أقلام

عبرة لمن يعتبر.. يوم قام طلبة الزوايا بتحرير مدينة وهران

الدكتور محمد بغداد
في قوله تعالى:(وذكرهم بأيام الله)، تنبيه قوي من المنبهات التي يكون من الضروري العمل على تفعيلها،والاستثمار في دلالتها ومعانيها، عبر التكيف الذكي مع المعطيات التكنولوجية الاتصالية الحديثة، وهي العملية التي تعتبر مؤشرا على حيوية علمائية النخب يقاس بها مستويات تفاعلها النوعي مع التاريخ، وما تنتجه من مضامين تصدرها للأجيال القادمة، ومن هذه المنبهات موعد تحرير مدينة وهران، بعد ثلاثة قرون من الاحتلال الاسباني، وهي الفترة التي عفت أشنع مظاهر العيش وأكثرها ضنكا.
لا نزاحم المؤرخون إذا حاولنا هنا الخوض في هذا الموعد الذي يعد ركن ركين المشكل للذاكرة الجماعية الوطنية، وأحد معالم مفهوم التحرير في الثقافة الجماعية،ففي السابع والعشرين من شهر فبراير من عام ألف وسبعمائة واثنين وتسعين، شهدت الجزائر حالة استثنائية في تاريخها،عبر استيقاظ الضمير الجمعي وبناء أرضية مشتركة يشارك فيه الجميع ويشعر فيها المجتمع انه بحاجة الى كل مكوناته، وهي الحالة التي تنجزها النخب العلمائية اليوم تكون النخب العلمائية الإعلامية في صدارة مثل هذه المهام، التي تستثمر بجدية عالية وذكاء دقيقة في عناصر القوة الجماعية وتسمح لها بالانخراط في المجهود الجماعي وفق إمكانياتها ومكوناتها الذاتية.
يذكر التاريخ أن فتح وهران سبقه بذل جهد منقطع النظير دام لأكثر من اثنا عشر سنة من العمل المتواصل، الذي قام به الباي محمد الكبير بداية من (مقاومته الفتن المتفشية في البلاد وأخضع القبائل المنشقة عن الدولة، ومهد السبيل وتفقد الأقاليم الصحراوية، فتحققت بفضل سياسته وحدة السلطة والجماعة، واستقر الأمن واختفت الحرابة، فكانت في عهده الشاة ترعى مع الذئب، وعاد الناس إلى أعمالهم وانتعشت الفلاحة ونمت التجارة والصنائع)،الأمر الذي جعل من إمكانية القيام بالواجب الوطني الجماعي بحاجة إلى تمهيد حقيقي وأرضية صلبة، يمكن أن تدفع بالمجتمع إلى الانخراط في المستقبل، ليأتي بعد التحرير ميلاد الحياة من جديد، التي نبعت وأينعت من دمائهم الزكية، وهكذا الأوطان تولد من رحم المعاناة والصدق في الاجتهاد والإخلاص في الوفاء، والذكاء في العمل.
إن ملحة فتح وهران الاستثنائية شاركت في نسج خيوط نجاحها الجماعة الوطنية من مختلف مناطق الوطن، عندما أدركت هذه الجماعة أنها أمام مشروع وطني يستهدف إعادة الاعتبار لكرامة الجماعة وصد العدوان واستعادة الحرية وتوفير سلامة العيش ورغده، وأكثر من ذلك عندما أيقن كل فرد في الجماعة أنه معنى بالمشاركة الإيجابية والمساهمة الفعلية في إنجاح المشروع، لأنه مشروعه الخاص وأنه يتعين عليه أن يبذل ما بوسعه في سبيل تجسيد أهدافه الكبرى.
لقد شكل طلبة الزوايا والمرابطين القوة الضاربة في جيش تحرير وهران، وكانت لهم اليد الطولي في الحشد والتأييد والتعبئة العامة، من خلال مقارعة اليأس ومواجهة الإحباط في المجتمع، حتى أن التاريخ قد خلد بطولاتهم في مسجد الطلبة، الشامخ في أعالي جبال المرجاجو، الشاهد على انجازات الفتية الذين آمنوا بربهم وعشقوا الوطن، مما يفتح الأعين على القوة الفاعلة للفعل الروحي ودوره في التعبئة والحشد والتأثير العميق في المجتمع، مما يجعل من النخب العلمائية اليوم أن توسع اهتمامها بهذه القوة وتتراجع الممارسات الإعلامية (التي يتم صناعتها بحسن نية في أغلب الأحيان) عن حملات التشويه والتجاهل لهذه الفئة وما تمثله من مكانة هامة في دعم مشاريع الوطنية الكبرى، وهي المشاريع التي تستند على هذه القوة لتعزيز اللحمة الوطنية.
إن لحظة تحرير وهران ليست من اللحظات العابرة في سجل هذا الوطن، ولا موعد عادي وليست حدثا يطويه الزمن، ولكنها ثروة تاريخية قابلة لإعادة التشكيل حسب حاجات البلاد ومقتضيات المرحلة التي يكون من المفيد للجميع الانتباه إلى معانيها العميقة وبالذات حالة الالتفاف الجماعي للمجتمع حول المشاريع الوطنية الكبرى، التي يكون فيها المجتمع يمتلك ذلك المستوى من الإدراك في تجاوز التفاصيل البسيطة والانتقال نحو تمثل الحالة التاريخية التي يعيشها، عبر القيام بالواجبات المصيرية التي يفترض أن تكون النخب العلمائية قادرة على القيام بما هو واجب عليها.
إن إعادة الاعتبار لمنجزات الجماعة الوطنية والكشف عن قيمها العليا وأبعادها السامية، والسعي الجاد إلى تجسيدها في مشروع متكامل يعمل على مساعدة الأجيال الجديدة على الانخراط في المستقبل، مهمة النخب العلمائية التي يقع على عاتقها الارتقاء نحو ابتكار المناسب من القوالب والمسارات وصناعة المحتوى اللائق الذي يقنع الأجيال الجديدة ويسلبها إرادة التردد في الانخراط بما تمتلكه من تطلعات جيلية ورغبات ومغامرات تنسجم مع مقتضيات عصرها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى