
في الثامن من شهر ديسمبر 2024، سقط نظام بشار الأسد، وتمّ تعيين أحمد الشرع رئيسا للمرحلة الانتقالية. وعقب ذلك تمّ إلغاء العمل بالدستور، وحلّ الفصائل المسلّحة المُعارضة والأجهزة الأمنية النظامية، إلى جانب حلّ البرلمان (مجلس الشعب) وحزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم.
كان إلغاء الدستور مؤشرا لصياغة إعلان دستوري مؤقت على غرار أغلب الأنظمة السياسية الناتجة عن ثورة شعبية أو انقلاب عسكري، وهو ما تمّ في 13 مارس 2025، حيث وقّع أحمد الشرع الإعلان الدستوري الذي صاغته لجنة مكوّنة من 7 قانونيين. للإشارة، الوثيقة الدستورية هي نتاج مخرجات مؤتمر الحوار الوطني الذي انعقد في فبراير 2025.
1- الفرق بين الدستور والإعلان الدستوري
الدستور هو القانون الأسمى الذي يُحدد المبادئ العامة للدولة وشكلها ( بسيطة أم مركبة؛ ملكي أم جمهوري؛ رئاسي أم برلماني؛ دين، لغة، عَلَم…)، كما ينظم السلطات العامة (تنفيذية، تشريعية، قضائية) وذلك من حيث التكوين والاختصاص والعلاقات بينها، إلى جانب حقوق وواجبات المواطنين ووضع الضمانات لها تجاه السلطة. وغالبا ما يتمّ صياغة الدستور سواء من قبل مجلس تأسيسي أو لجنة صياغة الدستور يكون أعضاؤها من المختصين في القانون الدستوري والقانون العام. كما تطول فترة الدستور حسب الاستقرار السياسي للنظام المعني. فلازال دستور أمريكا الصادر في سنة 1789 هو الساري المفعول رغم تعديلاته المختلفة، فيما شهدت سوريا على سبيل المثال عدّة دساتير سنتطرق إليها في الفقرة الموالية.
أمّا الإعلان الدستوري فهو وثيقة قانونية عليا مؤقتة ومختصرة، تُصدره السلطة الفعلية الناتجة سواء عن ثورة شعبية أو انقلاب عسكري، يتم بموجبه حكم البلاد بصورة قانونية، تسهّل صياغة القوانين لتنظيم حياة الناس في انتظار وضع دستور جديد. وقد عرفت أنظمة عربية عديدة الإعلانات الدستورية نتيجة الانقلابات العسكرية كموريتانيا وليبيا، أو نتيجة ثورات شعبية كمصر.
2- قصة الدساتير السورية: من الملك فيصل إلى الرئيس أحمد الشرع
عرفت سوريا من الناحية التأسيسية ثلاثة عشر دستورا دائما ومؤقتا، عاصرت الأحداث السياسية التي عرفتها البلاد منذ سقوط الدولة العثمانية ومحاولة تأسيس المملكة العربية السورية إلى سقوط نظام بشار الأسد وصعود أحمد الشرع على رأس البلاد.
وقد جاءت الدساتير السورية من الناحية الزمنية كما يلي:
– أول دستور ظهر للوجود بسوريا هو دستور 13 يوليو 1920م في عهد الملك فيصل الأول ابن الحسين قبل إقرار الانتداب الفرنسي؛
– ثاني دستور ظهر في مايو 1930 أثناء الانتداب الفرنسي؛
– ثالث دستور ظهر في 5 سبتمبر 1950، ويُلقب بدستور الاستقلال؛
– رابع دستور ظهر في 10 يوليو 1952، في عهد أديب الشيشكلي؛
– خامس دستور، هو دستور الوحدة مع مصر في 1958؛
– سادس دستور ظهر في أول ديسمبر 1961 أي بعد الانفصال عن مصر؛
– سابع دستور وهو مؤقت، ظهر في 25 أبريل 1964؛
– ثامن دستور ظهر في مارس 1965، وهو بمثابة قرار القيادة القطرية وكان يحمل رقم 2؛
– تاسع دستور وهو مؤقت صدر في أول مايو 1969؛
– عاشر دستور وهو أيضا مؤقت صدر في 1971؛
– حادي عشر دستور وهو دائم، ظهر في 13 مارس 1973؛
– ثاني عشر دستور ظهر في 28 فبراير 2012، أي بعد الربيع العربي؛
– ثالث عشر دستور مؤقت ظهر في 13 مارس 2025، بعد سقوط نظام بشار الأسد.
3- كيفية صناعة القرار الدستوري السوري، من الدستور الملكي إلى دستور الشرع
ارتبطت صناعة الدساتير السورية بتطور الأحداث السياسية المتباينة والمضطربة التي سادت البلاد، وذلك منذ تأسيس الدولة السورية الحديثة بعد انهيار الدولة العثمانية في بداية العشرينيات من القرن العشرين، إلى غاية سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024، مرورا بفترات الانتداب الفرنسي ثم الانقلابات العسكرية فحكم حزب البعث.
يمكن تقسيم صناعة القرار الدستوري في سوريا إلى خمس مراحل هي:
– فترة النظام الملكي الذي شهد دستورا واحدا؛
– فترة الانتداب الفرنسي الذي عرف أيضا دستورا واحدا؛
– فترة الانقلابات التي شهدت أربع دساتير بما فيها دستور الوحدة مع مصر والانفصال عنها؛
– فترة حزب البعث الذي عرف صدور أكبر عدد من الدساتير أي ستة؛
– فترة حكم أحمد الشرع الذي اصدر دستورا مؤقتا، يكون موضع القراءة السياسية في هذا المقال.
دستور 1920 الذي يمكن تصنيفه بالدستور الملكي باعتباره صيغ في فترة الحكم الملكي لسوريا، كان القرار الدستوري فيه توافقيا انطلاقا من أنه حُرر من قبل لجنة صياغة الدستور السوري المُتكونة من عشرين عضوا برئاسة هاشم الأتاسي. وقد انبثقت هذه اللجنة من مجلس المؤتمر السوري الذي كان يضم تسعين مندوبا يمثلون مختلف أعيان سوريا ومناطقها. استلهم دستور 1930 الذي صيغ أثناء فترة الانتداب الفرنسي أحكامه من دستور الجمهورية الفرنسية الثالثة لسنة 1875، مما يدل على لمسة الفرنسيين في صياغة هذا الدستور الذي رُفضت بعض أحكامه من قبل المفوض الفرنسي “هنري بونسو”، والذي عمل على إدخال مادة فعالة في الدستور تنص على: “ما من حكم منأحكام الدستور يعارض ولا يجوز أن يعارض التعهدات التي قطعتها فرنسا على نفسها فيما يختص بسورية، لاسيما ما كان منها متعلقا بجمعية الأمم”. مع ذلك يحتوي هذا الدستور على عديد المواد الدينية، وهي إشارة للدور السوري في صياغتها رغم الانتداب الفرنسي.
في سنة 1949، شهدت سوريا ثلاثة انقلابات عسكرية كان آخرها في 19 ديسمبر من قبل أديب الشيشكلي الذي كلف ناظم القدسي برئاسة لجنة إعداد الدستور. حسب هذا الأخير، فإن اللجنة قامت بالإطلاع على خمسة عشر دستورا أوروبيا وآسيويا للوصول إلى أرقى المعايير الممكنة. فعلا، كان دستور 1950 قد رسّخ بنية النظام الجمهوري النيابي المختلط، غير أن عودة الانقلابات العسكرية إلى الساحة السياسية عجّلت بسقوط هذا الدستور وصدور وثيقة أخرى تُعرف بدستور الشيشكلي الذي فضل نظاما رئاسيا مغلقا.
غابت عن دساتير مرحلة حزب البعث أي مشاركة سياسية خارج أعضاء الحزب في اختيار الأحكام الدستورية، وأمست صناعة القرار الدستوري بيد المجلس الثوري الذي فضل الاختيار الاشتراكي الأحادي في التسيير الاقتصادي والسياسي للبلاد. صناعة القرار الدستوري أمست أكثر مركزية مع وصول حافظ الأسد إلى الحكم، واستمرت على نفس الوتيرة في عهد بشار الأسد. أما في فترة الرئيس أحمد الشرع، فيبدو أن الدستور المؤقت صيغ بطريقة توافقية وهو نتيجة مخرجات مؤتمر الحوار الوطني السوري المنعقد يومي 24-25 والذي شاركت فيه كل الأطياف والحساسيات السورية.
4- محتويات الإعلان الدستوري السوري
يضم الإعلان الدستوري السوري ديباجة وهي جزء من الإعلان الدستوري، و53 مادة وُزعت على أربعة أبواب هي:
- الباب الأول: الأحكام العامة؛ ويضم 11 مادة (من 1 إلى 11)، تعلقت بطبيعة الدولة وسيادتها ولغتها وعاصمتها وعلمها ونشيدها واقتصادها وشكل نظامها السياسي ودين رئيسها ومصدر التشريع…؛
- الباب الثاني: الحقوق والحريات؛ ويضم 12 مادة (من 12 إلى 23)، تطرقت إلى الحقوق الكلاسيكية المنتثرة في دساتير العالم، كحرية الرأي والتعبير والإعلام والنشر والصحافة، وحرية التنقل وتشكيل الأحزاب السياسية والجمعيات والنقابات، وحق التملك والتقاضي…؛
- الباب الثالث: نظام الحكم في المرحلة الانتقالية؛ ويضم 25 مادة (من 24 إلى 48)، تعلقت بالسلطات الثلاثة أي التشريعية والتنفيذية والقضائية إلى جانب المحكمة الدستورية؛
- الباب الرابع: الأحكام الختامية؛ ويضم 5 مواد (من 49 إلى 53)، عالجت مسألة العدالة الانتقالية وطريقة تعديل الإعلان الدستوري وسريان القوانين الحالية إلى غاية تبديلها، وتحديد الفترة الانتقالية بخمس سنوات، وتجريم تمجيد العهد البائد.
5- قراءة سياسية في مواد الإعلان الدستوري
جاء محتوى الديباجة على غرار ديباجات الدساتير الثورية في الأسلوب والمضمون. بجّلت الثورة السورية ودنّست فترة البعث الذي استمر 6 عقود، كما عملت على رسم البرنامج المنتظر تحقيقه من قبل القيادة الجديدة والمتمثل بالخصوص في الحفاظ على وحدة البلاد وتحقيق العدالة الانتقالية وبناء دولة المواطنة والحرية وسيادة القانون. كما أصرّت الديباجة على مرجعية دستور الاستقلال لسنة 1950 والمذكور سابقا، باعتباره الدستور الوحيد الذي شاركت فيه كل الحساسيات السورية وأسس لنظام ديمقراطي نيابي.
أصرّ الباب الأول على وحدة سوريا الجغرافية والسياسية حيث لا يجوز التخلي عن أي جزء منها، حيث يتم تجريم كل دعوات التقسيم والانفصال وطلب التدخل الأجنبي والاستقواء بالخارج. كما أكد على احتكار العنف من قبل الدولة عن طريق مؤسسة الجيش وحظر كل التشكيلات العسكرية وشبه العسكرية. هذا يعني من جهة، تأكيد وتأسيس لنظام مركزي، وهي إجابة دستورية صارمة لكل محاولات الأطياف المطالبة للنظام الفيدرالي كالأكراد والدروز على سبيل المثال، كما يعني من جهة أخرى عدم التخلي عن الجولان المحتل من قبل إسرائيل مهما طال الزمن. للإشارة يعتمد الدروز على الحماية الإسرائيلية، كما يعتمد الأكراد (قوات سوريا الديمقراطية) على الحماية الأمريكية.
احتفظ أيضا الإعلان الدستوري بالتسمية القديمة للدولة وهي “الجمهورية العربية السورية” مؤكدا على البعد العربي للدولة، وهو ما لا يرغب فيه الأكراد. كما عمل الدستور على إعادة الاعتبار لعلم الاستقلال الذي اتخذته الثورة رمزا لها لمحاربة نظام البعث.
فيما يتعلق بالمسائل الدينية، حافظ الإعلان الدستوري على ما جاء في الدساتير السابقة، وأضاف أل التعريف في حكم “الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيس للتشريع” بعد أن كان نكرة في الدساتير السابقة. الكثير كان ينتظر أن يضم الإعلان الدستوري حكم “الإسلام دين الدولة”، وربما مسائل دينية أكثر انطلاقا من مرجعية القيادة الجديدة التي أغلبها سنية المذهب، لكن فاجأ الإعلان الجميع واحتفظ على الموجود في الدساتير السابقة، مع الإصرار على حرية الاعتقاد واحترام جميع الأديان السماوية وصون الأحوال الشخصية لمختلف الطوائف الدينية. نشير أنّ سوريا تضم أقلية دينية أيزيدية وهم ليسوا من أهل الكتاب حسب الفقه الإسلامي.
فيما يتعلق بالباب الثاني الخاص بالحقوق والحريات، نلاحظ غياب أحكام واجبات المواطنين وهي رمزية تدل على الاهتمام بالحقوق والحريات وفق المعاهدات والمواثيق والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان التي صادقت عليها سوريا وهي جزء لا يجزأ من هذا الإعلان الدستوري. هذا الخطاب موجه أكثر إلى الخارج، خاصة الدول الغربية التي غالبا ما تستفز الأنظمة الشمولية بورقة حقوق الإنسان. نشير أن الإعلان الدستوري أعطى حقوقا خاصة للمرأة والطفل وللأسرة عموما.
اهتم الباب الثالث بنظام الحكم خلال المرحلة الانتقالية التي تدوم خمس سنوات. فضّل الإشارة إلى السلطة التشريعية قبل السلطة التنفيذية عكس أغلب الدساتير وهي إشارة سياسية لإعطاء للبرلمان قيمة أكبر. نلاحظ أنّ الإعلان الدستوري حافظ على تسمية البرلمان أي مجلس الشعب ولم يغيره إلى مجلس الشورى كما تنبأ البعض. الجديد هو انتخاب أعضاء مجلس الشعب من قبل هيئات فرعية ناخبة يتم تشكيلها من قبل اللجنة العليا لاختيار ثلثي أعضاء مجلس الشعب التي بدورها يتم تشكيلها من قبل رئيس الجمهورية. أما الثلث الباقي، فيتم تعيينه من قبل رئيس الجمهورية. باقي الأحكام المتعلقة بمجلس الشعب تعتبر كلاسيكية كالحصانة البرلمانية والقسم وانتخاب رئيس مجلس الشعب والنظام الداخلي ومهام المجلس.
أما الأحكام الخاصة بالسلطة التنفيذية فهي كلاسيكية من حيث المهام، نجدها في أغلب الدساتير الرئاسية كالدستور الجزائري والتونسي. نشير فقط أنّ رئيس الجمهورية يعين نائبا له أو أكثر، وعند المانع يقوم النائب الأول بتولي مهام رئيس الجمهورية على الطريقة الأمريكية.
على غرار أغلب الدساتير الديمقراطية والشمولية، نص الإعلان الدستوري على أنّ السلطة القضائية مستقلة، ويضمن المجلس الأعلى للقضاء احترام استقلاله. يتم حظر المحاكم الاستثنائية، ويبقي على المحاكم العسكرية. يشير إلى أن النظام القضائي مزدوج أي عادي وإداري. كما يحل المحكمة الدستورية العليا القائمة ويعوضها بمؤسسة جديدة وبنفس التسمية تتكون من سبعة أعضاء يعينهم رئيس الجمهورية. لم يحدد الإعلان مهام المحكمة ولو أنّ مهامها الرئيسية تبقى هي مراقبة دستورية القوانين.
كان الأجدر أن تُسمّى الأحكام الختامية بالأحكام الانتقالية باعتبار أنّ كل موادها تتعلق بتسيير المرحلة الانتقالية التي تدوم خمس سنوات كما تم الإشارة إليها آنفا. أصرّ الإعلان على تحقيق العدالة الانتقالية عن طريق تأسيس هيئة للغرض، تكون مهامها إلغاء جميع القوانين الاستثنائية والأحكام الجائرة الصادرة عن محكمة الإرهاب التي ألحقت ضررا بالشعب السوري وتتعارض مع حقوق الإنسان، بما في ذلك رد الممتلكات المصادرة، وإلغاء الإجراءات الأمنية الاستثنائية المتعلقة بالوثائق المدنية والعقارية.
6- خاتمة
جاء الإعلان الدستوري السوري على صيغة دستور مؤقت بعيد عن شكل أغلب الإعلانات الدستورية. فعلى سبيل المثال، لم يضم الإعلان الدستوري المصري الصادر يوم 13فبراير 2011 عن المجلس الأعلى للقوات المسلحة بعد الثورة المصرية إلا تسع فقرات بسيطة. ولم يدم أكثر من خمسين يوما، حيث ظهر إعلان دستوري جديد يوم 30 مارس 2011ألغى بموجبه دستور 1981، واصدر دستورا مؤقتا.
الإعلان الدستوري السوري له أهداف سياسية أكثر منها تنظيمية. لقد أطال المدّة الانتقالية وهي بمثابة عهدة رئاسية كاملة. قد يكون الهدف الرئيسي من ذلك البحث عن الاستقرار، خاصة وأنّ سوريا عرفت منذ بداية الثورة تشكيلات عسكرية وشبه عسكرية عديدة ومدعمة من الخارج، الأمر الذي يتطلب وقتا كبيرا لاستعادة الأمن واحتكار العنف الشرعي بيد الدولة كما أشار إليه الإعلان الدستوري.
تحقيق العدالة الانتقالية ليس بالأمر الهين ويتطلب جهازا قويا ولكن أيضا دولة قوية حتى لا تنفلت الأمور أمنيا. دول عديدة نجحت في تحقيقها وتحقيق الانتقال الديمقراطي الذي لم يشر إليه الإعلان الدستوري وهو إجراء صعب المنال. فهل ينجح الرئيس أحمد الشرع في تحقيق العدالة الانتقالية والانتقال الديمقراطي وهو محاط بقوى متربصة وطامعة في أراضي بلاده كإسرائيل وتركيا وإيران وروسيا وأمريكا…؟ فقط الزمن كفيل بالإجابة.
محمد سعيد بوسعدية: عقيد متقاعد، كاتب وباحث حر