أسوأ ما قد تبتلى به الأمم في مساراتها التأسيسية، هي الذاكرة الانتقائية في السياسة وصراعاتها، تلك الذاكرة التي تروم توجيه الوعي قسرا باتجاه محدود ومحدد سلفا، خدمة لقضية ما وحسما (ظرفيا) لصراع نشأ في الماضي ويستمر في الحاضر، وطبعا يستند أصحابها ذلك التوجيه القسري في مسعاهم، على القوة كأداة عملية غير علمية ولهذا فهي ذات مفعول آني تتلاشى مع الزمن الآني، فالوعي كما أصول الشجر في قعر الأرض تنشد مصادر الماء لتتغذى منها، فإنه بدوره يترسخ ويتفرع بجذوره مع الوقت باحثا عن مصادر الحقيقة لينمو ويكبر بها.
فما أُعيب أكثر على التجربة الوطنية بالجزائر، ليس الأطروحة التاريخية الرسمية وهول ما سارت عليه من تجاوز لحقائق كبرى، مراعاة لظروف الولادة الوطنية العسيرة بعد الاستقلال، حيث الصراع على السلطة وقتها بلغ في مديات عنفه ما أنذر بانزلاق إلى التجربة الكونغولية حسب المؤرخ الكبير محمد حربي، لولا موقف الشعب وامتناعه عن الانخراط في ذلك الصراع وحكمة البعض عبر التنازلات التي قدمها تضحية من أجل ترك الاستقلال يأخذ مجراه في البلد، إنما العيب كان منهجيا فيما بعد لدى النخب السياسة التي أظهرت فشلا في التعامل واستعمال التاريخ للتعبير عن الأزمات التي واكبت تجربة الدولة الوطنية منذ الاستقلال إلى اليوم.
والسؤال الذي يطرح اليوم، هل احتاج المجتمع إلى تعتيم مقصود وتبديل لبعض الحقائق، كوسيلة إجرائية اضطرارية لعبور مرحلة القلق الوطني الكبير الذي اشتعل مع أولى النزاعات التي ظهرت بين قادة الثورة في بدايتها واستمرت معها إلى ما بعد الاستقلال؟
لا يمكن في سياق كهذا إلا أن تتعدد الأجوبة والقراءات وتختلف بين التيارات والمجموعات، في الجيل الواحد حتى، فما بالك بالأجيال المتلاحقة التي أخذت تتعامل مع التاريخ السياسي للبلاد بكثير من الاسترابة حتى لا نقول الاستنكاف والعزوف التامين، والسبب يظل في هذا الإخفاق المنهجي في التعامل مع هذا التاريخ بين كونه سياسيا ووطنيا في الوقت ذاته، كما أسلفنا، من قبل الذين يرتجعون إليه في محاولة لمعرفة سياق الاكتمال البنيوي للمشهد السياسي الوطني وعلى رأسه منظومة الحكم باعتبارها المتغلغلة في زمكان البلد أي في تاريخه وجغرافيته.
من عوائق هذا الإخفاق المنهجي هو ذلك السعي الدؤوب والدائم للتركيز على فترة التأسيس الجمهوري وما واكبه من خلافات في الرؤى والمصالح بين الفاعلين فيه، باعتباره أساس ما ستشهده الجزائر من أزمات في تجربة دولة الاستقلال، مع ما لذلك من حقيقة وأهمية، على اعتبار أن قيام دولة الاستقلال هذه، لم يتم بمحض التوافق والوفاق كما كانت تشير إليه الأطروحة الرسمية طيلة العقود الثلاثة الأولى لتحرر البلاد من الاستعمار، وإنما جرى الصراع بحدة بين الفرقاء وتصافوا الحسابات بينهم دما وسجنا ونفيا، ولم يكونوا في ذلك بدعا في التاريخ وما حفل به من تجارب ثوريةـ بل إن هذا التاريخ يقر بحصول ما هو أبشع من تجربة الجزائر في الاقتتال الثوري وصراعات فاعليه البينية بعد الانتصار على الآخر.
فالتركيز على هذه الفترة باعتبارها لوحدها سبب الأزمات التي طالت مسيرة البناء الوطني فيما بعد، ستظل مسألة غير مبنية على شيء من المنطق والموضوعية اللازمين في مثل هكذا تجربة، على اعتبار أن الخلافات التي حدثت قبل الاستقلال تولدت عن ظرف خاص وفي سياقه الثوري والتاريخي الخاص، وبالتالي سيظل من العبث العودة دوما إلى تفاصيله بصفتها التفسير الوحيد والدائم لكل ما تلا ذلك من مواقف ورؤى ومشاريع.
هذا يقود حتما إلى ضرورة الدعوة إلى أن يتجه العقل السياسي الوطني صوب البحث فيما طرحته رجالات الحسم في الصراع على السلطة من أفكار فيما بعد الاستقلال، والأكيد أنه كانت ثمة أفكار جديدة وطارئة شكلت بدورها مجالا جديداً وفصلاً آخرً في التنافس والصراع سواء حول مشروع المجتمع أو مصير السلطة فيه، وإلا ما استمر القمع والسجن والنفي كأساليب في التعامل مع ذلك الاختلاف والصراع؟
فمجلس الثورة الذي أطاح ببن بلة مثلا، تقلص عدد أعضائه بشكل متتال ومهول بسبب الاختلافات التي حدثت بين أعضائه، بلغت حد الخلافات حول مشروع الثورة لفترة ما بعد الاستقلال، بما يعني أن الفاعل الثوري في الجزائر كانت له رؤى متعددة لمشروع الثورة حتى داخل “القصة الاشتراكية” التي كانت المتبناة إذ ذاك من الجميع بما يوشك أن يكون إجماعا.
فما الذي دعا مثلا قائد أحمد لرفض مشروع الثورة الزراعية الذي استوحاه الرئيس الراحل هواري بومدين من التجربة اليوغسلافية للمارشال جوزيف بروز تيتو؟ لو لم يكن له رؤية نقدية مؤسسة على معرفة عملية سابقة بالنهج الثوري التنموي، واستحالة أن يغدو تقليدا أمميا لا يراعي في تفاصيله الجوانب المحلية الخاصة؟
فالثغرة التاريخية المنهجية التي يعاني منها العقل السياسي في الجزائر، وهو يرصد ظواهر التحول العميقة للسياسة في المجتمع، من خلال ما تطرحه نخبه، سواء منها الفاعلة في الحقل السياسي أو بالأحرى تلك التي كانت فاعلة فيه أيام حرب التحرير الوطني وتجلى ذلك في مذكرات ما كتبت في هذا الخصوص، حيث ركزت على الأحداث من زوايا ذاتية، أو النخب الناقلة أي التي تدرس التاريخ عبر مقاربات علمية محضة – هذه الثغرة – تبدو أوزونية بحكم أنها تتسع باتساع الرقعة الزمنية لدولة الاستقلال، ولا سبيل لمعالجتها من غير إحداث شكل من أشكال القطيعة المنهجية مع الأساليب السابقة في التعامل مع التاريخ الوطني باعتباره أحد عناصر الأزمات السياسية التي عرفتها البلاد في شتى مراحل حركية البناء الوطني.
كما أن هوة هذا الفراغ هاته، هي من يعجز العقل السياسي على الاكتمال والاستواء على عوده، لكون شرط الانسيابية والاتصالية المرحلية في التجربة الوطنية، غير متزن منهجيا في بعدها التاريخي، الكثيرون لم يكونوا على معرفة ببعض الفاعلين الثوريين الذين نشطوا في الثورة وبعدها قبل أن ينسحب بعضهم ويهرب البعض الآخر إلى المنافي، من بومعزةـ مهساس وقايد أحمد وغيرهم إلا بعد الفترة الدستورية التعددية الأولى! ولكن إلى اليوم قليل من يدرك سبب انفصالهم الثوري عن السلطة، ومحتوى خلافهم معها.
بشير عمري