
روبورتاج/ أمين بن لزرق
ودعت مدينة غليزان، قبل أيام فقط، أحد رجالاتها المخلصين، ممن وهبوا حياتهم خدمة للصحة العمومية وخدمة المحرومين والمساكين، محمد بوشريعة “طبيب الفقراء ” كما يسميه أهل المنطقة، الذي لم يتوان يوما في تقديم يد المساعدة للمحتاجين واليتامى، وظل يقبض 50 دينارا كتسعيرة للكشف الصحي لأكثر من ثلاثة عقود من الزمن.
وتوفي هذا الطبيب عقب إصابته بفيروس كورونا القاتل، الذي ألزمه مصلحة الإنعاش إلى أن فارق الحياة بمستشفى محمد بوضياف، متأثرا بهذا الفيروس اللعين، الذي غيب أحد محبي فعل الخير وطبيب الفقراء، الذين سيفتقدون لخدماته التي ألفوا الاستفادة منها طيلة سنوات كثيرة .
هذا الطبيب الرمز ظل يتكفل بتقديم خدمات صحية مميزة طيلة السنوات الماضية دون كلل ولا ملل، إلى أن وافته المنية، والشيئ المثير في هذا الطبيب أنه كان لا يطلب أموالا باهضة مقابل الفحوصات داخل عيادته البسيطة، سوى 50 دينارا !
و أشتهر المرحوم بوشريعة بتسمية بطبيب الفقراء، لعلاجه المرضى بأسعار زهيدة في عيادته البسيطة بمسكنه العائلي، الذي كان يكتظ يوميا بعشرات المرضى من الجنسين و من مختلف المناطق و حتى المقيمين بالخارج الباحثين عن العلاج، كانوا يلجؤون إليه لمدى تجاوبه مع المرضى وطريقة معاملته الرصينة التي لم يجدوها بالمستشفيات والعيادات المتخصصة .
و بوفاته فقدت ولاية غليزان، طبيبا شعبيا ماهرا اشتهر بعلاج كل الأمراض ومعرفته الدقيقة لكل الحالات خصوصا المستعصية منها ويجيد التعامل مع الناس ولايبخل عليهم بالنصائح والإرشادات، والذي رفض كل الإغراءات والتهديدات من أجل رفع تسعيرة العلاج التي ظلت لثلاثة عقود من الزمن في حدود 50 دينارا !
و عرف عن المرحوم بوشريعة، بساطته و طيبة أخلاقه و إتقانه للعمل، حيث لم يكره يوما في علاج المرضى خصوصا الفقراء ولم يبخل عنهم يوما ببسط يد المساعدة لهم، ما جعله يلقى الإشادة من أهل الاختصاص محليا ووطنيا.
و أثار خبر وفاة الطبيب بوشريعة، حالة من الحزن و الأسى بين سكان المنطقة، بعد أن نعاه آلاف المواطنين و من مختلف ربوع الوطن عبر مواقع التواصل الاجتماعي لأن الولاية حقا فقدت طبيبا لا يعوض والذي سيفتقده الجميع بخاصة الفقراء والمساكين .
تحدى كورونا وظل يساعد المرضى ..
محمد بوشريعة أو طبيب الفقراء ورغم الجائحة التي ألمت بالجزائر وسائر دول العالم، لم يتوان إطلاقا في معالجة مرضاه من يقصدون عيادته الواقعة في قلب مدينة غليزان، حيث كان يداوي المرضى على إختلاف أعمارهم ومشاكلهم الصحية وحتى المصابين بالكورونا، ولم يكن يأبه على الإطلاق بخطورة الفيروس ولم يستسلم لشيئ واحد وهو إحترام مهنته ومساعدة الناس وتقديم يد المساعدة .
تروي إبنة الطبيب البكر لجريدة الوسط التي حلت ببيت المرحوم بحي مونفيزو بغليزان أنها كانت تشتغل برفقة والها الطبيب بعيادته وفي العديد من المرات كانت تنصح والدها الطبيب بتوخي الحذر في التعامل مع بعض الحالات المشتبه في إصابتها بكورونا وتحمل أعراض الإصابة إلا أنه في كل مرة يطمئنها بأن الله معه وسيحفظه من أي سوء إنطلاقا من نيته الطيبة في خدمة الناس ومعالجتهم وعدم قدرته على ترك الناس تموت وبإستطاعته أن يساعدهم مهما كلفه الأمر .
وتقول البنت لجريدة الوسط أنها كانت دوما تخاف على والدها من التعرض للإصابة بالفيروس الذي لا يرحم لكن في كل مرة تجده أكثر عزما وثقة على مواجهته وعدم الإستسلام، وتضيف أن والدها كان على دراية تامة بخطورة الفيروس وسرعة تنقله من شخص لآخر وكان شديد الحرص على صحته وصحة مرضاه، ولم يكن ذلك الشخص المستسلم أو المهزوم، حيث كان يقترب بشكل عادي من المرضى ويقوم بفحصهم وكأن لا شيئ ولسنا في زمن كورنا، وهنا تشير بأنها كانت تتدخل في عدة مرات لتحذيره من الإقتراب من المرضى لكنه وبطريقة مهذبة وثقة عالية يرد عليها بإبتسامة عريضة ويطمئنها بأنه يتمتع بصحة جيدة وعن منأى من الإصابة بهذا الفيروس .
أصيب بكورونا ودفع حياته ثمنا لمساعدة المرضى ..
وفي الوقت الذي كان فيه طبيب الفقراء يزاول مهامه بشكل عادي بعيادته الطبية، وتردد المرضى عليه بشكل مستمر ومنهم من كان يحمل أعراض الإصابة بالفيروس المستجد، كان الطبيب بوشريعة حريصا كل الحرص على تفادي الإصابة رغم احتكاكه اليومي مع المرضى، لكن وقع لم يكن في الحسبان ليتسلل الفيروس الخطير لجسد الطبيب وبدأت أعراض الإصابة تظهر عليه، وهنا أظطر المرحوم للتوقف عن العمل لفترة ثلاثة أيام حاول من خلال لها مداواة نفسه بنفسه وتناول الدوار المناسب دون أن يظهر في ثوب المريض، بل كان طبيب نفسه وبدا جد حريص على صحته للتخلص من هذا الفيروس.
وتروي إبنته أن والدها أدرك بأن الفيروس قد وصل إليه من خلال احتكاكه اليومي مع المرضى، ليقوم بحجر نفسه في المنزل خوفا على باقي أفراد عائلته، وقاوم الفيروس إلى غاية تدهور صحته نوعا ما وعدم قدرته على المقاومة في المنزل، ليتم نقله للمستشفى بغليزان من أجل تكثيف العلاج تقول إبنته لجريدة “الوسط”، حيث تم وضعه بمصلحة الكوفيد وحظي بعناية مركزة من قبل الطاقم الطبي لتتدهور حالته الصحية تماما وبدأ الفيروس يتمكن منه إلى أن فاضت روحه الطاهرة لبارئها .
50 دينار تسعيرة الكشف منذ ثلاثة عقود
كان طبيب الفقراء في غليزان شريفا عفيفا ومحترما، لم يتخل يوما عن الفقراء وظل يساعدهم إلى آخر يوم من حياته المهنية، وكان لا يقبض الكثيرعن المرضى مقابل ما يقدمه من خدمات صحية جليلة، فالمرضى لا يدفعون له سوى 50 دينارا جزائريا منذ أول فحص أجراه سنة 1985 وهو تاريخ افتتاح عيادته الطبية، وهي التسعيرة التي ظل يقبضها إلى يومنا هذا من الفقراء، وإضطر للاستجابة للتسعيرات المفروضة من قبل الدولة التي تم رفعها لـ100 دينار ثم 200دينار، لكنه كان يقبض سوى 50 دينارا من الفقراء والمحرومين ومجانا من بعضهم ممن لا حول ولا قوة لهم .
وعلى الرغم من أن تسعيرة 50 دينارا التي كان يقبضها من كل مرضاه دون إستثناء تبدو قليلة مقارنة بأطباء آخرين إلا أنه كان دوما راضيا بها وإستطاع بذلك أن يكسب قلوب المرضى وعامة المواطنين ممن يقصدون كل مرة عياته الطبية بأعداد كبيرة ويعمل لساعات طويلة في اليوم تمتد لآخر اليوم دون كلل ولا ملل، وتجده مستمتعا بملاقاة مرضاه رغم كل ما يبذله من جهد خلال عمله .
قصة 50 دينار وصية الأب للطبيب
يروي نجل طبيب الفقراء أن المرحوم كان متواضعا ومحبا للفقراء والمساكين، لأنه عاش فقيرا ومحروما منذ صغره، وتربى في حي شعبي بسيط ” مديوني” في وهران، إذ عاش حياة صعبة جدا بخاصة عقب سجن والده الذي كان محكوم عليه إبان الإستعمار الفرنسي، حيث كان الأخ الأكبر في عائلته وعانى كثيرا وعاش بمساعدة الجيران رفقة أفراد عائلته، حيث يقول بأن والده المرحوم تأثر كثيرا لحجم التضامن والتكافل الذي لقيه رفقة عائلته من قبل الجيران وأبناء حيه ما جعله يتذكر تلك المعاناة وقرر أن يجتهد في دراسته وينجح ويحلم بدراسة الطب لمساعدة المحتاجين.
المرحوم كان منذ صغره يحلم أن يكون طبيبا ويعالج الفقراء والمساكين وهو ما كان يقوله لأقرانه في المدرسة، إلا أن حقق حلمه ودرس الطب وتخرج من كلية الطب ونال شهادة الدكتوراه في الطب وأصبح طبيبا يعالج الأمراض وبعد تجربة غير طويلة في مجال العمل مع الضمان الإجتماعي قرر المرحوم بوشريعة أن يفتتح عيادة طبية خاصة وكان هدفه الأسمى تقديم مساعدات للفقراء وفرض تسعيرة زهيدة مقارنة بباقي الأطباء لا تتعدى 50 دينار، ظلت تسعيرة لعدة عقود في متناول الفقراء .
تهديدات وتحرشات من باقي الأطباء!
تعرض طبيب الفقراء للكثير من المضايقات من قبل بعض الأطباء الخواص ممن لم يهضموا فرضه لتسعيرة زهيدة وإعتبروا ذلك بإنقاص من قيمة الطبيب وحاولوا عدة مرات أن يجبروه على رفعها ووصل الحد إلى التهديد، حسب ما رواه شقيقه الأصغر لجريدة الوسط ، أن المرحوم كان يتعرض بإستمرار لضغوطات مهنية ونفسية وصلت إلى التهديد والتحرش به وتحرير شكاوى ضده لكنه كان في كل مرة يصر على إبقاء تسعيرة الكشف كما هي إلى أن أجبرته مصالح الضمان الإجتماعي على رفعها حسب التسعيرة القانونية المقدرة بـ100 دينار ثم 200 دينار .
يضيف شقيق المرحوم أن طبيب الفقراء كان لا يقبض سوى 50دينار من المرضى الذين إعتادوا على دفع تلك القيمة المالية غير آبه لتحرشات باقي الأطباء وكان دوما يعتبر نفسه طبيب الفقراء ولا يمكنه ان يتخلى عنهم وكان أيضا يعالج بعضهم بالمجان ممن يتعذر عليهم دفع تلك الستعيرة الزهيدة، ويقتني حتى الأدوية من ماله الخاص لهاته الشريحة من خلال توجيههم إلى صيدلية مجاورة لجلب الدواء دون إحراج المرضى الفقراء .
تعليق واحد