
فيما بين إصرار التاريخ عبر وثيق تجاربه على وظيفية الدين، المركزية أو الهامشية لا تهم في المسألة السياسية، وإصرار بعض المتفكرين على أنه توظيفي ولا يتعدى عتبة الاستعمال لأغراض سياسية بحتة، والأمر لا يتعلق بالحالة الشرقية التي طالما اتهمت بعنف الدروشة والاستعصاء على الانتقال إلى معقوليات التاريخ التي قضت على كل فرص الغيب في تقرير مصير الشهادة للبشرية، بين هذا وذاك، تظل هناك حلقة مفقودة أو غير مرئية في سلسلة هذا التاريخ، تشير فقط اليها تقلبات نزاعاته، لتعكس بحق حقيقة هذه الجدلية الصعبة المتعلقة بالثنائية الوظيفية العضوية والتوظيفية في مسارات الصراع حول امتلاك التاريخ.
الوظيفية هنا هي إقرار من أصحابها بدور الدين، ليس فقط كمحرك للتاريخ، بل من مقتضيات أدواته العملية في بناء وتحريك التاريخ، بما يطرحه من معالم وأصول أخلاقية لا تقوى، ولم تقو العقلانية البشرية حتى الآن على إيجاد مصادر بديلة عنها، رغم جهود الكثير من فلاسفة الاخلاق في ذلك، إلا أن تصدع وتشتت الاطار المرجعي للعالم الذي نجم عن نظريات فلسفية بين مادية إلحادية ومثالية وضعية في شأن الوجود والكينونة، بدد كل الآمال في الاتفاق على اطار مرجعي أخلاقي ينتج القيم بما يتلاءم وفطرة الانسان قد تهاوت.
فالشيوعية التي قامت على محاربة الدين باعتباره أفيون للشعوب ولا يستقيم بقاؤه مع سبل الصراع المادي الذي جعلت منه قانونا لتفسير التاريخ، انتهت بنفسها إلى الاندحار المادي، مؤكدة بأن أخلاق المادة ليست سوى هرطقات من تأملات عمياء في شكل صنم، وسرعان ما توقفت قوة دفعه المادي في خطاب الأيديولوجية الشيوعية بخسارتها رهان المادة مع الغرب الرأسمالي، فلم يعد الفلاح والعامل الشيوعي ينصاع إلى سيمفونية الأفق البروليتاري هو يعود إلى البيت محملا بمطرقة أو منجل وبجيوب فارغة.
لقد انتهى عمال المناجم البولنديون في الزمن الشيوعي لنظامهم السياسي إلى نحت أكبر كنسية وتمثال للبابا جون بول الثاني في عمق 60 مترا تحت الأرض، في أكبر وأجمل متحف منجمي أنجزه الانسان، وهم الذين نشأوا منذ اعتلى شيوعيوهم السلطة على أن الحقيقة كامنة في مطارقهم وليس في معتقداتهم، وكان ذلك مؤشر إلى عودة بولونيا إلى كاثوليكيتها الأولى وقد عادت إليها فعلا.
لكن كيف عاد الكاثوليك البولنديون ومن بعدهم كل مسيحيي أوروبا الشرقية إلى معتقداتهم، وسابق رمزياتهم ومصادر أخلاقهم الدينية؟
حين نتحدث عن الإطار التوظيفي للدين في الصراعات والنزاعات السياسية، فلسنا نسعي بذلك إلى تجريده من أثره الوظيفي، طالما أن الدين هو في فلسفته الأخلاقية مرجع أو مقياس للحقيقة في أبعادها الأخلاقية التاريخية، فابسم الضلال الأخلاقي والإنساني مثلا يسعى المتنطعون في كل الأديان إلى فرض ما يرونها نماذج بدلية عما هو قائم من أفكار ونظم وضعية، إنما نسعى هنا إلى تبيان كيف تم فعلا توظيف الذين لحسم صراعات يروم أصحابها السيطرة على التاريخ.
البولنديون باعتبارهم كان أول من تمرد شعبيا على النظام الشيوعي في شرق أوروبا، استثمروا كثيرا في التطورات التي حصلت داخل الكنيسة على مستوى الفاتيكان تحديدا، أي على أعلى ما يمكن من مستوى السلطة الدينية المسيحية، فقدوم على رأس هاته المؤسسة الروحية الكبرى أو كما يُزعم، في العالم لمواطن بولندي خطيب مفوه وصحفي محترف في شخص جون بول الثاني، لم يكن أبدا اعتباطيا، بل قامت خلفه إرادة حازمة وحاسمة في دق اسفين في نعش الشيوعية التي كانت نهاية سبعينيات القرن الفائت وبداية ثمانيناته تعيش فترة احتضار حقيقة، ولعل ذلك ما جعل الكرملين يتعامل بشي من البرودة حيال الزيارة الشهيرة التي قام بها جان بول الثاني إلى البولندا عام 1979 أما ذهول العالم لكونها ألأولى من نوعبها مذ فرقت الحرب العالمية الثانية وقسمت بين التاريخ والجغرافية الاوربيين إلى نصفين.
فكل الملاحظين والدارسين اعتبروا يومها تلك الزيارة بمثابة اختراق الغرب للشرق، وهو أعظم من كل الاختراقات الاستخباراتية لكونه مس بضربة واحدة الشعوب ولم يكتف بالتجسس على الأنظمة والمؤسسات السياسية والحربية هناك، وبالفعل لم يمض عام واحد على تلك الزيارة حتى ظهرت أولى النقابات العمالية المستقلة عن السلطة الشيوعية في بولندا باسم نقابة التضامن بزعامة ليخ فاليزا الذي سيصبح رئيسا فيما بعد.
فالشاهد هنا، هو أن الدين كان حاضرا بقوة في الصراع الاستراتيجي والأيديولوجي بين الشرق والغرب ولم يغب عنه قط، لا وظيفيا ولا توظيفيا، كما أشرنا في الزيارة الشهيرة لجون بول الثاني وكيف قلبت موازين الصراع، بأن نقلته من الإرادة العليا للقادة المتخاصمين إلى الإرادة القاعدية حيث الشعوب والجماهير التي ظلت تبحث فيما بين المتصارعين عن نفسها.
واليوم يأتي بوتين الفتي الذي عاش وتعلم في كنف المدرسة الشيوعية، لظهر مشاغبا لمنظومة الغرب ذات التقليد العريق في توظيف الدين لحسم صراعتها في التاريخ، ليلعب لعبتها، بحيث أنه وضع تفسير أهم أبعاد الكينونة الانانية داخل بوتقة التفكير الديني الارثودوكسي، ويرفض قوانين الغرب الأخلاقية الجديدة كالزواج المثلي، والزوفيلي والشواذ، من خلال فرضه لقوانين صارمة تبقي على الطبيعة البشرية الأولى كإطار مرجعي ضابط لمعنى الحياة والوجود.
لكن قبل ذلك، كانت أمريكا قد حشرت السوفيات في الزاوية بل في المستنقع حين وزجت به في حرب افغانستان الاهلية نهاية سبعينيات القرن الفائت، موظفة تكنولوجيا العصر وقتها من فيديو وكل اشكال الصوت والصورة في التأثير على وجدان شباب المسلمين واقناعهم بأن الإسلام سيعود إلى مجده من تلك الجبال الشاهقة، التي يكفي بذرة من رمادها يلقي بمجاهد بكفه على رتل عسكري سوفياتي أن تجعله أثرا بعد عين ! ووظف القاموس الإسلامي القديم من كرامات ومعجزات بأصوات فقهاء وخطباء تحولوا بعد أن رحل السوفيات وتقاتل وتهالك المجاهدون بقبائلهم فيما بينهم وأفنى بعضهم بعضا، تحول هؤلاء الخطباء في الخليج وعديد البلدان العربية والإسلامية إلى مقاولين ورجال مال.
لقد أبرزت ثنائية الوظيفية والتوظيفية للدين في الصراعات والنزاعات الدولية تناقضات عدة في التصور لدور الدين في التاريخ، وانسحقت شعوب ومجتمعات داخل طاحونة هذه الجدلية المقيتة، والتي لا تزال مستمرة ومُستثمرة بشكل مربح من بعض الفاعلين في الصراعات الدولية في ظل عدم اكتمال وعي البشرية بخفايا التاريخ ومراكز وأدوات صناعته السرية !
بشير عمري