بقلم : الوليد فرج
القتال كره مقيت، و الحرب عبء كامل، حين صارت تكاليفها الإنسانية الاجتماعية باهظة أكثر من فواتيرها المادية وانعكاساتها الاقتصادية، لا سيما بعد أن صارت العقيدة العسكرية الأمريكية لا تعترف ببعد العدو ولا موقعه، فبعد تفجيرات 11 سبتمبر صار تتبعه في أي مكان كان من موجبات الأمن القومي، غير أن التوابيت المسجاة بالعلم الأمريكي التي تنزل في مطارات الولايات المتحدة تحت عزف أناشيد المجد لم تفلح في إسكات ذوي الضحايا، من الذين زج بأبنائهم في حروب لا ترتبط بشأن أوطانهم ولا علاقة لهم بها، فراحت تتشكل جمعيات في الداخل الأمريكي مناهضة للحرب وعواقبها.
إن البحث عن بدائل عسكرية مستقلة، تخفف من التواجد العسكري النظامي، تتولى تنفيذ أجندات قتالية أو تدريبية رسمية محددة مسبقا في إطار صفقات وعقود أمنية، صار البديل الوحيد للتخفيف من وطأة الضغط الداخلي الرافض للحرب وتفادي الفواتير الضخمة لتكلفتها، لذا نجد الولايات المتحدة الأمريكية صارت تلجأ للتعاقد مع المؤسسات الأمنية في هذا الشأن وعلى رأس هذه المؤسسات نجد مؤسسة الماء الأسود (بلاك واتر) سيئة السمعة.
فمن هي مؤسسة بلاك واتر؟ وما خلفياتها ومن يقف وراءها؟ واين نشطت؟ وما هي جرائمها؟
رفعت الولايات المتحدة عقيرتها من خطر انتشار رجال فاغنر وكان هذا خلال مناقشة مشروع قرار في مجلس الأمن الدولي تقدمت به فرنسا لدعم العقوبات القاسية التي فرضتها إيكواس على مالي، القرار الذي عطلته الصين وروسيا، فأين كانت ذاكرة الأمريكان مع تاريخ بلاك واتر في العراق؟
إذا كانت الإحالة على كتاب الصحفي جريمي سكاهيل الموسوم ب: (بلاك ووتر أخطر منظمة سرية في العالم) الذي كشف فيه عقيدة هذا التنظيم وأماكن نشاطه وخلفياته العقدية وبعض جرائمه عبر العالم، فإن تفاصيل وأسرار نشاط هذه المنظمة كشفتها أوراق كتاب قيم صدرت طبعته العربية بعنوان «المرتزقة قادمون.. بلاك ووتر كبرى شركات تصدير فرق الموت» لصاحبه الصحفي والكاتب الأمريكي جيرمى سكيل الذي وثّق بعضا من جرائم هذا الجيش المرتزق التي تستعصي على الحصر.
لم يرث ضابط البحرية السابق إريك برنس ثروة طائلة عن والده فقط، بل خلف له أفكارا يمينية متطرفة، التي كانت البيئة الخصبة التي تأسست فيها عام 1997، مؤسسة بلاك ووتر. ارتبطت أسرة برنس بالجمهوريين وكانت من أشد الداعمين لليمين المسيحي الصهيوني. وبفضل هذا التوجه تم اختيار بلاك ووتر للعمل مع الجيش عندما بدأ الحرب على الإرهاب خلال حكم بوش الذي سيطر غلاة المحافظين الجدد على إدارته. ومما تمتلكه مؤسسة صناعة الموت هذه أكبر موقع في العالم للرماية والتدريبات العسكرية على مساحة سبعة آلاف فدان في كارولاينا الشمالية. توسعت الشركة بعد ذلك وانتشر جيشها في أكثر من 9 دول، ولديها أسطول خاص من الطائرات الهليكوبتر والمدفعية ووحدة محمولة جوا للتجسس. وفضلا عن معاونتها للجيش تستعين بها المخابرات في عملياتها السرية بالخارج بما فيها الاغتيالات. وحتى اليوم تواصل نشاطها ولكن باسم جديد هو «أكاديمي» الذي اختاره المستثمرون الذين اشتروا أصولها عام 2010.
في 16 من شهر سبتمبر 2007 ارتكبت بلاك ووتر مذبحة واد النسور ببغداد، التي راح ضحيتها 17 مدنيا و نحو 20 جريح التي سوف تبقى عالقة في ذاكرة العراقيين للأبد، والتي تعتبر واحدة من الانتقامات لمقتل أربعة من جنودها في (كمين الفلوجة) الذي وقع قبل أربعة سنوات والتي ظلت جثثهم معلقة على جسر الفلوجة لعدة أيام جن جنون القيادة الأمريكية، فأباحت وعلى مدى أيام طائراتها وقواتها الخاصة تدمير المدينة من جذورها.
في شهر افريل 2003 وبعد شهر واحد من الغزو، لم يكن يعلم أولئك المتظاهرون المدنيون حين تجمعوا أمام مقر حزب البعث الذي تمركزت فيه القوات الأمريكية مطالبين برحيلها، أن رد الجنود سوف يكون بوابل من الرصاص دون مبرر، ليسقط منهم 60 شهيدا و 75 مصابا لتكون قوات الغزو قد استفتحت تواجدها بأرض الفرات بمجزرة رهيبة لن ينساها أهالي الفلوجة هذه المدينة السنية المجاهدة المستهدفة منذ حرب الخليج الأولى 1991 حين أغارت الطائرات الأمريكية والبريطانية على جسرها الحديدي الشهير فوق الفرات. سقط أحد صواريخها على منطقة سكنية وقتل 130 شخص وأصيب 80.
،كانت هذه بعض الصور الصغيرة عن مجازر بلاك ووتر التي تكشف جانبا من بشاعتها، فالجانب المظلم الذي يغفله الكثير من المتتبعين هو الخلفية الإنجيلية لهذه المؤسسة الإجرامية التي أنشأت في ظل القوانين الأمريكية الفاسدة وتنشط تحت حمايتها، وما عفو ترامب قبيل مغادرته للبيت الأبيض عن مجرمي ساحة النسور ببغداد إلا واحد من أوجه التواطؤ الرسمي مع الإجرام الدموي.
الولايات المتحدة الأمريكية اليوم ليست مؤهلة أخلاقيا لأن تشجب أو ترفض أو تحتج على أي نشاط عسكري روسي أو غيره مهما كانت طبيعته، فهي أول من نشر المرتزقة عبر العالم من الصومام إلى ليبيريا إلى أفغانستان إلى السلفادور إلى العراق إلى ما لا نعلم.