بقلم الدكتور محمد قدور/ المركز الجامعي عبد الله مرسلي -تيبازة
ذكثر هم المجاهدين الذين سجلوا إسمهم بأحرف من ذهب لكنهم اختاروا الظل بعد الاستقلال و مواصلة رحلة الجهاد ببناء الوطن و العلم ، في هذه الورقة سأتناول السيد محمد ابن مبارك غرنوق ابن قمار الذي عايش مراحل مهمة من الثورة و سجلها لنا في مذكراته لتكون عونا في كشف الحقيقة و كتابة تاريخ ثورتنا بأقلام ثورية ساهمت في الاستقلال و البناء.
ولد المجاهد محمد ابن مبارك غرنوق يوم20 ماي 1928 بمدينة قمار (واد سوف) مدينة العلم و الجهاد ، أين تلقى فيها تعليمه الأول على يد الشيخ أحمد لخضر في الجامع العتيق المعروف باسم “جامع سيدي المسعود”،ثم واصل تعليمه الديني في زاوية الطريقة التيجانية على يد الشيخ بلقاسم حوري ،ثم اكمل تعليمه في المدرسة الفرنسية ، و نظرا لشظف العيش و قساوة الطبيعة و صعوبة الحياة و تضييق الفرنسيين اضطر غرنوق إلى الهجرة إلى تونس أين عاش فيها عزيزا مكرما بين قوم لم يعتبروه إلا أخا كريما و إبنا بارا كيف لا و قد جمع صفات و خصالا جعلت منه محل ثقة و اعجاب كل من عرفه ،حيث يصفه صديقه الأستاذ عاشوري قمعون بأنه” خفيف الروح،سليم الطوية،طلق المحُيا،كريم ذو شخصية متفتحة،شابا في فكره حكيما و رزينا و متواضع ” ،فوجد إضافة إلى الترحاب،وجد في تونس أسباب العيش الكريم مما ساعده في تكوين علمي و ثوري جعله يكتب اسمه في التاريخ بمداد من ذهب ،و يُخلّد نفسه مع الشهداء و المجاهدين و الصالحين من بين الذين اصطفاهم الله في قوله ” منهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر و ما بدلوا تبديلا”
جاهد بنفسه في الثورة و كان ساعدا من سواعد الجزائر بعد الاستقلال حيث واصل طريقه لنهل العلم و المعرفة ،أين تحصل على عدة شهادات و كفاءات منها ،شهادة الأهلية و شهادة الكفاءة العليا ،إضافة إلى شهادة نهاية الدروس التحضيرية للالتحاق بالجامعة ثم شهادة الليسانس في التاريخ من جامعة الجزائر ،بعدها شغل عدة وظائف كلها في ميدان العلم و التدريس منها معلم ابتدائي ثم مدير ابتدائية و مدير مدرسة أساسية ثم مفتش في التربية . رحل عنا المجاهد محمد بن مبارك غرنوق يوم 28سبتمبر2020 تاركا ورائه إرثا من النضال ومذكرات وثّقت حقبة مهمة من جهاده و تاريخنا.
نشاطه الثوري:
بدأ محمد غرنوق نشاطه الثوري في أول الأمر في تونس بعدما انخرط في صفوف الاتحاد التونسي للشغل الذي كان يحمل هم العمال و المواطنين التونسيين على حد سواء و قدم قوافل من الشهداء على رأسهم الشهيد فرحات حشاد ،ثم الانخراط في الحزب الدستوري التونسي ليشغل منصب رئيس لجنة التحكيم التابعة لشعبة البلدية تونس ،هذا الأمر ساعد في تكوينه سياسيا مما أهّله ليلعب دروا مهما في الثورة التحريرية فيما بعد .دون لنا هذا النشاط الثوري في مذكراته التي جاءت تحت عنوان” مذكرات محمد بن مبارك غرنوق “ ،حيث تعتبر هذه المذكرات مادة دسمة لكل باحث شغوف بتاريخ ثورتنا تكمن أهميتها في قيمة الأحداث التي نقلها لنا و عايشها أو عايش جزء منها مثل قضية الشهيد السعيد عبد الحي و الموقف التونسي منها ،عباس لغرور ،الخلاف بعد مؤتمر الصومام و قدوم محساس إلى تونس ،شخصية طالب العربي ،كما حاول تسليط الضوء عن بعض الشخصيات المجاهدة المغمورة مثل الشهيد العربي بني ،الشهيد دروني رمضان ،الشهيد علي شكيري وغيرهم ،وبعض المواضيع الأخرى التي سلّط عليها الضوء لتكون إضافة للباحثين و المهتمين .سأحاول في هذه العجالة أن أتتبع مشواره و نشاطه الثوري من خلال ذكر بعض ما جاء في مذكراته.
- شهادته بخصوص قضية الشهيد السعيد عبد الحي :لا تزل قضية السعيد عبد الحي تسيل الكثير من الحبر إلى يومنا هذا وأسباب وظروف اعتقاله وتنفيذ حكم الاعدام فيه من طرف عمر اوعمران ،حيث كان محمد غرنوق شاهدا على أحداثها،الذي أكد أن عملهم كمجاهدي جيش التحرير بين 54/55 لم يتعد جمع الأموال سرا للثورة احتراما لسلطة و قوانين البلد المضيف حتى لا يتسببون له في مشاكل باعتبار أن الأمن والأمر لا يزال بيد الفرنسيين ،وقد تم اختيار السعيد عبد الحي لمهمة قيادة وتمثيل الجبهة في تونس لما يتمتع به من حكمة وصدق وإخلاص ،فاجمعوا على العمل تحت سلطته ،استطاع خلال فترة قصيرة من توطيد ركائز جيش التحرير في تونس سواء في التجنيد أو الدعاية او التكوين ،وبقي الأمر على هذا الحال حتى بداية 1956 أين بدأت الأمور بالتغير،يُرجع سببها صاحب المذكرات إلى تسرب قوة ثالثة بدعم من فرنسا إلى داخل الثورة التحريرية خاصة بعد استشهاد بن بولعيد أين أصبح عبد الحي يتلقى تعليماته من الشهيد عباس لغرور،لكن التغير او الخطأ الاستراتيجي الذي وقع فيه عبد الحي وسرّع بنهايته هو دعمه لجناح الصالح بن يوسف في صراعه ضد بورقيبة ،أدى هذا الأمر إلى خلق شرح بين اعضاء جماعته وصل لحد استعمال السلاح،مما جعل الحكومة- حسب غرنوق- إلى التدخل لصالح خصوم عبد الحي بتدبير مكيدة استطاعت خلالها السلطات التونسية بقيادة محجوب بن علي إلقاء القبض على جماعة السعيد عبد الحي ليلا و بطريقة غير اخلاقية وغير انسانية ،متحججين بأن ذلك جاء بأوامر من قيادة مجلس الثورة،هذه الأخيرة يقول صاحب المذكرات في شهادته أنها كونت مجلس بمحاكمة بأمر من أوعمران ويشرف عليه إيدير أين تم الحكم بالإعدام على 13 مجاهد منهم عباس لغرور و السعيد عبد الحي ،هذا الحكم لم يقبله السيد غرنوق بل وألمح إلى وجود مؤامرة،فكيف يحكم بالإعدام على مجاهدين بتهمة الفوضى ،ففي احكام الشريعة،الفوضوي مثل السفيه يكفي إبعاده عن المسؤولية وفقط وليس الاعدام.
- تنظيم الثورة في الأوراس تحت قيادة بن بولعيد: من المواضيع التي تطرق إليها تطرق محمد بن امبارك غرنوق في مذكراته تنظيم الثورة في الأوراس بقيادة الشهيد مصطفى بن بولعيد،رفقة كل من عباس لغرور،شيحاني بشير ،ابن عمر الجيلالي ،عاجل عجول وغيرهم من خلال اجتماع جانفي 1955 بالقلعة قرب عين شنين و اجتماع آخر بوادي طرة بالجبل الأبيض،أين رسّموا فيهما الخطوط العريضة للثورة ،ضبط خطة مواجهة العدو ،وتقسيم المناطق القيادية للتسيير الحربي التي كانت كما يلي :حمة لخضر على منطقة وادسوف ،بن عمر الجيلاني بالحدود الشرقية الجنوبية،لزهر شريط ناحية أم الكماكم،كما أُسندت القيادة لكل من شيحاني بشير،عاجل عجول ،عباس لغرور و البشير سيدي حني و كانت تعمل ضمن مناطق وادي جديدة والجبل الأبيض وبني بربال.كما تناولت مذكرات غرنوق ظهور بعض المشاكل حول خلافة بن بولعيد بعد اعتقاله سنة 1955،بمطالبة البعض من شقيقه عمر خلافته بدل شيحاني باعتبار هذا الأخير غريب عن المنطقة ،لكن البشير شيحاني انتصر في الأخير وزاد من تقوية عضد الثورة،فقام بتعيين كل من لزهر شريط على بئر العاتر ،علي عفيف على الونزة ،عمر البوقصي على سدراته و قتال الوردي على ناحية سوق اهراس ،من جهة أخرى حاول دعم الثورة وطنيا بإرساله محمود بوالطمين إلى الشمال القسنطيني و عبد القادر آكلي إلى المنطقة الثالثة اللذين استشهدا في كمين في نواحي برج بوعريرج،في الوقت الذي كان ينوي ارسال عمر البوقصي إلى الغرب .
- معركة الجرف و نهاية شيحاني و موقف عباس لغرور من بن بولعيد و مقتل جبار عمر في مذكرات غرنوق:يعود مبارك غرنوق إلى معركة الجرف الشهيرة ،وذلك بعدما اخبره باشاآغا خنشلة عن عزم فرنسا للقيام بمسح لجبال النمامشة ،ونصحه بالمغادرة إلى تونس ،لكن شيحاني وجد ان الفرصة مواتية لإثبات النفس فدعا إلى اجتماع في وادي الجرف قام فيه خطيبا يحث الناس على الدفاع عن الوطن والدين واللغة حيث قال:” لا حياة ممن لا يدافع عن وطنه،والجزائر ملك للشعب الجزائري وليس لفرنسا شبر واحد فيها ،ولا شك أن من بين الحضور من يسارع بالتبليغ عنا ،ولهؤلاء نقول :بلّغوا فرنسا بأمانة عن حقيقة المجاهدين..”، بعدها ينتقل غرنوق إلى التطرق لقضية تصفية شيحاني على لسان الوردي قتال، التي تعود إلى أسباب قديمة منها قضية مسعود معاش ومعمر لمعافي من مجموعة عباس لغرور، إضافة إلى إرسال شيحاني لأسلحة للمنطقة الثانية بناء على زيغود، حيث قام شيحاني بتجهيز فصيلة من المجاهدين ب24 رشاش مرفقين برسالة كتبها إلى زيغود يوسف جاء فيها “إن الأسلحة التي كنا ننتظرها من الشرق لم تأت بعد، و ما أسلناه إليكم قد غنمناه بدم الشهداء، أما أفراد الفصيلة فمن رغب منهم في البقاء معكم فاحتفظ به، وألا تُجردوه من سلاحه، وأما من فضّل العودة فزوده ببندقية مدنية يعود بها“، غير أن الوصية لم يعمل بها رفاق زيغود الذين تركوهم يعودون بثلاثة بنادق صيد فقط وصادفوا كمين في واد غرغر أين استشهدوا كلهم، هذا الأمر استغله نائبه عباس لغرور و اخذ يتحين الفرصة متهما إياه بالجهوية ومحاولة شيحاني لإضعاف المنطقة الأولى، ويعتبر الوردي قتال أن شيحاني ذهب ضحية للصراع بين الصالح بن يوسف و بورقيبة، أين حاول إرسال فدائيين لتصفية بورقيبة ، نقطة أخرى مهمة تناولتها المذكرات، وهي موقف عباس لغرور من بن بولعيد بعد فراره من السجن شهر نوفمبر 1955،حيث طلب من المجاهدين أخذ الحذر و الحيطة منه لأنه من الممكن أن تكون فرنسا سهّلت فراره لفتح مفاوضات معه. في نفس السياق جاء في المذكرات حديث على أن مقتل جبار عمر كان بسبب رفضه الامتثال لحضور اجتماع مع عجول و لغرور ،حيث قام عجول بإرسال مساعده عبد الوهاب عثماني الذي قتله بدون محاكمة أو استشارة البقية.و يعتبر قتال الوردي ان تصفية جبار عمر كانت تتمة لتصفية أنصار شيحاني مثلما جاء في الرسالة التي بعث بها عثماني إلى عجول “لقد بدأنا بجبار عمر وا لبقية ستأتي “، و بعد ان وقعت الرسالة في يد قتال الوردي حدثت مجموعة من التغييرات في القيادة في المنطقة مثل استخلاف عمارة بوقلاز على سوق اهراس.
- قيادة النمامشة و الصومام: يذكر المرحوم غرنوق انه بعد نهاية مؤتمر الصومام أرسل بن بلة سي أحمد بوزيدي ثم عبد الكريم السوفي إلى منطقة النمامشة لأجل رفض قراراته، في الوقت الذي خرجت فيه قيادة النمامشة إلى تونس من أجل لقاء أحمد محساس الذي جاء بتعليمات من بن بلة و خيضر لنفس الغرض، وحسب المذكرات فإن لغرور و جماعته لم يكونوا مقتنعين لا بجماعة الداخل ولا الخارج لذلك كانوا يفكرون في الخروج عن قيادة الثورة ، فدبروا مؤامرة لتصفية قيادة النمامشة جاءت تفاصيلها في المذكرات. ومن هنا بدأت محاولة الاستيلاء على قواعد الثورة في تونس مستغلين حادثة اختطاف الطائرة، العدوان الثلاثي على مصر، استسلام عاجل عجول و تحييد لزهر شريط و جماعته.
هذا التطاحن يعتبره صاحب المذكرات أنه انعكس سلبا على الثورة وأسس لسياسة الاغتيالات و التآمر و الدسيسة. إلا أن عبقرية الثورة و إيمان الرجال بالقضية كان اكبر من طموحاتهم الشخصية، فكانت الثورة هي من انتصرت في الأخير.
لا يكفي الوقت هنا للحديث عن كل التفاصيل الواردة في المذكرات لأنها عالجت نقاطا لا تزال محل بحث وتدقيق وتأكيد، لكن رغم هذا يكون المرحوم مبارك غرنوق قد وثّق لنا أحداثا هامة، إما كشاهد عليها أو قريبا منها نقلها عن شهود ثقاة.
رحم الله المجاهد محمد بن مبارك غرنوق وكل من ضحى من اجل الجزائر
لم نفهم هل هذه الحوادث عاشها هذا المجاهد ام انه نقل مثلما ينقل الجميع