أقلام

حول ما قيل عن توقيف صنصال

التناوش في أفق اكتمال الوعي التحرري

يخطئ من يعتقد أن التاريخ المشترك للأمم قابل للتجاوز والقطيعة والطي النهائي والسهل كما هو الحال مع الوثائق الارشيفية المهملة، ذلك لأن هذا التاريخ قد غرس بأشيائه في جينات الكينونة الوطنية لهذا الطرف كما لذاك، أشياء قابلة للاشتعال والاشتغال الاستراتيجي والتكتيكي في سياق مواصلة السعي لكسب وتحقيق المصالح الدائمة باستعمال الذاكرة ومعادة استعمار الخيال وتوظيف مخزونهما، مما يؤكد بأن الفكر الاستعماري هو استمرارية في مقابل الفكر التحرري الذي هو أسمى من الاستقلالية دلالة أو هكذا يتوجب أن يُفهم.
كل ذلك ما فتئت تكشف عنه تضاريس العلاقات الجزائرية الفرنسية مذ افتكت البلاد استقلالها قبل أزيد من ستين عاما، إذ استمر التناوش بين الطرفين بشأن كل الأمور سواء صغرت أم كبرت في المعايير، وثقلت أم خفت في الموازين، والتي أتضح أن مفهوم الاستقلال بالنظر دلالاته المحمولة في وعي الكثيرين منا، ليس بقادر في خطاب هاته العلاقات، على تصفيتها (الأمور)، لكون تلكم الدلالات لا تنفث إلى عمق التاريخ، حيث سبقت الذات في نطاق التشكل والانبثاق، الأحداث، وهذا ما لا يدركه الغائصون في وحل لغة التداول بخفيف بعدها الصحفي والإعلامي عموما .
وقد أوضحت التجربة أن فرنسا الاستعمارية هي التي تقابل دوما الجزائر المستقلة وتتعامل معها وتنظر إليها وفق هذا المنظار، وليس الجزائر المتحررة كما ينبغي ويقتضي أن يترسخ في وعي الناس جميعا، ذلك لأن هذه “الفرنسا الاستعمارية”، لا تنفك في أسلوبية تعاملها مع ما تعتبره ميراثها وامتدادها الطبيعي، عن وعيها الاستعماري واعتبار نفسها مصدر وجود كل مستعمراتها المستقلة القديمة منها والحديثة، وجودا كاملا غير منقوص في اللغة في التاريخ وفي الجغرافيا، بل والسياسة والاقتصاد، وكل من حاول الحيدة عن ميراث هذا الخط الوهمي الممتد أفقيا، سيلقى منها غيا، سواء بالتطويع والاكراه، لكن مع الجزائر، وبفضل الخصوصية النفسية لإنسانها وبخلفيتها وانتمائها لدائرتين حضارتين كبيرتين الإسلامية والعربية، ظل من الصعب السيطرة على النقاش الوطني فيها وتوجيهه في كل أبعاده الثقافية والسياسة والمتعلقة بالهوية وأثرها على النسيج الوطني العام.
لكن هذا لم يثن الفرنسيين على مواصلة الكد والجهد عبر تفعيل عديد المستويات في عملية التناوش المستديمة هذه من أجل مواصلة عرقلة الوعي الجزائري في مسار استكمال تحرره من تبعات فكرها الاستعماري وثقيل ما يحمله من أشياء صنعت الحضارة الفرنسية والأوروبية معا في ظل غياب الاسهام الحضاري والثقافي العربي والإسلامي الجذر الطبيعي والقاعدة الأساسية اللذين تستمد منهما الذات الجزائرية حضورها في التاريخ.
ومن أهم تلكم العناصر تظل اللغة الفرنسية التي لأسباب بعضها موضوعية وأخرى دونها، لم يُحسن التعامل السياسي والثقافي معها حيث عولجت دوما بالمقاربة الاستقلالية وليس التحررية، أي بمنطق الجغرافية لا التاريخ، من قبل سلطة دولة الاستقلال، وفق المقولة الشهيرة المأخوذة عن الكاتب الجزائري كاتب ياسين “اللغة الفرنسية غنيمة حرب” عوض أن تؤخذ بمقولة الروائي الآخر مالك حداد “أنا المنفي في اللغة الفرنسية” فهي بذلك بقيت سلاحا في يد فرنسا يتم اعماله بشكل مدروس في كل مسعى للحيلولة دون ترك الجزائريين يتمثلون أنفسهم ويستوعبوا ذاتهم في التاريخ والسياسة.
فكما أشرنا في أكثر من مقام، لم يكن اختيار توقيت منح جائزة غونكور للروائي الفرانكوفيلي كمال داود بريئا، إذ أنه جاء في سياق مرحلة جديدة من النقاش الجمهوري بالبلاد على صعده الكبرى السياسية والثقافية والاقتصادية، حيث تبدو التوجهات تتنوع والطروحات تتعدد، كما أنه جاء في سياق وضع إقليمي استثنائي صنعته حركة 07 أكتوبر بفلسطين المحتلة، حيث الاجماع الجزائري الشعبي منه والنخبي السلطوي ومنه المعارض حول التأييد التام للحركة والدعم المادي والمعنوي المتوال لها إلى أن تحقق أهدافها.
ليأتي بعدها ما ذُكر من توقيف الكاتب المتصهين والمجاهر بتصهيونه بوعلام صنصال في مطار الجزائر الدولي ليس على خلفية تصهينه طبعا وإنما لأسباب متصلة بممارسته المهنية السابقة كإطار تقني سابق في البلاد، حيث أعقب ذلك انفجار اعلامي وثقافي في فرنسا لم يرى له شبيه، رغم أن عديد الكتاب والروائيين اختفوا في دكتاتوريات إفريقية وعالمثالثية لم يلقوا من نخب فرنسا واعلامها همسا ولا ركزا.
وقبلها كانت الزيارة الموصوفة بالتاريخية للرئيس الفرنسي ماكرون للمغرب في مناكفة واضحة للجزائر، من خلال ما صرح به وما وقعه عليه من اتفاقات مع الجانب المغربي مقابل الاعتراف بمقترح الحكم الذاتي كأساس لحلكة مشكل الصحراء الغربية المحتلة والذي تؤكد عديد الأصوات المغربية ذاتها أنه كان مقترحا فرنسيا خالصا، لم يزد المغرب عبر عاهله من النطق به وإخراجه من السرية إلى العلنية ليس أكثر.
فاستعمال اللغة الفرنسية بوصفها أساس الثقافة الأمة فيها كما هو الحال مع لغة كل ثقافات الأمم الأخرى، ومصدر انتاج المعرفة فيها، اتضح أنه ربما سيكون الأخير في معركة الفصل التاريخي بين الجانبين، أي في سياق الإصرار على الإبقاء على القبضة الاستعمارية والسيطرة بها على الوعي الجزائري لا سيما في ظل ما حاق ولحق بمشروع بناء دولة الاستقلال من فشل وإخفاق، وما يواجهه به الجزائريون من مثابرة وجهد على التحرر الفكري والثقافي بالتمركز حول اللغة رغم ما يثار حولها من شبهات وتشكيكات يرام بها التشويش عليها في مسار انبساطها التام باعتبارها لسان أمة في عرفانها وبرهانها.
فكأنما فرنسا بتتويجها لكمال داود ودفاعها عن بوعلام صنصال تفتح جبهة أخرى في سياق التناوش المعتاد والدائم الذي تهدف من خلاله لاستبقاء عناصر التبعية لها عبر توظيف ما تبقى من روابط لم يفصل في طبيعتها بعد الوعي الوطني في الجزائر، ولا حتى في طبيعة التعامل معها، في إشارة فاصلة حول غياب المشروع السياسي الوطني لدى النخب السياسية والثقافية على حد سواء.
بشير عمري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى