يتعاظم دور الإعلام – تدريجيا– في حياة الأفراد والمجتمعات، وفى تنمية الدول وبناء الأمم، وتشكيل الوعي وصناعة الحضارات.
يستدعى ذلك من الباحثين والأكاديميين وخبراء الاتصال، أن يساهموا إلى جانب الحكومات وصناع القرار وراسمي السياسات، في بلورة مقاربة تشاركية واعية، تسعى إلى جعل الإعلام بمختلف أجناسه ركيزة للممارسة الديمقراطية، ورافعة للتنمية من خلال رؤية إصلاحية جديدة للحقل، تنبثق من رحم مؤسسيه ومنتسبيه وممارسيه، وتخلق جسرا للتواصل بين الأجيال الصحفية؛ سبيلا إلى التلاقي والتلاقح بين التجارب والخبرات، واستفادة اللاحق من السابق، ومساهمة الجميع في بناء صرح الثوابت والمشتركات، والنأي عن المهاترات والتجاذبات، وتجذير خيار الحرية المقترنة بقيم الوعي والمهنية والمسؤولية.
وتنطلق وسائل الإعلام الناجحة، في توصيل خطابها وأداء رسالتها من رسم استراتيجيات رصينة، تحقق غاياتها وأهدافها، وتحدد جمهورها ومتابعيها، وترصد طواقمها البشرية ووسائلها اللوجستية، وتجندها لخدمة محتويات ومضامين المادة الإعلامية؛ استلهاما لثالوث العملية الاتصالية: (المنتج – الرسالة – المستقبل).
وقد أصبح التخصص في عصرنا الراهن، في جميع حقول المعرفة أمرا لا غنى عنه، وخصوصا في حقل الإعلام؛ فهو جزء من متطلبات الإبداع والابتكار والجودة والإتقان، عكس التداخل غير المنهجي بين الوسائل الإعلامية، والنزعة الغريبة نحو الشمولية والموسوعية الموهومة، وما ينجم عنها من خلط للأدوار والتباس في الوظائف، وتشعب في الأنشطة وتشويش على الصلاحيات؛ يؤدى في المحصلة إلى فشل ذريع في جميع المجالات.
ولا يعنى ذلك الانغلاق والتقوقع، في عصر التطورات المتلاحقة والمتسارعة في تكنلوجيا الاتصال والمعلومات، وما أفرزته من ثورة رقمية وتقنية واندماج بين الوسائط المتعددة. إن وسائل الإعلام التقليدي مطالبة بالانفتاح على تقنيات “الإعلام الجديد” والاستفادة منها؛ لتنويع وسائطها وتوصيل إنتاجها وتوسيع قاعدة متابعيها، غير أن ذلك لا ينبغي أن يكون على حساب هوية المؤسسة نفسها، ومضمون الرسالة الإعلامية الخاصة بها.
لست من المولعين بالخوض في الجدال البيزنطي العقيم؛ المحتدم حول الإعلام التقليدي والإعلام الجديد.. أيهما أجدى من حيث الفاعلية والتأثير، ويذكرني هذا الطرح بقضية المفاضلة بين “الشعر العمودي والشعر الحر” في سياق نظرية الأجناس الإبداعية في تاريخ الأدب العربي الحديث. إن المسألة من هذه الزاوية ذات بعد شكلي خالص، في الوقت الذي يتعين النظر إليها من حيث المضمون والمحتوى والعمق الدلالي؛ فالجدة أوالتقنية ليست مزية فى حد ذاتها، بل هي قالب ووعاء، والعبرة تكمن في الفكر الذي تحمله والأنساق المعرفية والسوسيولوجية التي تحدثها في المستقبل والمتلقي.
الإعلام الجديد أو وسائل التواصل الاجتماعي أو صحافة المواطن والهواة، وغير ذلك من المصطلحات والمسميات، أصبح لها حضورها القوي وتأثيرها السحري وانتشارها الواسع، فهي سليلة اندماج التقنية مع حاجات الاستخدام البشري المعاصر لعملية الاتصال، غير أنها لا تشكل بديلا لوسائل الإعلام التقليدي، والعلاقة بينهما علاقة تكامل وتفاعل، لا علاقة إقصاء وإلغاء..!
والإعلام التقليدي قادر على المحافظة على جمهوره؛ من خلال تعزيز هامش الحرية وتكريس قيم الحياد والاستقلالية، وتطوير كفاءات ومهارات العاملين فيه، واعتماد السرعة والفورية في نقل الأحداث وتغطيتها بتجرد ومهنية عالية..!
ولذلك يميل بعض خبراء علم الاتصال إلى التأسيس لمصطلح جديد هو “الإعلام التقليدي الجديد“.. فهو تقليدي في احترامه للرأي العام ومصداقيته ودقته في مصادر الأخبار، وجديد باستعماله للوسائط والحوامل الرقمية، وتبنيه للتفاعلية وحضور المتلقي في العملية الاتصالية. ومع ذلك تبقى صناعة الإعلام المؤثر أكبر وأعمق مما يتصور البعض، ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى محتوى إعلامي قوي وعميق ومؤثر، يدعم قضايانا السياسية الوطنية الكبرى، ويعضد مسيرتنا التنموية ولحمتنا الاجتماعية، بغض النظر عن الوعاء الذي يقدم فيه هذا المحتوى، فالمصداقية والمهنية والمؤسسية هي العوامل الأساسية في تحقيق فاعلية وقوة تأثير الرسالة الإعلامية.
د. محمد ولد عابدين – أستاذ جامعي وكاتب صحفي موريتاني