
إذا كانت الجزائر قد تحصّلت على استقلالها السياسي في 5 جويلية 1962، فإنّ استقلالها القانوني لم تدركه -بصفة رسمية- إلّا في 5 جويلية 1975، لكن بمحض إرادة نواب المجلس الوطني التأسيسي تحت رئاسة فرحات عباس. كيف حصل ذلك؟ هذا ما يجيب عنه المقال التالي:
- المجلس الوطني التأسيسي يصادق على قانون سريان التشريع الفرنسي
في صيف 1962، وبمجرد حصول الجزائر على الاستقلال الوطني، استفتى الشعب الجزائري على أمر تشريعي جد هام له مكانة تأسيسية، وهو الأمر رقم 62-11 الخاص بعرض مشروع قانون يتعلق باختصاصات ومدّة سلطات المجلس الوطني. وتتمثل مهام هذا الأخير: في تعيين حكومة مؤقتة والتشريع باسم الشعب الجزائري والإعداد والتصويت على دستور جزائري. كما حُددت مدة سلطات المجلس بسنة كاملة ابتداءً من يوم الاستفتاء أي 20 سبتمبر 1962، وهذا ما يعني أن صلاحية المجلس تنتهي وجوبا يوم 20 سبتمبر 1963. بعد مضي أكثر من ثلاثة أشهر من الانتخاب على المجلس التأسيسي، أدرك النواب أنّه يستحيل عليهم القيام بالتشريع في كل الميادين والقطاعات والتخصصات، وملْآ الفراغ القانوني الناتج عن استرجاع السيادة الوطنية. لم يجد نواب المجلس من حيلة تشريعية لملئ هذا الفراغ القانوني إلّا اللجوء إلى المصادقة على القانون رقم 62–157 المؤرخ في 31 ديسمبر 1962، الرامي إلى تمديد -حتى إشعار آخر- لمفعول التشريع النافذ إلى غاية 31 ديسمبر 1962. ومما جاء في عرض الأسباب المُرفق للقانون: “أن الظروف غير مواتية لتزويد البلد بتشريع كامل يستجيب لاحتياجاته وتطلعاته، ولكن يستحيل ترك البلد بدون قانون. لذلك كان من الضروري تمديد مفعول التشريع النافذ إلى غاية 31 ديسمبر 1962 فيما عدا الأحكام المخالفة للسيادة الوطنية، وذلك إلى غاية المصادقة على تشريع جديد”. وضم القانون 3 مواد فقط، وجاء في المادة الثانية: “أن الأحكام المخالفة للسيادة الداخلية والخارجية، والتي لها طابع استعماري وتمييزي وتلك المخالفة للحريات الديمقراطية تعتبر لاغية “.
- حضر المجلس التشريعي وغابت القوانين الأساسية في عهد الرئيس أحمد بن بلة
كان على المجلس التأسيسي ومن بعده المجلس الوطني في عهد الرئيس أحمد بن بلة، إصدار أكبر عدد ممكن من القوانين الأساسية قصد تعويض التشريع الفرنسي. لكن ذلك لم يحدث نتيجة الظروف السياسية التي مرّت بها البلد، وكذا بسبب الصراع القائم بين الحكومة والمجلس التشريعي حول الصلاحيات التشريعية لكل طرف، باعتبار أنّ مجال القانون لم يكن محددا لا في الأمر التشريعي الذي استفتى عليه الشعب، ولا في دستور 1963 الذي صادق عليه الشعب أيضا. لم يقم المجلس التأسيسي في مجال التشريع إلّا بإصدار 29 قانونا وذلك في فترته التأسيسية التي دامت سنة كاملة. ومن أهم القوانين الصادرة في هذه الفترة نذكر: قانون الجنسية الجزائرية وقانون المالية السنوي والقانون المحدد لمميزات العلم الوطني الجزائري والقانون المتضمن إنشاء المجلس الأعلى للقضاء والقانون المتضمن قانون الاستثمارات. أما المجلس الوطني الذي دامت فترته 21 شهرا، فقد صوّت على 35 قانونا، فيما اتخذ الرئيس بن بلة 16 أمرا تشريعيا، بعضها متعلق بالإجراءات المتخذة ضد المعارضة المسلحة، كإنشاء المحكمة الجنائية الثورية، وإحداث المحكمة العرفية، وإنشاء لجنة لمصادرة أملاك الأشخاص الذين يمسون بمصالح الثورة الاشتراكية. من الواضح أن الاهتمام بالتشريع غلب عليه الطابع الأمني والسياسي، لذلك استمر سريان التشريع الفرنسي لفترة طويلة.
- غاب المجلس النيابي وحضر بقوة “التشريع وفق الأوامر” في عهد الرئيس هواري بومدين.
بعد الانقلاب مباشرة، تمّ حل -ضمنيا- المجلس الوطني المنتخب في عهد الرئيس أحمد بن بلة، وأوكل للحكومة سلطة التشريع وفق الأوامر. فطن هواري بومدين إلى ضرورة الإسراع في جزأرة القانون، فقام بإصدار العديد من القوانين السيادية قصد تعويض التشريع الفرنسي، بدءً من سنة 1966. لقد شهدت هذه السنة إصدار القانون الأساسي العام للوظيفة العمومية وقانون الإجراءات المدنية وقانون الإجراءات الجزائية وقانون العقوبات والقانون المتعلق بالمساعدة القضائية. أما سنة 1967، فهي الأخرى عرفت إصدار قوانين أساسية لتعويض التشريع الفرنسي منها: قانون الصفقات العمومية، والقانون البلدي وقانون تنظيم مهنة المحاماة والتوقيع على أصول الأحكام القضائية. استمرّ العمل على هذه الوتيرة وشهدت السنوات اللاحقة صدور قوانين أساسية، لكن غلب عليها الطابع الاشتراكي والثوري، وبقي التشريع الفرنسي ساري المفعول في الأمور التقنية كالمسائل المدنية والتجارية والمالية والجبائية.
- بومدين يقرر “الاستقلال القانوني” يوم 5 جويلية 1975.
في سنة 1973، أصدر هواري بومدين الأمر رقم 73-29 المؤرخ في 5 جويلية 1973 والمتضمن إلغاء القانون رقم 62-157 المؤرخ في 31 ديسمبر 1962، الرامي إلى تمديد -حتى إشعار آخر- لمفعول التشريع النافذ إلى غاية 31 ديسمبر 1962. وأعطى هذا النص مهلة سنتين، أي إلى غاية 5 جويلية 1975 قصد جزأرة كل النصوص التشريعية وإلغاء مفعول التشريع الفرنسي الذي بقي ساري المفعول بعد الاستقلال قصد تغطية الفراغ القانوني الذي كانت تعاني منه الإدارة الجزائرية. وقد جاء في حيثيات هذا الأمر: “نظرا إلى الاستمرار في تطبيق تشريع مفروض على بلدنا يتنافى مع الاختيار الاشتراكي، وبما أن هذا التشريع يحمل أيضا العلامة الثابتة من الإيحاء والروح الاستعماريين وكذلك الميز العنصري والاجتماعي، ونظرا إلى أن العمل بهذا القانون لم يزل يقف عثرة في سبيل السير الحسن والسريع إلى تشييد مجتمع اشتراكي”. في الحقيقة، جاءت هذه الحيثيات متناقضة مع أحكام القانون الذي صادق عليه نواب المجلس التأسيسي في 31 ديسمبر 1962. لقد أكّد هذا القانون، كما سبق بيانه، على إلغاء كل الأحكام التي تتناقض مع السيادة الداخلية والخارجية والتي لها طابع استعماري وتمييزي وتلك المخالفة للحريات الديمقراطية. ولم يكن هذا القانون مفروضا من قبل السلطات الاستعمارية، وإنما كان اختيارا سياديا من نواب الشعب. وقد عمل بومدين بهذا القانون مدة عشر سنوات أي من الانقلاب العسكري إلى 5 جويلية 1975. وهذا ما يوحي أن هذه الحيثيات كان لها طابع سياسي لا أكثر.
تمّ في هذه الفترة (73–75) صدور قوانين أساسية عوّضت التشريع الفرنسي، نذكر منها: قانون تحرير تجارة التصدير والقانون المتضمن شروط استيراد البضائع والقانون المتعلق بإلزامية التأمين على السيارات وبنظام التعويض عن الأضرار والقانون المتعلق بإصلاح التنظيم الإقليمي للولايات والقانون المتضمن إحداث مجالس قضائية والقانون المتضمن قانون المرور والقانون المدني والقانون التجاري وعدة نصوص تشريعية لها علاقة بقانون العمل والقانون المتعلق بالمخطط الوطني للمحاسبة والقوانين الجبائية. نشير أن بعض القوانين صدرت بعد 5 جويلية 1975، كالقانون المدني والتجاري اللذين صدرا في 26 سبتمبر 1975، والقوانين الجبائية التي صدرت في ديسمبر 1976، وتتعلق بقانون الضرائب المباشرة والرسوم المماثلة لها وقانون الرسوم على رقم الأعمال والقانون المتضمن قانون الطابع والقانون المتضمن قانون الضرائب غير المباشرة وأخيرا القانون المتضمن قانون التسجيل.
- بعض القوانين الفرنسية بقيت سارية المفعول ضمنيا
بعض القوانين الفرنسية التي لها علاقة بالمالية العامة تمّ العمل بها بعد 5 جويلية 1975 ولكن ضمنيا، أي دون التأشير عليها. لقد تمّ العمل ضمنيا بقانون الجمارك الفرنسي إلى غاية إصدار القانون الجزائري في جويلية 1979، كما تمّ العمل بالقانون العضوي المتعلق بالقوانين المالية الفرنسي إلى غاية صدور القانون رقم 84-17 المؤرخ في 7 جويلية 1984، المتعلق بقوانين المالية، كما تمّ العمل بقانون المحاسبة العامة الفرنسي إلى غاية صدور القانون الجزائري للمحاسبة العامة وهو القانون رقم 90–21 المؤرخ في 15 أوت 1990 والمتعلق بالمحاسبة العامة. وبصدور هذا القانون الأخير، تكون الجزائر قد جزأرت كل قوانينها، وألغت عمليا كل التشريع الفرنسي، ولو أن هذا الأخير بقي مرجعا أساسيا للمشرع الجزائري.
محمد سعيد بوسعدية: باحث حر