بقلم: صالح عوض
أكثر من عشرين مليون عربي قد قتلوا أو رحلوا حتى الآن.. امسك قلبك، فأنت تتحدث عن حواضر العرب التاريخية، المثلث الاستراتيجي الشام والعراق واليمن، واستجمع روحك فأنت تقترب من مهد حضارتهم.. والتاريخ يهتف فيك، وفي الأمة: فلتعلموا أن لا مجد لكم إلا بالعراق والشام واليمن.. فالعراق عقلكم وسيفكم، والشام بركتكم وأنبياؤكم، واليمن أرومتكم و كرمكم وإيمانكم.. العراق أول الحرف وأول اللسان ومبعث إبراهيم أبي الانبياء عليهم السلام، الخارج من النار نحو القدس وفلسطين.. والشام ساحة الملاحم الكبرى منذ اليرموك إلى عين جالوت وحطين وما تحوي من درة الكون القدس الشريف، واليمن وصفحة الإنسان الحر الكريم وأول نظام شوري في التاريخ وحجارة تنطق بالحكمة وتلهم بالصمود.. مائة مليون عربي في شرق الجزيرة العربية وشمالها وجنوبها يتعرضون إلى المحرقة الجنونية فهنا احتشد كل الأعداء شرق وغرب وعملاء الشرق والغرب مدججين بالسلاح والجريمة، هنا يحارب الأشرار انتقاما وحقدا ومصالح إستراتيجية فلقد دمروا مدنا تاريخية: الموصل وحلب وحمص وحماة وصنعاء، وعطلوا الحياة بكل أنواعها وأحدثوا شروخا اجتماعية ونفسية بين سكان البلد الواحد.. دمروا سورية لتفقد فلسطين شريان حياتها ودمروا العراق ليكسروا سيف النجدة لفلسطين ومد العون لها و بعثروا اليمن ليسيطروا على باب المندب ويؤمنوا منفذ الكيان الصهيوني البحري.
تزامن الحرب:
في بلاد الشام واليمن والعراق يغرق المجتمع العربي في مآسيه جراء تحالف الهجوم الاستعماري بالأصالة، وبالمال الخليجي العربي الذي يمد الإرهاب، وعبث الفساد الداخلي، ومن غير المنتظر القريب الخروج من هذا النفق الدامي، والذي تكرسه نعرات مغرقة في الجهل والتخلف.. فلقد استفحلت النعرات الطائفية العابرة للدول والمجتمعات لا تمنح للوطن والجغرافيا قيمة.
في هذا الظرف التاريخي تتجه إسرائيل إلى فرض شروطها على المنطقة.. فهاهي الطائرات الإسرائيلية تقصف في سورية والعراق واليمن وفي الوقت نفسه يتم فرض الأمر الواقع على فلسطين بمزيد من عمليات الاستيطان والضم ومحاولات فرض التقاسم الزماني والمكاني في ساحات المسجد الأقصى بالإضافة إلى عمليات التشتيت المستمر للوجود الفلسطيني.
وتصبح كل العناوين المطروحة اليوم في العراق وسورية ولبنان وفلسطين واليمن عناوين أزمة وجزءا من تعقيدها، ففي كل بلد من هذه البلدان صراع داخلي لا يهم هنا الحديث عن المتسبب إنما عن أطراف الأزمة وفي داخل كل مشكلة تتوالد القضايا الجزئية لتزيد المشهد تعقيدا وإغراقا في السوداوية.
ومن أسوأ ما يعقد المشهد ان تتنطع قوى طائفية في هذا المثلث المشحون بالروايات والرموز لتفرض اجندتها على تكوين المنطقة العربية في اليمن والعراق وبلاد الشام كأن المطلوب منها إغراق المنطقة في حمى الصراع الطائفي وهي لا تدرك أنه وبعد أن تؤدي المهمة لن يكون مسموحا لها أي دور إقليمي..
100 مليون عربي في الأقاليم الثلاثة يتعرضون لأبشع عمليات القهر والطرد لتفريغ المنطقة من مكونها الأساسي وإحداث تغيير ديمغرافي بناء على حسابات عرقية أو مذهبية وتفتيت الجغرافيا على حدود الطوائف والمناطق ليصبح أمن إسرائيل محفوظا بشكل استراتيجي.
محرقة الشام:
وبعد أن أصبح ظهر سورية مكشوفا بسقوط العراق انطلق مشروع شرق أوسط جديد وكانت البداية الدولة السورية، ويكفي لمعرفة حجم الحشد الدولي والإقليمي ان نشير الى ما رصدته مراكز البحث والتحليل الدولية في ألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية حيث تتحدث الإحصائيات عن أكثر من 350 ألف مسلح دخلوا الحدود السورية عبر تركيا والأردن وسواهما مزودين بأسلحة متطورة مع تغطية مالية باذخة للجماعات المسلحة “النصرة” و”داعش” والفصائل الأخرى العديدة.. كما ان الأساطيل الحربية الغربية في البحر المتوسط كانت تعمل على مدار الساعة لتزويد الجيش الحر والمجموعات المسلحة التابعة لها بإحداثيات المواقع السورية.. وغير خاف ان جميع الدول الأوربية بريطانيا وفرنسا والنرويج وألمانيا كما الولايات المتحدة الأمريكية بالإضافة للكيان الصهيوني كان لها حضور عسكري وأمني واضح مشكلين في الأردن غرف عمليات مشتركة ومعسكرات لتدريب قيادات ميدانية للمجموعات المسلحة.. هذا بالإضافة الى وجود شبكات عابرة للدول والقارات لتجنيد الشباب تحت شعارات دينية وإلحاقهم بجبهات القتال من شتى الدول فيكفي مثلا الإشارة إلى أن أكثر من 20 ألف تونسي تم إلحاقهم بجبهات القتال.. أما دول الخليج فلقد كان عليها أن تدفع الفواتير الباهظة بلا تردد ومن خلال تقديرات أولية لمراكز الأبحاث يبدو ان فاتورة الحرب على سورية حملت خزينة المال القطرية والسعودية أكثر من 400 مليار دولار.
لقد فتحوا النار دفعة واحدة وفي زحف متزامن للمسلحين ومشغليهم الاستراتيجيين من عدة جهات ثم إسقاط المدن السورية واحدة تلو الأخرى ولم يتبق من المدن السورية الا دمشق واللاذقية فيما كانت دمشق تقع تحت طائلة القصف محاطة بجيوش المسلحين من كل جهة في انتظار اقتحامها… وهنا يكفي ان نشير الى تدمير أكثر من 70 ألف منشأة صناعية في حلب وحدها وأكثر من 5000 مدرسة، كما تم تدمير أراض زراعية واسعة وملحقاتها..
صمدت الدولة السورية وبلا شك كانت إيران قاعدة التحالف الأساسية التي تداخلت مع الموقف الروسي بعمق ولعلها في البداية كانت ضامنة التحالف الروسي فكانت إيران هي المحشّد ووفرت الحشد البشري من القوى الموالية لها فدفعت بالآلاف من حزب الله اللبناني و حزب الله العراقي و”عصائب الحق” الشيعية العراقية و”الفاطميون” من شيعة أفغانستان.. فضلا عن وجود أعداد من الإيرانيين معتبرة من المستشارين والقيادات الميدانية.
استعادت الدولة معظم أراضيها التي سيطرت عليها المجموعات المسلحة وكانت التكلفة باهضة.. ولكن مع الزمن تكشف أمر حساس ألا وهو سيطرة الروس شيئا فشيئا على وقائع الأحداث على الأرض ولقد كان للروس الدور الحاسم في دحر المسلحين عن حلب وحماة وحمص وتمكن الروس من فرض منطقهم في المصالحات والترحيل وضبط حركة الجيش السوري و التدخل المباشر في مسائل ميدانية تفصيلية ولعل حسمهم في طرد الإيرانيين من مواقع حساسة جنوب دمشق وسورية يعبر عن واقع انفصال في التوجه الإيراني عن الروسي ويترك الروس الإيرانيين يتعرضون للقصف الصهيوني دونما إبداء معارضة.. وبقيت ادلب وما تعنيه من تحد حقيقي للدولة وللروس ويبدو أن مفاوضات الروس التركية المستمرة منحت تركيا من جديد دورا في المسألة السورية.
تدخل الدولة السورية المنهكة الآن مرحلة جديدة من التحديات الصعبة بدءا من محاربة الفاسدين الذين أثروا في سنوات الحرب وإعادة ترميم مؤسسات الدولة الأمنية وضبط إدارة البلاد والتحرك نحو إعادة الإعمار والبنية التحتية حيث كانت سورية قبيل الحرب قد وصلت مرحلة متقدمة في الاكتفاء الذاتي وبلغ دخل البلد من منتوجاته الزراعية والصناعية 65 مليار دولار سنويا..
أمام سورية البحث عن الغاز والنفط حيث تم اكتشاف أحواض مهمة من الغاز والنفط في الساحل السوري وفي شرق الفرات وقد وقعت سورية مع روسيا اتفاقيات مهمة في هذا الصدد كما ان الصين قد أسست بنكا رأسماله 600 مليار دولار سيكون عمله الأساسي سورية.. وسيكون للدول الصديقة نصيب معتبر من مشاريع الإعمار إعمار المدن الكبرى التي ستكون فيها الشركات الخاصة والعامة تحت إشراف الدولة السورية بمشاركة أصدقاء سورية.. و سيجد لبنان المنهار اقتصاديا فرصته في إنقاذ نفسه بمشاريع الأعمار في سورية والأمر نفسه للاقتصاد الأردني الممزق.. وحتى ان المصريين يسعون لنيل بعض المشاريع الإعمارية في سورية و كذلك الإمارات بعد خساراتها الفادحة في حرب اليمن وفي مشاريع اقتصادية فاشلة تبحث عن فرصة في الإعمار السوري.. ثم ان نجاح سورية في إعادة الإعمار لن يستغرق فترة زمنية طويلة سيكون خلالها انتعاش اقتصادي وتحديث المؤسسات الاقتصادية وتجديد الإعمار او ترميمه وهذا سينعكس بأثره على دور سورية ولكن هذا الأمر مناط بعدم تلاحق العقوبات الاقتصادية الأمريكية على سورية فقانون قيصر وما قبله من وضع قوائم لمسئولين سوريين على بند الحظر والملاحقة يعني ان الاقتصاد السوري لن يتعافى قريبا ولعل الانهيار في قيمة الليرة السورية مؤخرا يسير في سياق الحرب الاقتصادية الأمريكية على سورية.. كما ان هناك إعمارا من نوع آخر سيكون ضروريا جدا وهو المصالحة الوطنية و إفشاء السلم الاجتماعي وترميم ما دمر من حياة الناس بإعادة المهجرين واللاجئين وفتح باب الحريات السياسية و حريات التعبير والصحافة وتطوير أداوت التواصل بالناس تأسيسا لحياة تليق بشعب عانى الويلات خلال سنوات طويلة قاسية..
إن رحيل أكثر من سبعة ملايين سوري عربي سني من سورية مسألة كبيرة وخطيرة ولعل كثيرين يعزونها إلى عملية تغيير ديمغرافي تقوم بها المليشيات المساندة للنظام مما يعني ان انتصارات الدولة تظل مهددة مما يستدعي إخراج المليشيات الطائفية العراقية واللبنانية والأفغانية والإيرانية من سورية لان وجودها يثير الاستفزاز والعنف المضاد ولابد من تحجيم دور المتدخلين الإقليميين والعمل بدأب للوصول إلى المهاجرين وتقديم الضمانات لعودتهم الى بلدهم ومصالحهم.. قد لا يتحقق هذا الأمر حاليا لفقدان الدولة رؤية للموضوع ولكن لابد من الانتباه أيضا إلى أن بقاء النظام في سورية أصبح على طاولة البحث لاسيما من قبل الحليف الاستراتيجي روسيا وقد يتم اللجوء إلى خيار يعيد الثقة لدى الغالبية العظمى من الشعب السوري الذي تمزق نتيجة الحرب..
العراق ونار الطائفية:
سقط العراق بغطاء رسمي عربي وبتنفيذ أمريكي منطلقا من الجوار العربي واستغل الطائفيون والمليشيات التابعة لإيران الموقف إلا استمرار الحراك الشعبي العراقي الذي يطالب بخروج إيران والأمريكان من المشهد السياسي العراقي بداية العد للتحرير..
إن العراق ينهار في كل مناحي الحياة فلقد أصبح أغنى بلد عربي محملا بالديون وقد نهب اللصوص الكبار من قادة المليشيات مئات المليارات ولكن الأسوأ هو ما حاول الطائفيون تكريسه بشق الصف الوطني العراقي من خلال عمل عدواني منظم ضد المدن العراقية في الأنبار والموصل ليعززوا الروح الطائفية في بلد لم يشهد هذا الجنون يوما فالعراقيون متداخلون متصاهرون تجمعهم عروبتهم وعراقيتهم..
في ظل الحكم الطائفي أصبح العراق سوقا لمنتوجات الجوار محروما من التنمية والعمران والزراعة والإنتاج وهنا يطرح المراقب أسئلته: هل معقول ان يكون راتب الوزير والبرلماني في العراق أضخم راتب في كل البلاد العربية والإسلامية والأوربية؟ هل معقول ان يتم تهجير ملايين العراقيين ويتم جلب آخرين يستوطنون في العراق؟ هل معقول أن يظل العراق أكثر من 16 سنة تحت حكم المليشيات الطائفية تتحاصص المواقع بين المليشيات ويتم عملية تطهير في المواقع الحساسة من أبناء مناطق معينة؟ هل معقول أن تدمر الموصل وديالى والفلوجة وتكريت ويخوف أهلها لتشريدهم في ظل شعارات طائفية؟ هل معقول أن تظل تركيا وإيران والسعودية تسهم في فوضاه وضنكه؟ أن يغيب مئات آلاف العراقيين ولا يسمع عنهم خبر في حين تحمي المليشيات عناصرها وتتجاوز كل الخطوط الحمر؟
اليمن والشقاء:
مثل اليمن نشازا في الجزيرة العربية فهو البلد الوحيد الذي تحرر من سلطة العائلة وتحول إلى نظام جمهوري ببرلمان الأمر الذي حرمه أن يكون عضوا في مجلس التعاون الخليجي.. وظل اليمن حيويا في الجزيرة بتجاره المنتشرين في المملكة والخليج عموما وما يمثله من موقع استراتيجي استطاع أن يغلق باب المندب أمام البحرية الأمريكية والصهيونية ستة أشهر بعد انطلاق حرب أكتوبر 1973..
بعد انبعاث الحراك اليمني وأدائه السلمي المميز اكتشف الجميع ان هناك خطورة في فوز القوى السياسية التي تقوده.. فتحرك الجميع لتشجيع الحوثيين للنزول الى صنعاء.. وهناك حصلت الخطة التي أضمرتها السعودية والإمارات حيث كانت النية تقاسم جغرافيا اليمن بحيث تستولي المملكة على شبوة ومنها تفتح طريقا إلى بحر العرب وتتجنب باب المندب ومضيق هرمز وأما الإمارات فكان طمعها السيطرة على موانئ اليمن واحتكار الموانئ في المنطقة لتطوير تجارتها واستثماراتها..
انقلب الحوثي على الحكومة الشرعية وهنا حصل ما تتوقعه المملكة حيث ستجد المبرر لتنفيذ الخطة بحجة تحقيق إيران حضورا على باب المندب و بالقرب من المملكة.. فكان التحالف بين السعودية والإمارات ولكل منهما غرض وهدف.. تميز هدف الإمارات إضافة لما اشرنا إليه بضرورة إحباط حزب الإصلاح الإخواني الأكبر قوة والأكثر انتشارا في اليمن.. أما المملكة فكان التصدي للنفوذ الإيراني وفتح ممر لبحر العرب.. فكانت الحرب حيث كل أطرافها عناوين للأزمة.
لقد خسرت المملكة والإمارات مئات مليارات الدولارات وخسرتا سمعتهما وقد ارتكبتا جرائم حرب بتدمير حياة الشعب اليمني وأصبحتا مسئولتين عن واقع التمزق والحرب المستعرة في كل مكان في اليمن. وقد أصبح واضحا ان هدفهما ليس القضاء على الحوثي إنما أهداف مصلحية خاصة بهما..
رغم هول المأساة في هذا المثلث فهو من يحدد مصير المنطقة و مستقبلها.. سينتصر العراقيون على الهمجية الطائفية لأنها طارئ وسيخرج اليمنيون من ضنكهم فهم اهل الحكمة وستجد سورية بتوازنها وروحها الحضارية دربها للتماسك مرة أخرى والله غالب على أمره.