أقلام

سيرة ومسيرة أحمد بن الطاهر سعيد النائلي المسعدي

فقدت الجزائر عموما ومدينة مسعد خصوصا، يوم الأحد الماضي07 ذي الحجة 1444ه/25 جوان 2023م، العلامة الشيخ أحمد بن الطاهر سعيد، وهو أحد رجالات الحركة الإصلاحية والفكرية بالمنطقة، وأحد خريجي المعهد الباديسي والجامع المعمور الزيتونة بتونس، نال شهادة الليسانس في التاريخ بجامعة بغداد سنة 1962م، وهو من الأساتذة الأوائل في تاريخ الجزائر المستقلة، وقد رحل الشيخ رحمه الله في صمت رهيب، ومن أجل كسر هذا الصمت وإعطاء حق هذا الرجل من الوفاء والتقدير والتنويه بسيرته والتذكير بفضائله، يأتي هذه المقال لردَّ الاعتبار لأحد علماء جمعية العلماء المسلمين بمِنْطَقَة مسعد وأحد أعلام الجزائر، لعلنا بذلك نرُد ولو بشيء القليل من العرفان لهذا الشَّيخ ولمِنْطَقَة مسعد العامرة.

1/- مولده ونشأته العلمية

بمسعد مدينة العِلم والعُلماء (تم ترقيتها مؤخرا إلى ولاية منتدبة)، ولد أحمد بن الطاهر سعيد العثماني النائلي، في30 جمادى الأولى 1354ه/30 أوت 1935م،نشأ في أسرة علمية صالحة محبة للعلم وأهله، تربي يتيما حيث توفي والده الطاهر سنة 1940م، وهو ابن خمس سنوات، ليتولى كفالته عمه الشيخ البشير إمام مسجد الأحباب آنذاك.
كان أبوه الطاهر يُتقن اللغتين العربية والفرنسية، حيث حاز على شهادة اللغة الفرنسية سنة 1911م، وعمل معلما للفرنسية بقصر الحيران، وبعد أن مرض والده رجع إلى مسعد،
وحرص والده الطاهر على تعليم وتحفيظ ابنه القرآن الكريم والمبادئ الإسلامية، حيث أوصى بذلك قبل وفاته بشهر تقريبا (المُتَوفَّى سنة 1940م) أحد أقاربه وهو الشيخ أحمد بن عبد القادر عثماني الزنيني معلم القرآن بمسجد (الوسط)، الذي عمل بتوصية والده فقرّبه إليه، فكان نِعم الشيخ ونِعم المربي إلى تلامذته.
حفظ – المترجم له – القرآن الكريم وأخذ مبادئ العلوم اللغوية والشرعية بمدينة مسعد على يد الشيخ أحمد بن عبد القادر عثماني الزنيني (1916- 2005م)، وهو أحد شيوخ العِلم بالمنطقة، تخرّج على يده العديد من حفظة القرآن الكريم، ثم التحق أحمد بالمدرسة الابتدائية الفرنسية من سنة 1941 إلى سنة 1950م.
أتمّ أحمد حفظ القرآن حفظا كاملا وعمره 14 سنة، كان يُساعد شيخه عند حلول شهر رمضان أين كان يُقدمه لأداء صلاة التراويح قبل أن يواصل دراسته بمنارة العلم قسنطينة.
وقبل التنقل إلى قسنطينة، كان للشاب أحمد نشاط في الحركة الوطنية بمدينة مسعد، حيث ذَكَرَ الشيخ أحمد بن الطاهر سعيد في لقاء له مع إذاعة الجلفة فيفري 2018م مع برنامج (صور من حياتي) للصحفية سامية بن عطاالله متحدثا عن نشاطه في الحركة الوطنية بأنّه انضم إلى حركة انتصار الحريات الديمقراطية نهاية الأربعينيات، وكان اجتماعات الحركة سرية بمسعد في منزل سي سالم بن لخضر علوي، وسي سايح بن الدّبَزّة وغيرها من الأعضاء.

2/- الشاب المسعدي في رحاب معهد ابن باديس بقسنطينة

بعد أن أتمّ حفظ القرآن حفظا جيّدا، تاقت نفسه للاستزادة من العلم، ارتحل الشاب أحمد بن الطاهر وكان عمره آنذاك 15 سنة إلى معهد ابن باديس بقسنطينة سنة1951م، الذي كان تحت إدارة الشيخ العربي التبسي، وحاز على شهادة الأهلية دورة 1955م، وقد أدرجت جريدة البصائر في سنتها 8 وفي عدد 226 بتاريخ الجمعة 18ذي القعدة 1374ه/ 08 جويلية 1955م، أسماء الناجحين في الامتحان النهائي لشهادة الأهلية جوان 1955م، وجاء الشيخ سعيد أحمد في الرتبة الثانية التي تضم تسعة ناجحين بملاحظة حسن، أمَّا الرتبة الثالثة بدون ملاحظة ضمت 31 ناجحا أي بمجموع 40 ناجحا، وقد شارك95 مرشحا منهم 77 شارك فعلا، وتخلّف 18 للمرض أو لأعذار مقبولة، نجح في التحرير الكتابي 42 ونجح نهائيا 40 نال منهم الجوائز09 وهم الطلبة المبرزون ومنهم ابن مسعد سعيد أحمد، بالإضافة إلى أحمد درار لتفوقه في المواد الشرعية، محمد شهرة لتفوقه في الكتابي وفي عموم المواد، قنار مزيان لتفوقه في المواد الرياضية وفي عموم المواد، صوفي حسن لتفوقه في عموم المواد، ابن واضح محي الدين، سي حاج محمد الشريف، غلام الله بوعبد الله، يخلف علي، سعيدي محمد، سعيد أحمد بن الطاهر وجمعيهم للتفوق في عموم المواد.
وصف الشيخ محمد خير الدين هذه النتائج بالباهرة، وذلك لأنها امتحان شهادة وليس اختبار انتقالي، وحسب ما جاء في جريدة البصائر، فقد أسند إجراء امتحان الشهادة إلى لجنة الجامعة الزيتونية العامرة وهذا بطلب من معهد بن باديس، وصلت اللجنة 25 شوال1374ه/18جوان 1955م، تكوّنت اللجنة من الأستاذ العلامة عبد القادر الزياني رئيسا وأساتذة الجلسة الحبيب بن الخوجة وصالح بن عبد السلام ومحمد الطوزي، وقد جرى الامتحان الأحد27 شوال1374ه/20 جوان1955م ولمدة أربعة أيام. وأقيم حفلا لتوزيع الجوائز، وقد تبرَّع بهذه الجوائز أعضاء اللجنة والشيخ محمد خير الدين والشيخ طاهر حراث ومحمد الإبراهيمي وغيرهم. وقبل ختام الحفل وقف الفائزون وعاهدوا الأستاذ محمد خير الدين ومشايخهم وأمتهم بالإيمان أن يهبوا حياتهم ونشاطهم لخدمة الدين واللغة والجزائر وأن يخلصوا لجمعيتهم جمعية العلماء، ثم أنشد الجميع نشيد الجزائر، شعب الجزائر مسلم.
وقد دَرَسَ الشيخ أحمد بن الطاهر على أساتذة فطاحل كبار منهم الشيخ عبد الرحمن الشيبان، الشيخ العلامة النائلي نَعيم النُّعيمي، الشيخ أحمد حماني والشيخ أحمد بوروح، والشيخ الحفناوي القنطري، والشيخ أحمد حسين والشيخ جغري، والشيخ أحمد بن ذياب والشيخ الطاهر حراث والشيخ العدوي.

3/- الشيخ أحمد الطالب الزيتوني

ارتحل الشيخ أحمد بعد ذلك إلى جامع الزيتونة الذي كان قِبلَة للطلبة الجزائريين، وقد وجد كل التوجيه والتشجيع من عمه الشيخ البشير والشيخ شونان محمد في مواصلة تحصيله العلمي في أكبر المعاهد الإسلامية، حيث هاجر في سبتمبر 1955م، حيث سُجل بالسنة أولى ثانوي، ورقم دفتره 35464، أين زاول الشيخ دراسته بالجامع الأعظم فنبغ ونهل من مختلف العلوم كالقرآن والفقه واللغة والحديث على يد كبار مشايخ الزيتونة، وبعد جد واجتهاد أحرز الطالب أحمد شهادة التحصيل في العلوم دورة جوان 1958م، وكان من الطلبة الناشطين في إطار جمعية البعثة الجزائرية الزيتونية لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين بتونس.
عند اندلاع الثورة التحريرية الكبرى في أول نوفمبر 1954م، كان الشاب أحمد بن الطاهر طالبا بالمعهد الباديسي قبل أن ينتقل إلى تونس، لم يكتف الطالب بتحصيل العلم بتونس، فقد كان ابن مسعد من الطلبة الناشطين في إطار جمعية البعثة الجزائرية الزيتونية لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين- كما أشرنا سابقا – وذكر الشيخ أحمد في برنامج (صور من حياتي) متحدثا عن نشاطه الثوري، فيقول أنّه انضم إلى إضراب الطلبة عن الدروس ومغادرة المعاهد والجامعات، الذي أعلنه الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين، من أجل الالتحاق بجبهة التحرير وجيش التحرير الوطني، ومن بين نشاطه بتونس أنّه كان يُستدعى لإلقاء محاضرات بتونس بعنوان: (وشهد شاهد من أهلها)، وذكر الشيخ أن الثورة التحريرية بقيادة جبهة التحرير أمرت الطلبة بالزيتونة بالانقطاع عن الدروس فورًا، أي قبل انتهاء امتحانات نهاية السنة الدراسية في شهر ماي، وانقطع الطلاب عن دروسهم واستجابوا الطلبة لنداء جبهة التحرير، والتحقوا بالثورة التحريرية، وعيّنتهم بحسب قُدرة كل طالب وحاجتهم له، فمنهم من دخل الجزائر والتحق بالجبال للقتال، ومنهم من بقي في الشرق الجزائري لتأمين دخول السلاح، ومنهم من اختارتهم الحكومة الجزائرية المؤقتة ضمن بعثتها إلى الشرق العربي للدراسة والتعريف بالقضية الجزائرية ومن بينهم أحمد بن الطاهر الذي كُلّف بالتوجه إلى بغداد سنة 1958م، وكان هو ثالث طالب جزائري حيث رافقه إلى العراق الشيخ العلامة محمد شريف قاهر والشيخ محمد فارح.

4/- دراسته ونشاطه الدعوي الثوري في جامعة بغداد

بعد نهاية تكوينه وتحصيله الزيتوني سنة 1958م؛ واصل الأستاذ أحمد دراسته العليا، وسُجل في قسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة بغداد بالعراق، وقد تفوَّق أحمد في دراسته خلال مدة أربع سنوات وهي المدة المقررة دون أي تعثر، إلى أن حاز على شهادة الليسانس في التاريخ سنة 1962م، وهي السنة نفسها التي حاز فيها المؤرخ يحي بوعزيز على شهادة الليسانس في التاريخ من جامعة القاهرة، وقد كلفتهما اللجنة المدرسية الوزارية عام 1969م بإنجاز كتاب تاريخ العالم الحديث للسنة الأولى ثانوي.
وعن نشاطه الدعوي للثورة التحريرية، فقد ذَكَرَ الشيخ أحمد أن قيادة الثورة كلّفت الطلبة بمزاولة تحصيلهم العلمي بالمشرق العربي مع العمل على التعريف بالقضية الجزائرية والثورة التحريرية هناك، وقد كلّفَت جبهة التحرير الطلبة الجزائريين بالتعريف بالنشاط الثوري في بلاد المشرق العربي، ومن بينهم الشيخ أحمد بن الطاهر، فكان في سوريا كل من: يوسفي محمد، وشنّاف عبد الرحمن، رماشي المداني، وفي العراق أحمد بن الطاهر سعيد برفقة خُميلة أحمد، الصافي بن عرفة، أحمد النوار، يعقوبي محمود، قربان الزبير، ومحمد بلخضر، عبد القادر غيلان، وكان الطلبة يلتقون في اجتماعات من أجل تكوين خلايا صغيرة وذلك من أجل البقاء على اتصال دائم بالثورة التحريرية، كما كانت له رفقة أصدقاءه زيارة إلى فلسطين وتشرّف بزيارة القدس.

5/- نشاطه بعد الاستقلال

بعد استعادة الاستقلال الوطني، عاد الشيخ أحمد إلى الجزائر أين عُين أستاذا للتعليم الثانوي بالمدية وسيدي بلعباس، ثم ناظرا بثانوية المنيعة سنة 1972م، ثم مديرا بثانويتي ورقلة سنة 1974م وسيدي بلعباس سنة 1979م، ثم عُين إماما خطيبا بمسجد أبي بكر الصديق بمدينة سيدي بلعباس بطلب من وزارة الشؤون الدينية لولاية سيدي بلعباس ووفق قانون التعاقد، ثم في مسجد أحمد بن تيمية ومسجد زيد بن ثابت في المدينة نفسها، واختير رئيسا للمجلس العلمي لولاية سيدي بلعباس، وخلال رئاسته للمجلس العلمي كانت له زيارة إلى الأردن.
واصل الشيخ حديثه في البرنامج الإذاعي ( صور من حياتي) حيث ذكر أنّه من الطلبة النجباء التسعة الذين أخذوا العهد مع جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، بأن يخلصوا في عملهم وأن يهبوا حياتهم للدفاع عن خدمة الدين الإسلامي الصحيح وإحياء اللغة العربية وخدمة الوطن الجزائري- وهذا التوصيات موثقة فعلا في جريدة البصائر، وقد أدرجناها سابقا- ثم يقول الشيخ بأنّه واصل على نهج وعهد جمعية العلماء، وأنّه عَمل بتوصيات جمعية العلماء طيلة مشواره المـهنــي.

6/- منجزه العلمي

بعد تحصيله العلمي ونيله أعلى الشهادات في عدة معاهد وجامعات، كُلّف عام 1969م بتأليف الكتاب المدرسي (تاريخ العالم الحديث من فجر الصناعة إلى الحرب العالمية الأولى 1760- 1914م) للسنة الأولى ثانوي، وكان ضِمْن اللجنة المكلّفة المؤرخ الدكتور يحي بوعزيز وبلعيد بلحاج (بلعديس بلحاج)، وتحت إشراف الأستاذ الكبير جموعي مشري المفتش العام بوزارة التربية والتعليم آنذاك، استمر هذا الكتاب يُدرّس للتلاميذ لسنوات عديدة من تاريخ الجزائر المستقلة، كما استفاد منه الكثير من المدرسين.
ولعل أن الأستاذ أحمد بن الطاهر المسعدي كان عضوا في لجنة التأليف المدرسي الوزارية التي عينتها وزارة التربية الوطنية خلال عام 1963م وكان ضمنها: عبد الحميد مهري، عبد الله شريط، والشيخ عبد الرحمن الجيلالي، وحسن فضلاء، وآخرين.
وعرفانا وتقديرًا بمجهوداته ونشاطاته الدينية والعلمية خدمة للدين الإسلامي واللغة العربية وللجزائر حظي فضيلة الشيخ بتكريم من والي سيدي بلعباس السيد الطاهر حشاني في 20 ماي2017م في إطار احتفال بعيد العمال، وفي انتظار أن يلقى التفاتة طيبة بمسعد بتكريمه بعد وفاته بإطلاق اسمه على إحدى المراكز أو مؤسساتها العلمية الثقافية والدينية.

7/- وفاته

بعد مسيرة حافلة بالعلم والجد والنشاط الدعوي والتربوي والإصلاحي إلى أن أحيل إلى التقاعد، استقر الشيخ في آخر سنواته بمدينة الأغواط، توفي الشيخ يوم الأحد الماضي 25 جوان 2023م، عن عمر يناهز88 سنة، ودفن بمقبرة المقام بالأغواط.
لقد فقدت مسعد أحد الشخصيات الدينية والثقافية والفكرية، وأحد أبناءها المصلحين والمخلصين، فقد كان مربيا فاضلا، وأستاذا بارعا، وإماما خطيبا، جاهد بقلمه ولسانه، بعد أن أدى رسالته التربوية والتعليمية بكل إخلاص، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته. وجعل عمله خالصا لوجه الله تعالى، ونسأل الله الصبر والسلوان لعائلته الكريمة وأصدقائه ومحبيه وتلامذته وطلابه في القطر الجزائري.
بقلم الأستاذ: الأخضر عالب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى