
إنّ المتأمل في حيثيات الشريعة الإلهية التي اختارها الله لعباده كعقيدة ونظام حياة، يجد خصوصية تميزت بها هاته العقيدة الحنفية السمحاء على ديانة أهل الكتاب، ولعل أهمهما تلك المحطات التي تختارها مدرسة الأعمال التعبدية، كمدرسة الصيام و الحج اللتان يعيش نفحتهما من ذاق حلاوة الإيمان وتيقين واستيقين بها، كما أجرى الله تعالى في خلقه سنّة التفضيل، ففضّل بعض الأيام على بعض، والأيام الفاضلة هي مواسم لنفحات الله يتفضل فيها على عباده فيغفر الذنوب، ويرفع الدرجات، ومن تلك الأيام الفاضلة يوم عرفة، فقيل إن يوم عرفة أفضل الأيام لقوله صلى الله عليه وسلم: «ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة؛ ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا فيباهي بأهل الأرض أهل السماء، فيقول انظروا إلى عبادي جاؤوني شعثا غبرا ضاحين، جاؤوا من كل فج عميق يرجون رحمتي ولم يروا عذابي، فلم ير يوما أكثر عتقا من النار من يوم عرفة.
عرفة هو يوم الوقوف على جبل عرفة أو عرفات في التاسع من شهر ذي الحجة، قال النيسابوري: «عرفات جمع عرفة»، وقال الطبرسي: عرفات: اسمٌ للبقعة المعروفة التي يجب الوقوف بها، ويوم عرفة يوم الوقوف بها» هناك عدة أقوال لتسمية عرفة بهذا الاسم، فقد قيل بأنها سميت بذلك لأن آدم عرف حواء فيها، وقيل لأن جبريل عرَّف إبراهيم فيها المناسك، وقيل لتعارف الناس فيها، وقيل بأن الكلمة مأخوذة من العَرْف وهو الطيب؛ كونها مُقدَّسة. إلا أن الروايتين الأكثر تأكيداً هما، أن أبو البشر آدم التقى مع حواء وتعارفا بعد خروجهما من الجنة في هذا المكان ولهذا سمي بعرفة، والثانية أن جبريل طاف بالنبي إبراهيم فكان يريه مشاهد ومناسك الحج فيقول له: “أعرفت أعرفت؟” فيقول إبراهيم: “عرفت عرفت” ولهذا سميت عرفة.، ذكر الإمام القرطبي في التفسير وغيره، وقالوا في تسمية عرفة بهذا الاسم لأن الناس يتعارفون فيه، وقيل لأن جبريل عليه السلام طاف بإبراهيم فكان يريه المشاهد فيقول له: أعرفت أعرفت؟ فيقول إبراهيم عرفت عرفت. وقيل لأن آدم عليه السلام لما أهبط من الجنة هو وحواء التقيا في ذلك المكان فعرفها وعرفته.
عرفة وقفة لله ووقفة مع النفس
يتراص الحجاج في ركن من أركان الإسلام هذا اليوم المهيب على جبل عرفات، مبتهلين إلى الله طالبين المغفرة والرحمة لأمة محمد عليه الصلاة والسلام، في ارض مباركة لتعلو النفس البشرية على المتع الدنيوية وتنشط الفطرة الإيمانية، تجتمع البشرية من شتى أنحاء المعمورة ليتساووا جميعا بلباس واحد، ولا فرق بين غني وفقير، وهذه الشعيرة وهذا المنسك العظيم يرجع الإنسان كما ولدته أمه، والحج لمن توافر له المال ووسيلة الوصول والقدرة الجسدية ”وهذا من رحمة الله بعباده”. ويستحب صيام يوم عرفة لمن لم يكن حاجاً، والأيام التي تسبقه من ذي الحجة جميعها أيام مباركة لمن يريد أن يستشعر بها طالبا للأجر العظيم. فهي مرة واحدة في السنة، فجميل أن نقتنصها، فرصة لنا أمام العلي العزيز للعمل الصالح والدعاء وتكفير الذنوب وذكر الله تعالى وقراءة القرآن الكريم والصدقة على الفقراء، ليحفظ الله المسلمين من النار.
ويستحب في هذا اليوم دعاء قول ”لا اله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير”، والإنسان بطبعه كائن ضعيف فدائماً يبحث عن وقفة مع نفسه لتصحيح الذات وتصحيح اتجاه البوصلة من الزلات والخطأ المقصود وغير المقصود، وأهمها الكنز المفقود ألا وهو الإيمان بالله تعالى.
فضائل يوم عرفة
إن الليالي والأيام، والشهور والأعوام، تمضي سريعا، وتنقضي سريعا؛ هي محط الآجال؛ ومقادير الأعمال فاضل الله بينها فجعل منها: مواسم للخيرات، وأزمنة للطاعات، تزداد فيها الحسنات، وتكفر فيها السيئات، ومن تلك الأزمنة العظيمة القدر الكثيرة الأجر يوم عرفة تظافرت النصوص من الكتاب والسنة على فضله وذلك لحديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال “أفضل الأيام يوم عرفة” رواه ابن حبان، وقال عليه الصلاة والسلام “مَا مِنْ يَوْمٍ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، يَنْزِلُ اللَّهُ تَعَالَى إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيُبَاهِي بِأَهْلِ الْأَرْضِ أَهْلَ السَّمَاءِ”.
1- أنه يوم إكمال الدين وإتمام النعمة على أمة الإسلام : ففي الصحيحين : عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أن رجلا من اليهود قال له : يا أمير المؤمنين ، آية في كتابكم تقرأونها ، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا . قال : أي آية ؟ قال : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا }. قال عمر ري الله عنه : قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم : وهو قائم بعرفة ، يوم الجمعة .
2- أنه يوم عيد لأهل الموقف : قال صلى الله عليه وسلم :” يوم عرفة و يوم النحر و أيام التشريق عيدنا أهل الإسلام ، وهي أيام أكل وشرب ” رواه أهل السنن . وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال : نزلت – أي آية ( اليوم أكملت ) – في يوم الجمعة ويوم عرفة ، وكلاهما بحمد الله لنا عيد .
3-أنه يومٌ أقسم الله تعالى به : والعظيمُ لا يقسم إلا بعظيم ، فهو اليوم المشهود في قوله تعالى : ( وشاهدٍ ومشهود ) البروج :3 . فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” اليوم الموعود يوم القيامة ، واليوم المشهود يوم عرفة ، والشاهد يوم الجمعة .. ” رواه الترمذي وحسنه الألباني . وهو الوتر الذي أقسم الله تعالى به في قوله : ( والشفع والوتر ) الفجر :3 ، قال ابن عباس : الشفع يوم الأضحى ، والوتر يوم عرفة . وهو قول عكرمة والضحاك .
4- أن صيامه يكفر سنتين : فقد ورد عن أبي قتادة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن صوم يوم عرفة ؟ فقال : ” يكفر السنة الماضية ، والسنة القابلة ” رواه مسلم . وهذا إنما يستحب لغير الحاج ، أما الحاج فلا يسن له صيام يوم عرفة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك صومه ، وروي عنه أنه نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة .
5 – يوم عرفة أحد الأيام العشر التي أقسم الله بها ، منبها بذلك ، على عظم فضلها ، وعلو قدرها ، قال الله عز وجل : (وَلَيَالٍ عَشْرٍ ). قال ابن عباس رضي الله عنهما : إنها عشر ذي الحجة . قال ابن كثير: وهو الصحيح . ووردت الإشارة إلى فضل هذه الأيام العشرة في بعض آيات القرآن الكريم ، ومنها قوله تعالى : ( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ ). وقد أورد ابن كثير في تفسير هذه الآية : عن ابن عباس رضي الله عنهما : الأيام المعلومات أيام العشر”. ووردت في السنة النبوية فضلها : فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” ما من أيامٍ العمل الصالح فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيامِ ( يعني أيامَ العشر ) . قالوا : يا رسول الله ، ولا الجهادُ في سبيل الله ؟ قال : ولا الجهادُ في سبيل الله إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله فلم يرجعْ من ذلك بشيء ” رواه البخاري وغيره . وفي لفظ : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ” ما من عمل أزكى عند الله عز وجل ، ولا أعظم أجرا من خير يعمله في عشر الأضحى قيل : ولا الجهاد في سبيل الله عز وجل ؟ قال : ” ولا الجهاد في سبيل الله عز وجل ، إلا رجل خرج بنفسه وماله ، فلم يرجع من ذلك بشيء “رواه الدارمي ، وحسن إسناده الشيخ الألباني في كتابه إرواء الغليل.
6 – يوم عرفة أحد الأيام المعلومات ، التي ذكرها الله تعالى في كتابه فقال : ( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ ) سورة الحج:28 . قال ابن عباس رضي الله عنهما : الأيام المعلومات : عشر ذي الحجة .
7-أنه اليوم الذي أخذ الله فيه الميثاق على ذرية آدم : فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بنعمان – يعني عرفة – وأخرج من صُلبه كل ذرية ذرأها ، فنثرهم بين يديه كالذّر ، ثم كلمهم قبلا ، قال : ( ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين (172) أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من يعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون ) ، رواه أحمد وصححه الألباني . فما أعظمه من يوم ، وما أعظمه من ميثاق .
8- أنه يوم مغفرة الذنوب ، والعتق من النار ، والمباهاة بأهل الموقف : ففي صحيح مسلم : عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” ما من يومٍ أكثر من أنْ يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة ، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول : ما أراد هؤلاء ؟ ” . وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” إن الله تعالى يُباهي ملائكته عشية عرفة ، بأهل عرفة ، فيقول : انظروا إلى عبادي ، أتوني شعثا غبرا ” . رواه أحمد وصححه الألباني .
9- أنه يوم العيد لأهل الموقف وغيرهم : فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ” يوم عرفة ، ويوم النحر ، وأيام منى ، عيدنا أهل الإسلام ” رواه أبو داود وصححه الألباني .
10- الدعاء يوم عرفة عظيم : فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ” خيرُ الدعاء ، دعاء يوم عرفة ، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير “. رواه الترمذي . قال ابن عبد البر رحمه الله : وفي ذلك دليل على فضل يوم عرفة على غيره . 11
12- يوم عرفة ركن من أركان الحج : بل هو ركن الحج الأعظم ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ” الحج عرفة ” متفق عليه.
اتفق المسلمون على فضل يوم عرفة، وذلك كونه يقع في الأشهر الحرم﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾،وكذلك كونه أحد أيام أشهر الحج] ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾،وأحد الأيام المعلومات ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ﴾،وقال ابن عباس الأيام المعلومات: عشر ذي الحجة، وأن يوم عرفة أحد الأيام العشر التي أقسم الله بها ﴿وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾، وقد قال فيها ابن عباس: «إنها عشر ذي الحجة» قال ابن كثير: «وهو الصحيح». كما قال فيها رسول الله: «ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام، يعني أيام العشر قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء، كما يعتبر اليوم الذي أتم الله فيه دين الإسلام، فقد قال عمر بن الخطاب: إن رجلاً من اليهود قال: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً. قال: أي آية؟ قال: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾. قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم الذي نزلت فيه على النبي وهو قائم بعرفة يوم الجمعة، كما يعتبر يوم عيد لمن وقف بعرفة فقد جاء في السُنّة عن نبي الإسلام محمد أنه قال: «يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام»، وفيه يعظم الدعاء فقد قال رسول الله: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة»، كما يكثر فيه العتق من النار وفيه قال رسول الله: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة»، وفيه يباهي الله بمن وقف بعرفة أهل السماء وقد جاء في الحديث: «إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء، كما يعتبر الركن الأعظم للحج فقد قال رسول الله: ”الحج عرفة”
كفى بيوم عرفة شرفًا أن الله أقسم به في كتابه، فهو اليوم المشهود في قوله تعالى “وشاهد ومشهود”، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال “اليوم الموعود يوم القيامة، واليوم المشهود يوم عرفة، والشاهد يوم الجمعة” رواه الترمذي وحسنه الألباني، وهو الوتر الذي أقسم الله به في قوله “والشفع والوتر”، فقال ابن عباس رضي الله عنهما “الشفع يوم الأضحى، والوتر يوم عرفة”.
وما يدل على فضل يوم عرفة واستحباب الإكثار من العمل الصالح فيه، قول رسول الله الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما رُئِي الشيطان يوما هو فيه أصغر، ولا أدحر، ولا أحقَر ولا أغيظ منه يومَ عرفة، وما ذاك إلَّا لِما يرى مِن تَنزّل الرحمةِ، وتجاوز اللهِ عنِ الذُنوبِ العِظام.
يوم إكمال الدين وإتمام النعمة:
روى البخاري بسنده: قالت اليهود لعمر إنكم تقرءون آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيدا فقال عمر :إني لأعلم حيث أنزلت، وأين أنزلت وأين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت: نزلت يوم عرفة إنا والله بعرفة قال سفيان: وأشك كان يوم الجمعة أم لا: “الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينا” (
وإكمال الدين في ذلك اليوم حصل لأن المسلمين لم يكونوا حجوا حجة الإسلام من قبل فكمل بذلك دينهم لاستكمالهم عمل أركان الإسلام كلها، ولأن الله أعاد الحج على قواعد إبراهيم عليه السلام، ونفى الشرك وأهله فلم يختلط بالمسلمين في ذلك الموقف منهم أحد، وأمام إتمام النعمة فإنما حصل بالمغفرة فلا تتم النعمة بدونها كما قال الله تعالى لنبيه “لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ”.
يوم عرفة هو أفضل أيام الدنيا، كما صحّ في الحديث عن النبي، عليه الصلاة والسلام، حيث يقول: «ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة، ينزل الله إلى السماء – يعني نزول تجلٍّ ورحمة – فيقول: انظروا إلى عبادي شُعثاً غُبرا ضاحِّين، جاؤوا من كل فج عميق، ولم يروا رحمتي ولا عذابي، فلم يُر أكثرَ عتيقاً من النار من يوم عرفة»، وفي حديث آخر يقول صلى الله عليه وسلم: «فما من يوم أكثر عتيقاً من النار من يوم عرفة وإنه ليدنو، ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء»؟!، وهو استفهام تقريري يُظهر الله فيه رضاه عن عباده الواقفين في هذا المشعر العظيم، لملائكته الكرام، وأن الله تعالى قد أعطاهم مرادهم.
يوم عرفة هو المقصود الأعظم من نسك الحج، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «الحج عرفة»، أي هو الركن الأعظم الذي يفوت النسك بفواته، وفيه تكون الفيوضات الربانية والنفحات الإلهية على عباده الذين يتعرفون عليه، ويلبون نداءه، فيحجون بيته العتيق، ويجتمعون في صعيد عرفة لا تجمعهم فيه مصالح دنيوية ولا منافع عاجلة، بتذلل وافتقار، وتوبة وانكسار، فيباهي الله، عز وجل، بالواقفين ملائكته، أي يفاخر بهم، فهو اليوم مشهود، كما جاء عن أبي هريرة، رضي الله عنه، وهو يوم الكرم والجود من الرب المعبود سبحانه.
هذا اليوم الذي يجتمع فيه حجاج بيته وقد تجردوا من ملابس الزينة وأنواع التنعم بالطيبات، إلى ملابس تشعر بالتجرد عن الدنيا وتوحي بملابس الآخرة، والانتقال إلى الرفيق الأعلى سبحانه، فيظهر بذلك الحال فقرهم ومسكنتهم، وذلك هو ما يحبه الله من عباده.
هذا اليوم الذي خطب فيه النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، خطبته العظيمة التي وضع فيها قواعد وأسس العدالة الاجتماعية في الأموال والدماء والحقوق الأسرية، وعظَّم فيه الحرمات، فكان مما قاله فيها: «فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، إلى يوم تلقون ربكم، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض».
هذا اليوم الذي يشمل الله تعالى بفضله جميع عباده، مَن حج منهم فبذلك التجلِّي العظيم، وبالمغفرة العامة وبالعتق من النيران، ومن لم يحج فبمشاركته الحجاج بالتبتل إلى الله تعالى، بذكره وشكره وصيامه، كما صح عنه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: «أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له»، فهو دعاء وذكر اليوم، فيشمل من كان واقفاً بعرفة ومن كان في داره، فالمسلمون كلهم يلهجون بذكر الله والدعاء له، فيشتركون في الفضل مع حجاج بيته الحرام، لاسيما وقد حجَّت قلوبهم ونياتهم، حيث لم يستطع مريدو الحج ومستطيعوه مادياً وجسدياً، أن يحققوا أمانيهم بسبب هذا الوباء العارم، إلا بنياتهم، فلن يحرمهم الله أجر الحج وفضله، كما صح في الحديث ”نية المؤمن خير من عمله”.
الشيخ محمد بن جابو
إمام مسجد عبد الحميد ابن باديس.البليدة.