
لقد كان من النتائج السريعة لنزول القرآن الكريم وتتبع أقوال وأفعال من أُنزل عليه، في كيفية تطبيقه هو نشوء مجموعة من العقلاء تحاول أن تفسره وتفهم مقاصده وذلك سعيا إلى تمثله معرفة وسلوكا ومنه نستطيع أن نقدر أن كل ما أُنتج من معارف وأفكار وعلوم وفنون في تاريخ الحضارة الإسلامية العربية.. إن نضعها تحت مسمى “فكر إسلامي” وخاصة ذلك الفكر الذي كتب باللغة العربية في الغالب وان كانت هناك لغات أخرى، ومع اتساع رقعة ما سمى قديما بلغة الفقه السياسي دار إسلام في امتداد يكاد أن يشمل نصف الكرة الأرضية وتعاقب تاريخ يكاد أن يضم أكثر من أحد عشر قرنا، مرٌ هذا الفكر بمراحل ازدهار جد متطورة ومراحل تراخ ومراحل جمود تم فيها الاكتفاء بترديد ما وصلت إليه الحضارة الإسلامية سابقا على أساس أن عصرها الذهبي. بلغت فيه درجة الكمال في كل شيء، يجب أن نأخذ هنا المعنى الدلالي للحضارة ببعديه الثقافي المعرفي والعملي الشامل أي لكل ما ينتجه عقل الإنسان وما تصنعه يده.
ومن هنا من حقنا أن نطرح السؤال التالي إذا كان الإسلام كدين نزل كاملا تاما وكهدي رباني واضح وهذا امتثالا لصريح القرآن بحيث يتأكد فيه معنى الكمال والتمام. (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا “وقول رسول الله إني تركت فبكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وسنتي”. فهل هذا يعني أن كل ما نتج من أفكار ومعارف من الأوائل غير قابلة للتجديد؟ أو بمعني أفصح، هل الفكر الإسلامي يتجدد أم هو ثابت لا مجال فيه للتغيير والتجديد؟!
ماهية الدين
في الحقيقة يجب أن نميز هنا، بين الدين كنص ثابت أزلي أبدي وذلك أساس قدسيته وتعاليه من حيث إنه مثال خالد وما ينتج من تفكير فيه هذا الأخير هو الذي لا بد أن يكون حاصل تفاعل بين العقل والنص أي حاصل قراءة وفهم له، وهذا قد كان محور التجادل منذ العصر الأول بين من يرى أنه لا بد أن نتمسك بفهم الأوائل فقط تصور وسلوك لأنه الأفصح والأوضح وما مهمة اللاحقين إلا التقليد فقط، وهناك من يرى أن النص لا يلزمنا بالتقليد وإنما يوجب علينا التأمل (أفلا ينظرون إلى….) والتدبر والتفكير والدعوة إلى ذلك بالحكمة والموعظة والمجادلة بما هو أحسن (وأدعو إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) والمتأمل يجد أن الرؤية الثانية هي التي سادت واستطاعت أن تبدع معارف وعلوما وفنونا مختلفة بداية من علوم اللغة والعقائد والفقه ونهاية بعلوم الفلسفة والكلام وعلوم الرياضيات والكون والفلك والنجوم والأرض والطب وما إلى ذلك من مظاهر الثقافة والحضارة
لقد كان لهذا الإنجاز الحضاري مساهمات حتى في يقظة أوروبا التي توجت بتقدم عقلي وعلمي هائل تكللت بشيوع فكرة التقدمية في بداية العصر الحديث ذلك أنه ليس أمرا اعتباطيا أو صدفة أن تبدأ شعلة عصر التنوير من تخوم البلدان الأوروبية المحتكة بديار الإسلام شرقا وغربا كالأندلس ودمشق وبغداد.
تجديد الفكر
وقد طرح مثل هذا الأشكال حديثا خاصة عن تجديد الفكر الإسلامي من كل مهتم ببعث مجد الحضارة العربية الإسلامية وهم طرف مهم فكثير من المفكرين وعلماء الدين الإسلامي والمثقفين أخرهم يتساءل الدكتور حسن الترابي. هل الفكر الإسلامي يتجدد وهل تجدده يعني الانسلاخ عن ثوابته أم يبقى ثابتا على ما تأسس عليه من منطلق أن المحور المحرك والمركزي لهذا الفكر هو الدين الإسلامي ويضيف أليس الديــن هديا أزليا خالدا لا مكان فيه للتجديد؟
يجيب: بلى.. الذي يتجدد ويتقادم ويبلى أننا هو الفكر الإسلامي والفكر الإسلامي إنما هو {التفاعل بين عقل المسلمين وأحكام الدين الأزلية الخالدة}. بمعنى أنه لا شك في أن الدين مجموعة أحكام عامة عن الكون والإنسان والله تتصف بالأزلية والخلود وصدقيتها المطلقة المستمدة من الوحي الذي لا يأتيه الباطل بأي معيار كان ولكن التفاعل معها والانفعال بها من حيث التصور والتطبيق هو ما يسمى فكرا والذي يجب أن يتجدد ويتغير ويتقادم مع تغير الأزمان وهنا تكمن حيوية الدين الإسلامي في كونه محفز على التجدد في كل قرن وكل جيل وهذا للتناسب والتكيف مع متطلبات ومستجدات الحياة.
التفكير في الإسلام
أما عقـــل الجيل من المسلمين الذي يضطلع بالتفكير في الإسلام فهو يتكيف بنوع وكمية المعارف العقلية. والتجارب التي يحصلها في كل زمان.. إذا ضاقت هذه المعارف ضاق وإذا اتسعت اتسع وقد كان وهذا دأب المسلمين. وفهمهم له هو سبب وجود العصور الذهبية ومثال ذلك أنه مع بداية انتشار الإسلام ورقعة المسلمين ظهرت عقول مبتكرة لصور تطبيقية للإسلام يتناسب مع الشعوب المختلفة والثقافات المتنوعة ومستوعبة لما تحمله من معارف عقلية وعلمية ومناهج تفكير فراح العقل الإسلامي يبدع ويدون في مختلف الفنون وصنوف العلوم ويدون المعارف ويضع لها القواعد. كعلم النحو وعلم المنطق وعلم الأصول لكل فن وعلم ويحصن الدين بمجموعة من الآلات والتي يتم من خلالها الحفاظ على الأصل من الدبن وكيفيات فهمه فنشأ علوم الفقه وعلم التفسير وعلم القراءات وعلم الحديث النبوي إلى آخره من العلوم وتوسعوا وتعمقوا في مناقشة والرد على الخصوم والمختلفين والمخالفين. وكل ذلك في إطار حركة فكرية قوية جدا ومبدعة كما هو في العصر الأموي والعباسي الممتد لقرون عديدة كلها كان فيها العقل الإسلامي فعال ومبدع ومتجدد باستمرار وحيوي ولأنه يتكيف وينفعل بالظروف الراهنة التي تحيط به وبالحاجات التي يحسها الناس وبالوسائل التي تتيحها ظروف الحياة ولكن ما أن توقفعن الفعالية واكتفى بالتقليد والترديد وعدم مواكبة التغيرات الاجتماعية للمجتمعات. حتى أصيب بالجمود والتخلف ودخل في مرحلة الانحطاط التي تعمقت حتى أن العقل الإسلامي لم يعد حتى قادر على فهم وإدراك ما أنتجه سابقا وانزوى إلىالسطحية والجمود والاكتفاء بالترديد والتقليد ولم تحدث له الصدمة المرعشة والمنعشة والمنبهة له إلا بعدما استفاق على فرق كبير بينه وبين شعوب اوروبا وهي تحتل أوطانه وتستعبد أهله وعليه ظهرت الدعوة إلى وجوب اليقظة وتحفيز العقل على التفكير والتجديد ووجوب العمل على الانبعاث الحضاري ولا يمكن حصول ذلك إلا بتجديد الفكر الإسلامي ولا يحصل التجديد إلا من خلال تغير طريقة عمل العقل بامتلاك ناصية المعرفة العلمية الحديثة وأساليب ومناهج التفكير العلمي وقد انبرى كثير من الدعاة وعلماء الإصلاح الديني والمفكرين المتأثرين بالمدنية الغربية بما حققته من إنجاز معرفي ومعاشي، على إعادة النظر في مضامين ومناهج العقل الإسلامي القديم وآثاره وتقديم قراءة جديدة مناسبة للعصر ومن هنا نفهم أعمال ودعوة السيد جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده والامام عبد الحميد ابن باديس والاديب والمفكر طه حسين وشكيب ارسلان وغيرهم كلهم يدعون الى وجوب تجديد الفكر الاسلامي منهجا ومضمونا وهدفا.. ذلك أن الجمود والتقليد لم ينتجا إلاالتخلف عن الركب الحضاري المتسارع في النمو والتطور ولم يخلفا إلا مآس وبؤس وشقاء في المعاش والكرامة وتدني في سلم رقي الأمم المعاصرة .
خاصية التفاعل
وخلاصة ذلك يحب أن يكون الفكر الإسلامي هو التفاعل بين عقلنا المتكيف بهذه العلوم، المنفعل بهذه الظروف مع الهدي الأزلي الخالد الذي يتضمنه الوحي والذي بينه الرسول صلى الله عليه و سلم…
وعليه فإن الفكر الإسلامي الذي يقدر أن يعيد المجد الحضاري (كنتاج تفكر تدبر بأمر رباني) هو جوهر الدين ومقصده لشموله مجموع الإنسانية وبالتالي عالميته من حيث إنه رسالة للناس كافة مطالب ومكلف بان يستوعب البشر كلهم وأن يفهم تنوعهم واختلافهم الثقافي وأن يفقه عاداتهم ومواريثهم الثقافية والمعرفية وأن يمتلك مفاتيح العلوم التجريبية العصرية لكي تكون دعوته لأساساته وثوابته التي لا شك أنها بوحي رباني حقيقي ناجحة ومحققة لمقاصده من خلال فكر متجدد متكيف مع كل هذه المستجدات الكبيرة ومنه فالجواب الذي يتصف بالصواب أن التفاعل الناجح مع الدين الإسلامي هو ذلك الذي يبدع في كل مرحلة فكرا جديدا متكيفا مع الظروف دون فقدان مقاصده الأساسية.
سراي مسعود