر الذي دفع بوزير الدفاع الوطني هواري بومدين وجماعته للانقلاب على الرئيس وتنحيته بطريقة يمكن تكييفها بالانقلاب الأبيض، نظرا لسهولة العملية كما يرويها العديد من الفاعلين من بينهم العقيد الطاهر زبيري في مذكراته المعنونة: مذكرات آخر قادة الأوراس التاريخيين، والتي جرت أحداثها ليلة 19 جوان من سنة 1965 بفيلا جولي الواقعة بوسط العاصمة.
3- التغطية السياسية والقانونية للانقلاب العسكري
برّر هواري بومدين وجماعته حركتهم -سياسيا- عبر بيان 19 جوان 1965؛ حيث نُعت الرئيس أحمد بن بلة المخلوع بالطاغية والديكتاتور والمُستبد، وأصبح يتصرف في مقدرات البلاد كما لو كانت ملكه الشخصي، وأمست البلاد في فترته ميدانا للمكائد والدسائس، وطعمة للأنانية والأهواء الشخصية؛ وأُتهم بن بلة بنية القضاء على إطارات البلاد والنيل من سمعة المجاهدين، وكرامة المقاومين دون إعارة أدنى اعتبار أو تقدير لكفاحهم البطولي ولماضيهم المجيد. كان من الواضح أن إطارات البلاد المشار إليهم في البيان هم جماعة وجدة التي أراد الرئيس أحمد بن بلة التخلص منهم، فانقلبوا عليه في حركة وصفوها بالتصحيح الثوري.
من البديهي أن يبحث النظام الجديد عن صيغة قانونية قصد إرساء مؤسسات جديدة تلعب دور السلطتين التشريعية والتنفيذية، فما كان منه، إلّا أن أصدر الأمر رقم 65-182 المؤرخ في 10 جويلية 1965 كقانون أساسي ينظم به مؤسسة مجلس الثورة، ومؤسسة الحكومة. ويمكن صياغة النقاط الأساسية التي جاء بها هذا الأمر فيما يلي:
* مهام مجلس الثورة:
– ممارسة السيادة الوطنية إذ تعتبر مصدر السلطة المطلقة؛
– مراقبة مهام الحكومة؛
– تعديل بصورة كلية أو جزئية لتشكيل الحكومة وفق أوامر مجلسية تصدر منه؛
– تفويض الحكومة لممارسة السلطات الضرورية لسير أجهزة الدولة وكيان الأمة.
* مهام الحكومة:
– تسيير أجهزة الدولة عبر توزيعها على قطاعات وزارية قُدّرت في أول حكومة بـ 18 وزارة
– ممارسة السلطة التنظيمية وذلك باتخاذ تدابير تصدر على شكل مراسيم؛
– ممارسة السلطة التشريعية وذلك باتخاذ تدابير تصدر على شكل أوامر؛
– رئاسة الحكومة ورئاسة مجلس الوزراء تعودان لنفس المسؤول والمتمثل في شخص الرئيس هواري بومدين.
* تشكيلة مجلس الثورة
من الطبيعي أن يتكون مجلس الثورة من الفاعلين العسكريين وبعض السياسيين الذين ساندوا الحركة ضد الرئيس بن بلة؛ وقد رُوعي في اختيار الأعضاء عامل الوفاء، إلى جانب تحييد بعض القادة التاريخيين. وقد جاءت التشكيلة، حسب الوظيفة العسكرية أو السياسية عشية الانقلاب، وتحت رئاسة العقيد هواري بومدين، وزير الدفاع الوطني، كما يلي:
– العقيد الطاهر الزبيري، رئيس هيئة الأركان؛
– العقيد سعيد عبيد، قائد الناحية العسكرية الأولى؛
– العقيد الشادلي بن جديد، قائد الناحية العسكرية الثانية؛
– العقيد محمد الصالح يحياوي، قائد الناحية العسكرية الثالثة؛
– العقيد محمد بن أحمد عبد الغني، قائد الناحية العسكرية الرابعة؛
-العقيد عبد الله بلهوشات، قائد الناحية العسكرية الخامسة؛
– العقيد أحمد بن شريف، قائد الدرك الوطني؛
– العقيد أحمد دراية، مدير الأمن الوطني؛
– العقيد صالح بوبنيدر، القائد السابق للولاية التاريخية الثالثة؛
– العقيد محمدي سعيد، وزير المجاهدين في حكومة بن بلة؛
– العقيد محند أولحاج، القائد السابق للولاية التاريخية الثانية؛
– العقيد يوسف الخطيب، القائد السابق للولاية التاريخية الرابعة؛
– السيد عبد العزيز بوتفليقة، وزير الخارجية؛
– السيد طيبي العربي، كان مديرا عاما للأمن الوطني ثم سفيرا بالبرازيل؛
– السيد صالح سوفي، كان قائدا للناحية العسكرية الثالثة؛
– السيد عبد القادر مولاي شابو، الأمين العام بوزارة الدفاع الوطني؛
– السيد علي منجلي، نائب الأركان ونائب المجلس الوطني سابقا؛
– السيد أحمد مدغري، وزير الداخلية؛
– السيد أحمد محساس،وزير الفلاحة والإصلاح الزراعي؛
– السيد أحمد قايد، وزير المالية والتخطيط؛
– السيد شريف بلقاسم، وزيرا للتربية الوطنية؛
– السيد بشير بومعزة، وزير الأنباء؛
– السيد أحمد بوجنان المدعو سي عباس، مدير الأكاديمية العسكرية بشرشال؛
– السيد عبد الرحمن بن سالم، قائدا عاما للحرس الجمهوري؛
– السيد بوحجر بن حدو، المدعو عقيد عثمان، منسق الحزب بمنطقة الغرب.
كان يتألف مجلس الثورة من ستة وعشرين عضوا بما فيهم رئيس المجلس، نصفهم عقداء في الجيش، الأمر الذي أضفى على التشكيلة الطابع العسكري، مما يوحي أنه انقلاب عسكري. ويلاحظ أيضا الحضور القوي “لعصبة وجدة” على غرار السادة عبد العزيز بوتفليقة، وأحمد مدغري، وشريف بلقاسم، ولكن خُصصت مقاعد أيضا للقادة العسكريين التاريخيين على غرار محند أولحاج، ويوسف الخطيب، والطاهر الزبيري، وصالح بوبنيدر قصد تحييدهم وربح ولائهم.
محمد سعيد بوسعدية: باحث حر