بقلم احسن خلاص
الجزء الأول
كلما اقتربنا من نهاية الحملة الانتخابية يتأكد المشهد ويزداد اتضاحا من أن الانتخابات التشريعية لهذا العام، إن أمكن لها أن تفرز وجوها نيابية جديدة، فهي أبعد من أن تفرز قوى اقتراح سياسية جديدة، ذلك أن الخطاب السائد لا يترك الانطباع بأننا مقبلون على تغيير حقيقي في الأفكار والأساليب والمناهج بقدر ما ستكتشف وجوها تمثيلية جديدة تماما كما حدث في السلاسل الدرامية أو الكوميدية ذات المواسم المتعددة التي يضطر فيها المخرج لاستبدال ممثل وافته المنية أو انسحب من الفريق بممثل جديد، وأننا سنكون بعد 12 جوان المقبل أمام مشاهد أخرى غير تلك عهدناها وإن بتنا على يقين أن القصة والسيناريو سيؤديه ممثلون جدد دون أن يتغير القالب.
في مقال سابق كنا قد افترضنا جدلا أن يُشذ عن العرف السائد منذ إيقاف المسار الانتخابي لعام 1991 فينال الإسلاميون مجتمعين أغلبية برلمانية ولو نسبية تمكنهم من قيادة الحكومة المقبلة واستدعينا كل الحجج السياسية الممكنة التي من شأنها أن تدافع عن هذه الإمكانية الممنوعة كما استدعينا معها الحجج السياسية والهيكلية التي لا تخدم هذه الفرضية منها الانقسام الذي أصابهم منذ بداية هذا القرن وانعكاسات مشاركاتهم السابقة في البرلمان أو المجالس المحلية المنتخبة والحكومات المتعاقبة فضلا عن أن التيار الإسلامي الذي عادة ما يملأ الساحة الإعلامية ضجيجا يجد نفسه في النهاية يصطدم بواقع انتخابي مغاير لحساباته، إذ تدخل فيه ترتيبات السلطة والموازين السياسية المرسومة. حدث مثل هذا عام 2012 عندما ظن التيار الإسلامي أنه كان قاب قوسين أو أدنى من قيادة الحكومة على غرار المشهد المغربي والتونسي اللذين أعقبا موجة “الربيع العربي”.
نفتح الباب هذه المرة لمغامرة جديدة لا تقل خطورة وهي البحث عن مصير حزب جبهة التحرير الوطني بعد انتخابات 12 جوان. وقد ظل التساؤل حول مصير الأحزاب التي ساندت الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة مطروحا بإلحاح لاسيما عند اندلاع الحراك الشعبي الذي بقدر ما أزاح دائرة بوتفليقة العسكرية والمالية والرمزية من المشهد فقد أحدث أضرارا جانبية وخيمة نال منها النصيب الأكبر حزب جبهة التحرير الوطني الذي كان الواجهة السياسية لتلك الدوائر التي دفعت به نحو مواقف هزلية ومخزية وجردته من رصيده التاريخي والرمزي الذي كان يقدم نفسه به كوريث لجبهة التحرير الوطني التاريخية وصائن مبادئها التأسيسية ورائد بناء التنمية الوطنية على أسس العدالة والحداثة.
لقد نالت دوائر بوتفليقة من حزب جبهة التحرير الوطني نيلا عظيما بعد أن فرضت على رأسه قيادات كانت مهمتها طمس الحزب وإفراغه من محتواه وتقليص دوره إلى مجرد جهاز لتأييد شخص الرئيس بكثير من الابتذال وصل إلى ما كان يعرف بعبادة الكادر، وغلق باب مبنى المجلس الشعبي الوطني بالكادنة لكي لا يدخل إليه رئيسه الذي لم يكن إلا أحد مناضليه وقادته وغيرها من المواقف التي كان المراد منها القضاء على شخصية هذا الحزب وريادته.
لا تزال هذه الصورة ماثلة لدى الرأي العام وهو يتابع نزول قيادة الحزب إلى معترك الحملة الانتخابية والصعوبات التي تعترضه في سبيل أداء حملة انتخابية عادية بعيدة جدا في حجمها ومحتواها وفرص الإقبال عليها عن تلك التي كان ينشطها في عهد بوتفليقة يوم كانت تجند له وسائل الدولة ويسخر لها الولاة وتوضع تحت تصرفه إمكانات كان يوفرها رجال المال الدائرين به. يلاحظ المتابع لمشاركة حزب جبهة التحرير الوطني في الانتخابات التشريعية ضحالة خطاب قيادته بالرغم من محاولة بعض المترشحين إنقاذ الموقف، حيث وصل الأمر بأمينه العام إلى حد اتخاذ الشعوذة السياسية في تجمعاته عندما دعا سامعيه إلى اعتبار الرمز رقم 07 الذي منحته القرعة لحزب جبهة التحرير الوطني إشارة ربانية بالنظر إلى ارتباطه بخلق سبع سماوات والطواف سبع مرات وعدد أيام الأسبوع والسبع المثاني وغيرها من الإشارات التي تدل على أن حزب بعجي هو قدر الجزائر الرباني.
هذه هي المرة الثانية التي تفك السلطة فيها الارتباط بحزب جبهة التحرير الوطني ويوضع أمام الواقعية السياسية. المرة الأولى يوم أخرجته انتفاضة أكتوبر 1988 إلى العراء بعد أن دفعت إلى التخلص من الأحادية الحزبية ودفعت به بالتالي إلى الرضا بالتنافس مع تيارات أخرى فقبلت قيادته الجديدة وعلى رأسها عبد الحميد مهري الخوض ضمن قواعد اللعبة الجديدة. كانت تلك فرصة لمهري ومن حوله للانتقال بحزب جبهة التحرير الوطني من جهاز سياسي إلى حزب بإمكانه أن يكتسب قدرا من الاستقلالية عن السلطة ويتحول إلى قوة اقتراح بدل البقاء كقناة إيصال ديماغوجية لتوجهات السلطة. ظل مهري على هذا النهج سبع سنين جعل فيها من حزب جبهة التحرير الوطني لأول مرة منذ الاستقلال حزبا معارضا، يتناول الشأن السياسي الداخلي خارج البلاد، وتتهمه السلطة القائمة بالتآمر والخيانة والدعوة إلى التدخل الأجنبي بل اضطر السلطة القائمة ذاتها إلى إنشاء تجمع سياسي ضم فصائل من الإدارة والعسكر والمقاومين ومنظمات الأسرة الثورية فاز بالانتخابات التشريعية عام 1997 بعد شهرين فقط من إنشائه. لكن قبل ذلك تعرض مهري لمؤامرة علمية عصفت به لتمهيد الطريق لإعادة “الابن الضال” إلى البيت بعد غياب طويل. كان قادة الحزب المحنكون آنذاك من أمثال يحياوي ومساعدية وبن حمودة وحجار يدركون قيمة الفعل التاريخي لمهري غير أنهم في النهاية اختاروا الواقعية السياسية بعدما أدركوا أن إخراج حزب جبهة التحرير الوطني من رعاية السلطة كمن يخرج السمكة من البحر.
يتبع