ليست المشكلة في ان لا تمتلك وعيا أصلا لأن في هذه الحالة، السؤال المقلق الباعث على التفكير غير موجود أصلا وهنا يحصل الهناء الحياتي حاضرا حضور يتسم بالتمام الكامل لأنه لاوعي بالزمان المتغير، ولا المكان المتحول.. فما أهنأ الحيوان غير العاقل وما أهنأ بعض من البشر الذي تغلبت فيه الطبيعة الحيوانية عن الخصوصية العاقلة…. (كالأنعام أو أظل)
وليست أيضا المشكلة في أن تمتلك وعيا متطابقا مع بداهته الفطرية لأن هذه الأخيرة ما تتضمنه من مبادئ أولية فطرية لا تحتاج إلا لمجموعة من التجارب الحياتية حتى يتم تفعيل كمونها لتنفجر إلى معارف مفيدة ونافعة للإنسان عبر امتداده التاريخي المكتف وذلك سر قدرته على إنجاز الحضارة وإضافة الجديد إلى ما حباه به الله. من خيرات في الطبيعة استغلها بطرق مختلفة ومتجددة
.. المشكلة الأخطر التي لها آثار مدمرة،وسلبية فهي في وجود الوعي الزائف والملفق والذي يتوهم أنه سليم ومنطقي وفعال.. والذي يبدأ يطرح نفسه. بموثوقية مطلقة أنه صحيح حقيقيا وفعالا،هذا النوع من الوعي المزيف ليس نتاج تفكير منطقي وواقعي وإنما هو نتاج تفكير سطحي مجانب لكل قواعد المنطق والواقع او نتاج اللا مفكر فيه. لما ينتج عنه من راحة نفسية وانفعالية تحدث حالة السعادة. والنشوة. في الذات فيتم التمسك به والدفاع عنه حتى ولو كان خرافيا.. انه نتاج الوهم فان تاريخ البشرية هو دوما امتداد طويل لزمن الوهم.. واحداثه المتجددة والجديدة هي لحظة صراع مع الحقيقة. التى لا تترسخ إلا بالصراع العنيف والتمرد. الدموي. كثيرا ما تمنحنا الاوهام السعادة وان كانت سعادة عبيطة (جنة الابله) اكثر ما تمنحنا إياه الحقيقة الساطعة الناطقة لانها حالة وعي قلق ومندهش وتساؤل مستمر لا يكتفي بالحل الواحد والنهائي لإدراكه استحالة معرفة النهائي. (الحقيقة المطلقة)
والوعي الزائف منطبق على زيفه وبالتالي لا يعي أنه ليس منطقيا. ولا هو واقعي وهنا المشكلة العويصة، ولكنه حالة سحرية هلامية السر كله في عدم إدراك هذه الحالة السحرية. التي تنتج تلذذا فائقا وبهيميا هو أمنية ملحة لكثير من البشر، أنه نعيم (ذو العقل يشقى في النعيم بعقله، وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم)
إن الوعي الزائف سلوك سحري. يشبع غريزة الشعب الكسول والجبان في العيش بهدوء. ودون قلق ودون بذل جهد لأن الجهد شقاء ما أمتع. الجهل والظلام لما يوفرانه من راحة واطمئنان.
.. ولكن نهاية الوعي الزائف هو الفناء في العدم بتلاشي متدرج وغير مؤلم، وهو في إدراك متأخر جدا أنه كان يعمل على إزالة ذاته منذ أمد ولكن انبثاق هذه الحالة من الوعي والتعقل في زمن غير مجدي ولا يمكن فعل شيء،
وهكذا دوما الشعوب التي تعمل على نشر الوعي المزيف لا تتلمس خطورة ما فعلت إلا عندما تتلاشى وتذوب. وتنعدم. لأنها لا تمتلك الجرأة على الشك فيما هو موروث ومعيق لها أو تسربت إليها حالة من الغبطة الكاذبة بوضعها المزري دون أن تعي أنه مزر وبائس كما يفعل الآن بعض من مثقفينا يوهموننا بأننا في أحسن حال وأفضل وضع من خلال نفخ يومي ومتكرر بان جميع اختياراتنا الفكرية والسياسية والاقتصادية سليمة وناجحة، وكأنها دعوة مبطنة لعدم التفكير بعمق ومعناه عدم الشك (ليس إزالة الشك وإنما منعه) ذلك أن الشكوك يلزم عنها التفكير والتفكير لا يلزم عنه إلا التميز بين الوعي الحق والوعي والمزيف..
صدمة الشك والخوف من التفكير
كأنها دعوة إلى تجنب الشك، لأن صدمة الشك.. إما أن تؤدي إلى الجنون والتمرد وإما أن تؤدي إلى الحق واليقين. بخلاف الذي لا ينتابه الشك فإن يبق أعمى وهو يعتقد أنه مبصر طيلة حياته. وهذا ما عبر عنه أبو حامد الغزالي بعدما عاشه وعاناه تجربة كفرد ولكن المشكلة أننا حتى الآن لم نعانه كمجتمع وأمة.
وعليه فإنه من الأفضل للعاقل (وأيضا للأمة) أن يشك في كل ما تلقاه من تصورات وأفكار وحتى في ما يصله من انطباعات حسية لا أن يتقبل الأمر كما ورد إليه أو ورثه وحتى الواقع كما تنقله حواسه.
كل عاقل من المفترض عقليا كإنسان وفي مرحلة من حياته المتنامية تنتابه لحظات شك من خلال وجود صوت داخلي يلح عليه أن يتساءل هل ما يحسه وما يشعر به وما يعرفه هو الحقيقة أم أن وراء ذلك حقائق أخرى وأوجه أخرى وأوضاع مختلفة…. ؟
وهنا يكون الأمر على صورتين. حسب استعداداته النفسية والذهنية إما أن يستمر في شكوكه متحملا حالة “القلق” الناتجة عن اللايقين واللاوثوقية المتولدة لديه فيسأل ويفحص ويدقق ويتأمل. فيفقد لذة الحياة ولذة النوم ويمج حالة الحيوانية ليتجاوزها لأن ألم الجهل واللامعرفة للحقيقة تؤلم وتؤرق حتى تنبثق له “أشعة شمس الحقيقة” والطريق الموصل إليها فتحصل له سعادة عظيمة وتسري فيه راحة وهدوء وفهم عميق لنفسه وحياته ومستقبله
والصورة الثانية هي أنه لا يتحمل القلق والشك فيلفظه ويرفضه ويرضى بما هو عليه ويقبل الواقع الذي هو فيه والأفكار التي زود بها ولُقِنها على أنها هي حقائق مطلقة الصدْقية ويكتسب حالة من الوثوقية المطلقة ولكنها مزيفة وكاذبة وهذا منبع الوعي المزيف. وذلك كله رضى بمرتبة الحيوانية أو الدونية التي تكسبه سعادة اللامعرفة والجهل، فلا يسأل ولا يفحص ولا يدقق ولا يفكر أصلا وهذا النوع هو الغالب في البشر فيعيش مهموما. بتلبية حاجات جسمية محضة متفننا في البحث عن أحسن الطرق التقنية الممكنة في إشباع هذه الشهوات وأيضا الشعوب التي لا تملك عقولا قادرة على الشك الصادم لما هو سائد ومعتاد فأنها تبقى حبيسة تخلفها. فما يسرى على الأفراد يسري على المجتمعات.
فيقبل الدين الذي هو فيه قد تدين، ونمط الحياة التي عليها تنمط وبنسج العلاقات الاجتماعية التي هو جزء منها وعلى أنوالها نسج فيتحيز لها ويتعصب بها فيجعل الرغبة والأوهام والخرافات والترهات حقائق لا تقبل الشك مطلقا ولا التساؤل حولها ويتصور أن أي مخالف وكل مختلف ومغاير ومتغير تهديدا وخطرا له ومن هنا تتكون من تصورات الأفراد “غير المفكرين” حراس الوضع القائم ويضفون عليه أردية التقديس والتعالي حتى لا يكون موضع تساؤل وشك ويتم المنع ولو من خلال سلطة عنف يتم شرعتنها
إن المتأمل في تاريخ الأشخاص من أنبياء وعلماء ومفكرين أن مجابهتهم بالعداوة والتسفيه والرفض الحقيقي هو لصدمة الشك التي أحدثوها في أقوامهم بدعواتهم وأفكارهم واكتشافاتهم فلم يتحملوا تغييرا ما هو مألوف وسائد ومتعود عليه بأمر جديد يحدث تغيرا في نمط حياتهم وفي تصوراتهم وفي استقرارهم.
لا شك أن الشك يحدث صدمة ولا شك أنه الطريق الوحيد لمعرفة اليقين.. فخير أن تشك وتعرف بذاتك الحق من أن تكون مجرد صورة مكررة ومشوهة وباهتة تتصف بالعته والبلاهة.
ولاشك ان المجتمعات التي تستلذ الوعي المزيف ولا تستمع إلا لمن يمدحها ويمجدها ولو بالأكاذيب والتخاريف ولا ترغب في ان تدرك ازماتها ونقائصها ومعوقاتها في الحركة ولا تحبذ الشك في موروثها الثقافي، ولا تتساءل عن طريقها الذي تنتهجه من حيث سلامته ونتائجه وترفض الوعي الحقيقي الذي ينبش ويحفر ويكشف عن النقائص ،والعيوب ولا تنتبه الى التفكير في المستقبل المقبل فهي مجتمعات سيكون تلاشيها من الوجود محقق لا محالة.
سراي مسعود