
بقلم: صالح عوض
يقول البعض: لقد تكسرت سيوفنا وتلعثمت كلماتنا وهجرت الخيول فرسانها وضاعت صرخات فلسطين في الهواء ولا مجير ذلك لأننا لم نعد عربا.. فعندما كنا عربا، كنا سيوفا مشرعة في وضح النهار، وكلمات بينة ناصعة كحد سيوفنا، وصهوات خيل تعشق الفرسان، ورايات لا تنتكس..كنا فرسانا يرهنون العمر بالشرف والكرم والعرض.. لا يضام المستجير بهم، و لا تضيع سدى استغاثة الحرائر.. الموت في ظلال السيوف أحب إلى قلوبهم من العيش الذليل في ظل نيران كسرى وصليب قيصر، فكانوا وعدا إلهيا في لحظة انبعاثهم يزيحون الظلم عن وجه الأرض.. في خمسين عاما انساحوا شرقا وغربا حتى أصبحت دمشق عاصمة خلافتهم بمساحة أكثر من 15 مليون كيلو متر مربع من وسط آسيا والصين حتى وسط أوربا وحدود فرنسا.. من هؤلاء القوم؟ إنهم أجدادنا.. فهل ضاع العرب وتبخروا وجاء دور أعطوا الدنية لعدوهم، أما هي انتكاسة وتنقشع؟
في مرحلة التردي يريد البعض تصديرها على أنها قدر الأمة الذي انتهت إليه.. نفتح في جدار التاريخ بوابة لنرى الصورة كما هي.. والملفت في هذا الجهد ان نلتقي بمن يهتف بحقيقة دورنا التاريخي واقتدارنا في صناعة الوقائع من أقاصي ممالك الإسلام التي ظن البعض أنها قد درست وانقلبت على تاريخها.. في الأندلس، حيث يطلق المفكر الكاتب الأندلسي المنحدر من ملقا، “أدولفو رييس” كتابه الفذ”عندما كنا عربا”.. ويكشف عن عميق التأثير في الوجدان والعقل الغربي ويدعو لإحياء الهوية الأندلسية بناء على روايات صحيحة.. ويشير بوضوح إلى خصوصية الهجرات العربية التي وحدت الجغرافيا وهيأت للحضارة وكان تحرك العرب حسب رأيه متفردا لا يشبه أي سلوك للإمبراطوريات التي نهجت طريق العنف والسلاح.. لقد قدم العرب النموذج الإنساني الأرقى في بناء الحضارة الإنسانية ونشر مبادئ الإنسانية والعلم.. أجل عندما كنا عربا كانت الشمس والقدس بأيدينا وعندما غابت من طبقات الحاكمين نخوة المعتصم وحزم عمر وعزيمة أبي بكر وعبقرية خالد وإقدام طارق وضاعت حكمة العلماء والفقهاء ضاعت القدس وغابت الشمس فهل إلى عودة من سبيل؟
تصحيح تاريخي:
لقد تعرض إرثنا الحضاري في الأندلس إلى عملية مكثفة من الإبادة العنصرية المقيتة وظن الكثيرون ممن تولوا أمر الحديث عن الأندلس في عشرات الكتب التي دونها عرب ومسلمون أنها صفحة تبخرت أو طويت إلى الأبد إلا أننا من حين إلى آخر لاسيما في المرحلة الأخيرة نشهد خروج كنوز من المعرفة والشروح التي تؤكد عميق ذلك الأثر في الأندلس واسبانيا الأمر الذي يعني تماما قوة هذا الإرث الحضاري وإمكانية نهوضه من جديد في المركز.. فهذه كلارا خانيس (برشلونة 1940)، الشاعرة المبدعة الموسوعية تعبر بفخر عن ارثها الحضاري فتقول في مقابلة صحفية لها مؤخرا: “إنَّ الإرث العربيَّ الأندلسيَّ في إسبانيا هو إرث رائع، وأعتقد أنَّه حتَّى الآن لم يُكتشف بشكل كامل، ولا سيّما تلك الكتب التي خُبِّئت خوفاً من الكنيسة. كلّ ما هو إسبانيّ يحمل شيئاً عربيّاً داخله. وبالنسبة إلى الشعر الإسبانيّ، إنَّ هذا الشيء العربيّ ينبض داخله ويرجّه، وشعر لوركا هو خير مثال على ذاك الأثر، إضافة إلى الأثر البارز حتّى الآن في كلِّ ما يظهر من شعر إسبانيّ. حتّى قبل لوركا، كان الأثر العربيّ واضحاً في الشعر الإسبانيّ التقليديّ، ولاسيّما عبر الموشَّحات الأندلسيَّة. بالنسبة إليَّ، أعتقد أنَّ الشعر الإسبانيَّ لم يصل إلى ما وصله اليوم إلَّا بسبب هذا الإرث المشترك مع العرب، وإذا ما رغبنا لشعرنا الإسبانيّ في التطوّر واستكشاف آفاق جديدة، فلا بدَّ لنا من التفاعل مع هذا الإرث العربيّ الغنيّ، إذ إنَّ تجاهله لن يفيد شيئاً، وسيكون بمنزلة طمس رأسنا كما تفعل النعامة”
كذلك صدر كتاب “الأندلس مؤخرا: الدلالة والرمزية” للمستعرب الإسباني الأستاذ الجامعي “بيدرو مارتينيث مونتابيث”، المتخصّص في دراسة العالم العربي المعاصر والعلاقات الإسبانيّة العربيّة، غطى الكتاب مرحلة تاريخية طويلة من 711 الى 1492 أي فترة التاريخ الأندلسي وتأثيره في الوجود الاسباني وأبرز بصمته في الهوية الثقافية للبلاد مؤكدا أن الأندلس يشكل مثالاً فريداً وقيّماً للالتقاء بين الغرب الأوروبي المسيحي والشرق العربي الإسلامي،. مؤكدا أنّ بصماته ما زالت راسخة إلى اليوم في إسبانيا القرن الحادي والعشرين. ويخلص المؤلّف إلى أنّ معالجة الواقع الأندلسي ليس باعتباره بأي حال من الأحوال غريباً عنّا، انه جزء من الواقع الإسباني، ليس بلغة الواقع الذي “كانَ” و”وُجِد”، لا بل هو النموذج الأروع والأكثر تعقيداً وشفافيةً الواقع التاريخي المتوسطي المُغلَق، من دون أن يخمدَ أويزول.. ودعا إلى الإقرار بالبصمة العربية الإسلامية فى الثقافة الإسبانية. فالأندلس هى واقع مشترك بين العرب والإسبان، فالغرب الأوروبي في حاجة الى الشرق العربي الإسلامي، والعكس صحيح.. و يُنهى تأمّلاته بضرورة وضع الأندلس فى موقعها.. فالواقع الأندلسي ليس فقّاعة تاريخية عابرة أو مادّة جامدة أو مُعلّقة،إنّه مرجع أساسي، وهو أفق لا يعرف حدوداً. إنه يرى أنّ الأندلس واقع وإرث مُشترك، واقع قد وُجدَ، لكنّه لم يكفّ عن الكينونة والوجود بوصفه ماضياً لم ينطفئ، ونهاية لها استمراريتها.. فالنظرة إليه وتفسيره على هذا الأساس يُشكّلان ضرورة فكرية قبل كلّ شيء.
في هذا السياق يأتي قول الكاتب الأندلسي العظيم المنحدر من ملقا، أدولفو رييس: “أكثر ما يهمّنا في الواقع العربي الإسباني تلك الحيوية التي تَسِمه، فهو نموذج عن الأثر العربي الموجود فينا، يتحرّك كما الذكرى الحميمة التي نحاولُ استرجاعها”، ويتساءل: هل نجحنا في دمج العنصر الأندلسي الإسباني العربي دمجاً كاملاً عقلانيا فى إطار بحثنا فى الهوية القومية؟ وهل تخلّينا عن آليّات الطرح الغرائزية المعتادة.
و من وجهة نظر الكاتب: أنّ استمرارية الأندلس حقيقية، فريدة من نوعها، لا تضاهيها أى استمرارية أخرى، ولا تقبلُ بطبيعة الحال أى مقارنة محتملة مع غيرها من الوقائع المشابهة المفترضة، لجهةِ طابعها الهجين الملاصق: وهو الطابع الإسباني/العربي، الإسباني/الإسلامي، أو لجهة ما العلاقات التضمينية المتعدّدة والمعقّدة، ومنها تلك السياسية، والتي تُعدّ مهيمنة وفريدة من نوعها فى حالاتٍ كثيرة.
أما “إيميليو غونزاليس فيرين” أستاذ الفكر العربي والإسلامي في جامعة أشبيلية وهو واحدٌ من أشدّ المدافعين عن هذا التيار التاريخي، يؤكد في كتابه “قصة الأندلس” (2006 Almuzara) وفي كتابه الأخير 2018 “عندما كنّاً عرباً”، بأن هناك نوعاً من السخف، بتحديد العام 711 كتاريخ رئيسي لغزو عسكري بأبعادٍ دينية.. لقد دحض الكاتب فكرة الغزو وأبرز حقيقة أن المسلمين لم يغزوا الأندلس لبناء إمبراطورية وتغيير دين أهلها أو نهب ثرواتهم فالعرب لم يكونوا غريبين عن المنطقة لذا لم يفرضوا أنفسهم بعنف أو قوة فهم ضمن بنية التركيبة الداخلية للمنطقة، ويؤكد الكاتب الذي قضى نصف عمره باحثا في تاريخ الإسلام إنَّ الأندلس ليست ثمرة غزوٍ دينيٍّ أو حرب مقدسة، بل هي نتيجة عملية بطيئة من التّغيُّرات والتطورات العامة الشائعة آنذاك في محيط البحر المتوسط بأكمله، تعززت في شبه الجزيرة الأيبيرية بسبب انهيار المملكة القوطية”.
منذ البداية تتضح منهجية الكاتب في تغيير نظرة الأسبان نحو الإسلام، مميزاً فيه بين الثقافة، والدين والمجتمعات الحديثة.. إنَّ كتابه بمثابة دراسة في علم التاريخ والإسلام، وهو بهذا مثل رسالة للجميع بضرورة قراءة التاريخ دون مواقف مسبقة ودون إقصاء
ومن هنا تصبح فكرة الدفاع عن الأندلس كرمز تجسد لحظة التواصل بين أصحاب الديانات المختلفة المتجاورين وكيف أفاد هذا الحوار بالاحتكاك والانتقال المعرفي أوربا في ما وصلت إليه.. بهذا المعنى تبقى الأندلس، مبدعة مبتكرة نموذجية كالكلمة التي ابتكرتها: الموشّح. أي المعزوفة الخاصة بعناصر مختلفة مؤتلفة، إنسانياً، ثقافياً، حضارياً وتاريخياً.
تاريخ دام:
لاشك أن هناك نهضة علمية تصحيحية في إسبانيا لقراءة تلك القرون في حياة الجزيرة الأيبيرية وتعتبر هذه النهضة بمثابة جهد فكري وثقافي كبير لاستعادة الوعي بالتاريخ الإسباني وثانيا لإدارة العلاقة الصحية مع الإسلام وفهمه في سياقه ولتجنيب هذه العلاقة عبث التشويش المقصود.
وهذه المحاولات تكشف حقيقة أن الوجود العربي في الأندلس لم يكن غزوا ولا حربا إنما هو هجرات في منطقة معروفة لهم ومعروفون لها.. فلقد انتشر العرب سابقا بعناوين أخرى منذ وصل الفينيقيون إلى الجزيرة وشمال إفريقيا وان كانت الهجرة الجديدة تحمل بعدا حضاريا وخطة لبناء مجتمع إنساني حضاري..
وفي المقابل نظرت الصليبية الحاقدة في القرون الوسطى الى هذه الحضارة الإنسانية الراقية الجميلة على اعتبار أنها ستفتن الناس عن الالتزام بتقاليد الكنيسة المحنطة المكبلة بالإقطاع وسياستها لتجهيل الناس وحرمانهم من حقوقهم الأولية.
ولكن لابد من التذكير بحالة انتهاء تلك القرون بوجهيها فساد الحكام المسلمين وملوك الطوائف، وفي الوجه الآخر للعملية قادة وزعماء عنصريون حاقدون ارتكبوا مجازر رهيبة في حق الحضارة والإنسان.
ولكن إنصافا لأجدادنا ولتاريخهم المجيد لابد من القول أنهم قاتلوا عشرات السنين ودافعوا عن حضارتهم الإنسانية وبعد حصار طويل لمدينة غرناطة وهي آخر قلعة إسلامية في بلاد الأندلس وبعد اجتماع العلماء والفقهاء والقادة في قصر الحمراء اختاروا من يفاوض الملك فرديناند ملك اسبانيا على شروط التسليم ،وفي يوم الجمعة 21 محرم سنة 897 ه الموافق ل 25 من نوفمبر سنة 1491م قام أبوعبد الله الصغير آخر ملوك بني الأحمر بإمضاء اتفاقية جاء فيها:
“أن للمورسكيين أن يحتفظوا بدينهم وممتلكاتهم وان يخضع الموريسكيون لمحاكمة قضاتهم حسب أحكام قانونهم وليس عليهم ارتداء علامات تشير لكونهم موريسكيين كما هو الحال مع عباءة اليهود .ليس عليهم دفع ضرائب للملكين المسيحيين تزيد على ما كانوا يدفعونه .لهم أن يحتفظوا بجميع أسلحتهم ما عدا ذخائر البارود، يحترم كل مسيحي يصبح موريسكيا ولا يعامل كمرتد .إن الملكين لا يعينا عاملا إلا من كان يحترم الموريسكيين ويعاملهم بحب وان اخل في شيء فانه يغير على الفور ويعاقب و للمورسكيين حق التصرف في تربيتهم وتربية أولادهم “.
ولقد تعهد الملكان الكاثوليكيان ويضمنان مرة أخرى بدينهما وشرفهما الملكي بالمحافظة على المعاهدة بما يلي: “أن ملكي قشتالة يؤكدان ويضمنان بدينهما وشرفهما الملكي ، القيام بكل ما يحتويه هذا العهد من النصوص ، ويوقعانه باسميهما ويمهرانه بختميهما”.
إلا أن القائدين الصليبيين لم يلتزما بالاتفاقية ونكثا بعهدهما وتوجها منهجيا للانقلاب على الاتفاق فقد تم تحويل مسجدي الطيبين والحمراء إلى كنائس ومسجد غرناطة الأكبر إلى كاتدرائية. ثم جاء معاملة المسلمين من أصل اسباني بالمرتدين والزج بهم في السجون وتنصيرهم بالقوة، ثم جاء تحويل كل المساجد إلى كنائس ثم جاء دور انتهاك الحرمات..الا ان كل محاولات التنصير والاضطهاد قد فشلت وهنا بدأت عمليات إبادة المسلمين الذين تصدوا لهذه الجرائم من خلال ثورات استمرت ما يزيد عن قرن أي إلى غاية 1609 حيث قام الملك فيليب الثالث بطرد كل المسلمين نهائيا من اسبانيا والأندلس واستغرقت العملية قرابة خمس سنوات إلى غاية 1614 م.
ألسنا الأولى:
بلاشك نحن بحاجة لجرعات إعادة الثقة بأنفسنا فضلا عن ضرورة تصحيح الرواية التي تم تعميمها عن وجودنا في الأندلس ودورنا الحضاري نحو أوربا الغربية.. ولكن من المهم الآن في ضوء ذلك أن ننبه إلى خطورة نشر جو الانهزام بعد ما أقدم عليه حكام الإمارات المتحدة وبعد ما تم من فضيحة تحت أقبية جامعة الدول العربية حيث اسقطوا مشروع القرار الفلسطيني وتركوا موضوع صياغة علاقات مع الكيان الصهيوني حقا سياديا لكل نظام عربي منهين بذلك آصرة الأمة ودورها..
يتم الآن عمل منهجي مكثف لتعميم منطق التعاطي مع الواقع ودفع دول عربية أخرى الى الاعتراف بشرعية وجود الكيان الصهيوني وإقامة علاقات إستراتيجية وأمنية معه وتقود دول عربية وازنة هذه العملية ويجد الفلسطينيون أنفسهم وحيدين في الساحة ويصيب البعض منهم ومن العرب وهن وخوف من المستقبل القريب..
إن حشد الحديث عن الأندلس الآن من على ألسنة الأندلسيين إنما هو بمثابة استحضار لدورنا الحضاري الذي اغتالته الهمجية الصليبية وهو يكشف عن تنامي الإقرار لنا بأننا امتلكنا في مرحلة طويلة القدرة على التأثير في المسيرة البشرية وهذه هي طبيعة امتنا، وان انسياحنا نشر اللغة والآداب والعلوم والدين بمعنى أن هذه الأمة عميقة متمكنة مستحيلة لا يستطيع احد أن يحد تدفقها.. وهكذا تصبح عملية استحضار دور امتنا ضرورية تماما للرد على الانهزام..
والحديث عن الواقع التافه الذي يتبوؤه حكام وأجهزة إعلام وطابور خامس من الإعلاميين ليس إلا نشازا في تاريخ أمتنا التي تسير لاستعادة دورها واسترداد القدس تتويجا لانتصارات ضرورية في النهضة والوحدة وحمل رسالتها وان شباب الأمة الغيارى لن يترددوا في شق الطريق نحو الانتصارات والله غالب على أمره..
تعليق واحد