
لماذا لا ننتفع بالقرآن في حياتنا؟
أسباب تمنعنا من الانتفاع بالقرآن
في حياتنا نحن المسلمين اليوم، ظاهرة جلية بارزة لا تخفى على مؤمن، وهي أننا لا ننتفع بالقرآن، ولا نتأثر به، ولا يظهر له أثر في سلوكاتنا، على الرغم منه أنه ما من إذاعة في العالم الإسلامي إلا وتبث القرآن في الصباح والمساء وفي أوقات مختلفة، وما من مسجد إلا وتُتلى فيه آيات الله، وما من بيت إلا وفيه عدة مصاحف، وما من مسلم إلا وهو يقرأ القرآن يوميا أو أسبوعيا، وحتى إن لم يقرأ في المصحف فهو يقرؤه في الصلاة، ومع ذلك كله لا أثر للقرآن في حياتنا.
فالقرآن ينهانا عن الغيبة والنميمة والتجسس والتحسس ونحن نفعل كل ذلك على أوسع نطاق.. القرآن ينهانا عن السرقة وفينا من يسرق علنا أو خفية.. القرآن ينهانا عن شرب الخمر وفينا من يشربها، ينهانا عن ممارسة الربا وفينا من يمارسه، يأمرنا بالمحافظة على العلاقات فيما بيننا ونحن نتفنن في تقطيعها، يأمرنا بأن نتناصر فيما بيننا ونحن نخذل بعضنا البعض. فكل ما نهانا عنه القرآن فعلناه، وكل ما أمرنا به القرآن تركناه، فأين أثر القرآن في حياتنا؟ نحن نقرأ القرآن أو نسمعه ولا نزداد به إيمانا، فهناك إذن خلل في تعاملنا مع القرآن.
ما هي الأسباب؟
هناك أسباب تمنعنا من الانتفاع بالقرآن، وتمنع تأثير القرآن في حياتنا ،أول هذه الأسباب؛ أننا فصلنا القرآن عن مصدره، فنحن لا نقرأ أو نسمع القرآن على أنه كلام الله، فهو بالنسبة لنا كأي كلام آخر، وهذه هي المشكلة الكبرى، فحين تقرأ القرآن على سبيل العادة، أو تقرؤه لكي تشغل وقتك فقط، أو تقرؤه طلبا للحسنات فقط، ولا تقرؤه لتعرف مراد الله عز وجل فيما هو مطلوب حتى تفعله وفيما هو منهي عنه حتى تتركه، وهذا تحريف لوظيفة القرآن. صحيح أن الله عز وجل أكرم المسلم بأنه إذا قرأ القرآن، فكل حرف بحسنة والحسنة بعشر أمثالها، لكن هذا لتيسير الانتفاع بالقرآن والتشجيع عليه، فحين يقبل الإنسان على القرآن ويحرص على قراءته طلبا لثوابه فالغرض هو أن ينفُذ من قراءة القرآن إلى الانتفاع والعمل بما جاء فيه..
محمد إقبال رحمه الله حدث نفسه: كيف تأثر بالقرآن وكيف انتفع بالقرآن وكيف أن القرآن جعل منه عالما مشهورا، يقول: كنت في صغري أقرأ القرآن ولم أكن أفهم منه شيئا ولا أحس له بأي أثر، فشكوت ذلك لأبي، فقال لي: يا بني إذا أردت أن تتأثر بالقرآن فاقرأه كأنما أنزل عليك.. فلكي تتأثر بالقرآن ضع نفسك في مقام محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان ينزل عليه جبريل ويأتيه بهذا القرآن ويقرؤه عليه، عليك أن تتمثل هذا المقام وتقول في نفسك: لو أني كنت مكان محمد صلى الله عليه وسلم ونزل عليَّ القرآن وأنا أعرف أن من يأتيني به هو جبريل عليه السلام وأنه جاء به مباشرة من رب العزة سبحانه وتعالى. ضع نفسك في هذا المقام وأنظر كيف سيكون تأثير القرآن عليك. فنحن مع الأسف نقرأ القرآن مفصولا عن مصدره وهو الله سبحانه وتعالى. صحيح اننا نعرف أن القرآن كلام الله، لكننا عندما نقرؤه أو نسمعه لا نستحضر هذا المعنى، بل ننساه في تلك اللحظات.
السبب الثاني: هو المعاصي، فلا يمكن أن ينتفع بالقرآن من هو متلبس بالمعصية، خاصة في مطعمه أو ملبسه أو مسكنه، فمن كان في طعامه شبهات من حيث مصدره يستحيل أن ينتفع بالقرآن أو يتأثر به حتى لو قرأه صباحا ومساء، لأن هذه المعصية تمنع التأثر حيث لا تمر الهداية إلى القلب. مثل ذلك من في لباسه شبهة أو حرمة، فهذا لا ينتفع بالقرآن. ومثله الذي يسكن في بيت بناه بالحرام أو بمال مشبوه، والذي يركب سيارة اشتراها بالحرام، ومثله الذي يتعامل بالحرام، كل هؤلاء لا يمكن لأحدهم أن ينتفع بالقرآن، لأن الانتفاع بالقرآن سمو وشرف، والله لا يشرف العصاة وإنما يقرب إليه من كان طاهرا زكيا.. ومع الأسف نحن مسلمي هذا العصر، إلا من رحم الله، أموالنا دخلتها الشبهات في عمومها، حتى ليكاد ألا يوجد من في مطعمه أو في ملبسه أو في مسكنه أو عمله شبهة، لأن من يعمل لا يتقن عمله، ومن يتاجر لا يتقن تجارته، ومن يصنع لا يتقن صنعته، ومن هو مسؤول لا يتقن مسؤوليته، فأرزاقنا فيها شبهات، ولذلك لا ننتفع بالقرآن.
السبب الثالث: ترك العلم الشرعي، لأن القرآن لكي تفهمه لابد أن تتوفر لديك معلومات شرعية أولية على الأقل، وتكون عندك معلومات لغوية، وتكون عندك معرفة بكيفية التعامل مع التفاسير والاستفادة منها، فإذا كنت مقطوعا تماما عن علوم الشرع فكيف يمكنك أن تفهم القرآن أو تنتفع بما فيه.. في العصور الأولى للأمة المسلمة كانت العلوم الشرعية ثقافة عامة، يعرفها الكبير والصغير، الرجل والمرأة، المتعمق في العلم والمكتفي بالحد الأدنى، لأنه لا يمكن أن يكون الإنسان مسلما فعلا ويتمثل الإسلام في حياته إذا لم يكن عنده معرفة بأحكامه. لكن منذ عدة قرون، عامة المسلمين انقطعوا عن هذه العلوم، وصارت في عصرنا تدرس كتخصصات علمية، أي أن القليل من المسلمين من يهتم بها ويدرسها، أما معظم الأمة فلا تعرف عنها شيئا. وهذه مأساة كبيرة، إذ كيف للأمة أن تتواصل مع كتاب ربها عز وجل وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم إذا كانت لا تعرف أحكام هذا الدين، ولا تعرف أبسط المبادئ والمعلومات عن القرآن، ولا تعرف أبسط المبادئ عن الحديث النبوي الشريف وعن حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحياة صحابته. هذا الانقطاع يجعل المسلم يقرأ القرآن ولا يفهم منه شيئا.
إضافة إلى الانقطاع عن اللغة العربية، فنحن نتحدث العربية الدارجة، لكن اللغة العربية التي بها نفهم القرآن لا نعرفها ولذلك لا نفهم القرآن. وهذه مسؤولية المسلمين جميعا، وليست مسؤولية العلماء وحدهم، لأن العالم لا يمكنه أن يذهب إلى كل مسلم ليعلمه في بيته، وإنما الواجب أن يسعى المسلمون إلى التعلم والدراسة وفهم القرآن على أيدي العلماء.
إذن، الانقطاع عن العلوم الشرعية، أو على الأقل عن المبادئ الأولية للعلوم الشرعية، هذا جعل الإنسان المسلم لا يعرف دينه، لأن الدين إنما يعرف من القرآن والسنة، فإذا لم توجد وسيلة فهم القرآن والسنة واستفادة الدين منهما، لا يكون هناك انتفاع، وتصبح قراءة القرآن مقصودة للحصول على الحسنات لا غير،
شروط الانتفاع بالقرآن
والانتفاع بالقرآن له شروط لا يتحقق إلا بها.
أولها: أن تقرأ القرآن وأنت مؤمن أن هذا كلام الله عز وجل، وأنه سبحانه وتعالى يخاطبك به شخصيا، فكل أمر فيه أنت معنيٌّ بامتثاله، وكل نهي فيه أنت معنيٌّ بترك هذا الذي نهاك عنه، اقرأ القرآن كأنما أنزل عليك وكأنك أنت المخاطب به دون غيرك. قال تعالى: (الم * ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [البقرة: 1-5].
ثانيها: اقرأ القرآن وأنت متطهر، طهر مطعمك وملبسك، طهر كسبك بصفة عامة، فإن لم تتطهر لن تنتفع بالقرآن، لأن القرآن لا ينتفع به إلا المتطهرون بدنيا ونفسيا وروحيا واجتماعيا وسلوكيا. قال تعالى: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ) [الواقعة: 77-80].
ثالثهاتعلم شيئا من المبادئ التي لا يمكن فهم القرآن إلا بها، فلابد أن تعرف كيف أنزل الله هذا القرآن على رسوله؟ ما هي المناسبات التي كان ينزل فيها؟ كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقرؤه على المسلمين؟ كيف كان يقرؤه على المشركين؟ ما هي محتويات هذا القرآن؟ ما مقاصده؟ لماذا أنزله الله؟.. أحد أهم الأهداف من نزول القرآن أن يتخذه المسلم رباطا بينه وبين ربه عز وجل، وأن يكون منهاج الحياة للإنسان المسلم وللجماعة المسلمة وللأمة المسلمة، هذه أهداف لابد للمؤمن أن يعرفها.. القرآن هو الذي يميز للمسلم بين الخير والشر، بين الحق والباطل، فمعيار القرآن هو المعيار الصحيح الثابت الذي لا يتبدل ولا يتغير ولا يخضع لهوى أحد أو مصلحته، أما غيره من المعايير فكلها باطلة، لأنها خاضعة لأهواء أصحابها وهي متغيرة بتغير مصالحهم، فالمؤمن لكي يعرف هل هو على صواب أو على خطأ، وهل هو على هداية أو على ضلال، عليه أن يزن نفسه بميزان القرآن.
بقلم: أ.د. مسعود فلوسي