ترُقب الغد، وانتظار الآتي، والتطلع للمستقبل القريب والبعيد وما يحمله الغيب في صفحاته ومفاجآته، فطرة فطر الله الناس عليها من يوم خلق آدم عليه السلام وسواه بيده، ونفخ فيه من روحه، وهي غريزة جبّلية أودعها الله سبحانه وتعالى في طينة آدم وحواء عليهما السلام لمّا أوصاهما بعدم الاقتراب من الشجرة فقال: {وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين}(البقرة: 35)، وهنا جاء النهي باستعمال فعل [القرب]، وهو أبلغ في النهي من فعل الأكل المراد به هنا، كما يفيد هذا الفعل [القرب] الزمن الحاضر والمستقبل، نظرا لما يترتب عنه من تبعات: كالحرمان من التنعم بنعم الجنة، واستحقاق درجة الظلم والظالمين، ومن ثمة وجوب عقاب الله تعالى، وفي هذا الصدد يقول الشيخ العلامة المفسر (محمد الطاهر بن عاشور ت 1397هـ 1973م) في تفسيره القيم التحرير والتنوير: ((.. وقوله تعالى هنا يعني به ولا تأكلا من الشجرة، لأن قربانها إنما هو لقصد الأكل، فالنهي عن القربان أبلغ من النهي عن الأكل، لأن القرب من الشيء يُنشىء داعية وميلا إليه، ففي الحديث: ((من حام حول الحمى يوشك أن يرتع –يقع- فيه)) . قال “ابن العربي 468- 543هـ”: سمعت “أبا بكر الشاشي القفال 429-507هـ 1037-1114م” في مجلس النظر يقول: ” إذا قيل لا تقرب، بفتح الراء، كان معناه لا تتلبس بالفعل، وإذا قيل بضم الراء كان معناه لا تدن منه”..)).
فالتحذير الإلهي الواضح والمباشر هنا بعدم القرب من الشجرة – وإن كان القصد منه النهي عن الأكل – إنما جاء تحذيرا وموعظة مستقبلية لآدم وحواء عليمها السلام ، كي يضمنا لنفسيهما أشياء كثيرة ، ويُغنيا نفسيهما عن أشياء ومحاذير كثيرة.
1 – استقبال جمال الحياة:
فاستقبال جمال الحياة، والتطلع للغد السعيد، والخوف من القادم ومفاجآته وهزاته وهناته، مما ركزه الخالق سبحانه وتعالى في طينة آدم عليه السلام، ولذا كان التخطيط والسير نحو المستقبل المشرق بإتيان أمور والانتهاء عن أخرى.. مما أودعه الله من الطاقات والميزات في جبلة آدم عليه السلام، ومن بين المهارات والقدرات والمواهب المذخورة في طينته عليه السلام، فضلا عن ما أودعه فيه من مواهب عديدة كـ : [فكه لأسرار المعرفة، والقدرة على الترميز والكلام والخطاب، وحرية الإرادة، وقابلية الاختيار، وروح الحرية والمسؤولية، وتسخير المخلوقات له..].
وظل آدم عليه السلام يتحرق شوقا للجنة ولنعيمها، ويتلهف طربا لكسب رضا الله تعالى عليه، ويتمنى رفع العذاب عنه حتى جاءه الفرج بفاعلية الاستقبال، وذلك عندما تقبل الله دعوته فقال: {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم} (البقرة: 37)، فالتلقي والتوبة هنا استقبال إكرام ومسرة وفرح، وصيرورة ربانية لآدم وحواء عليهما السلام ليحيا حياة مستقبلية ملؤها رضا الله سبحانه وتعالى، ووفق المنهج الذي رسمه لهما ولذريتهما.
وهي –فضلا عن ذلك- غريزة طبيعية تلقائية تتحرك في صدر الإنسان وتختلج في أعماق ، أحب ذلك أم كره، لأن الحياة بغير تطلّع للآتي المفعم بالأمل لا طعم فيه، وقديما قال الشاعر (أبو الطيب المتنبي ت 354 هـ ):
أُعَلِّلُ النفسَ بالآماني أرقبها *** ما أضيقَ العيشَ لولا فُسْحَةُ الأمل.
فهي إذن من تكوينة الإنسان ودقائق صناعته الإلهية، فليس منا من لم يترقب الغد المشرق، وليس منا من لم يتطلع للمستقبل، وليس منا من لم يتوجس من الغد وما يخبئه..
2 – الوعي المطلوب:
وانطلاقا من وعي الإنسان لذاته ولغيره، وتبصّره لوجوده ومكانه، والتعرف على محيطه وواقعه في مسيرة ليله ونهاره، صار يُدرك أقسام الحياة الثلاثية الأبعاد: [الماضي، الحاضر، المستقبل]. ومنها سعى لوضع المعالم والضوابط الأساسية التي تضمن له فهم واستغلال معادلة الزمكانية والتحكم فيها والسيطرة على أدواتها ومتطلباتها المادية والمعنوية، لإحكام سلطانه الجبلي في تسخيرها وتذليلها وركوبها لتحقيق السعادة الصغرى، واكتساب رضوان الله في الأرض، تمهيدا لاستحقاق رضوانه في الآخرة، ونيل السعادة الكبرى السرمدية.
3 – إمكانية صناعة المستقبل:
ولعل لمحة نلقيها على مسيرة الحضارة والمدنية الإنسانية عموما والإسلامية خصوصا نتبين بوضوح سعي الإنسان الحثيث لصناعة المستقبل. هذه الصناعة التي تمر أساسا من التطلع إلى الماضي والتعرف عليه، ورصد التراكم الحضاري للبشر، والبحث في ثناياه بهدف معرفة سنن الله التي خلت في عباده، فهو الذي يُخبرنا تارة، ويوجهنا تارة، ويأمرنا تارة أخرى.. بضرورة التطلع الأصيل نحو أبعاد الزمن الثلاثية، التي هي بناءٌ مترابط الأركان والمكونات والثمرات والنتائج، حيث يقول منبها إيانا عن أهمية معرفة الماضي لبناء الحاضر وتشييد المستقبل الزاهر: {أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها}(محمد: 10).
فصناعة المستقبل تتم بفهم ومعرفة ووعي الماضي أولا، ثم بمحاولة صياغة الحاضر ثانيا، الذي هو بوابة المستقبل لأن: ((.. فكرة التاريخ في القرآن الكريم تقوم على أساس أن التاريخ فعل إنساني، إذ إنه نتاج لتفاعل الإنسان مع بيئته في إطار الزمان والمكان، كما أن التاريخ خير وسيلة لكشف ماهية الإنسان، ولذلك نجد المادة التاريخية في القرآن الكريم تحكي قصة الأقوام والحضارات التي شهدها تاريخ البشر عبر الزمن.. ومن خلال المادة التاريخية الواردة في القرآن الكريم يمكن الخروج بنتائج من دراسة التاريخ الإنساني.. وأن التغيير التاريخي لا يحدث فجأة، وإنما ينتج عن تراكم بطيء عبر الزمان للأسباب التي تؤدي إلى هذا التغيير..)). حسبما ذهب إليه قاسم عبدة قاسم، إعادة قراءة التاريخ، كتاب العربي، رقم 78، اكتوبر 2009م، ص 42 و 43.
وعليه فصياغة الحاضر وصناعة المستقبل تمر حتما عبر بوابة الوعي بالماضي، لأن الله تعالى منح الإنسان صناعة التاريخ والمسؤولية عن نتاج صناعته، التي حدثنا عنها في الكثير من المواضع القرآنية، فقال: {وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلاّ قليلا وكنا نحن الوارثين}(القصص: 58)، وقوله تعالى في مآلات ومصارع الأمم الظالمة لنفسها: {ما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلوا عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلاّ وأهلها ظالمون} (القصص 59)، وقوله تعالى حاثا الإنسان للبحث الزمكاني: {أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} (الروم: 9)، فالفعل التاريخي في القرآن الكريم سببٌ له نتائجه، وسننٌ مضطردة يتحدد بناءً عنها مصير الجماعة الإنسانية نموا ورقيا وازدهارا.. وتراجعا وتخلفا ودمارا.. وقد قرر الله ذلك سنةً وقانونا أزليا في القرآن حين قال: {فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} (العنكبوت: 40).
4 – تفاوت البشر حيال المستقبل:
وينقسم الناس عموما والمفكرون خصوصا من إمكانية صياغة الحاضر وصناعة المستقبل إلى قسمين، قسم يتفاءل بصناعة الحاضر والقدرة على التحكم في شهوديته ومظاهره، ومبادرة خلاقة لصياغة المستقبل الزاهر، وهم عموم المتفائلين والمدركين لفهم رسالة الإنسان في الحياة.
وقسم آخر يتشاءم ولا يرى ذلك ممكنا، لاسيما في عصر السيطرة على الطبيعة والتحكم في قواها، ومن هؤلاء يقرر الباحث (راسل جاكوبي) في كتابه القيم “نهاية اليوتوبيا السياسة والثقافة في زمن اللامبالاة” عن موقف المجتمعات من إمكانية صناعة الحاضر والمستقبل فيقول: ((.. وقليلون هم الذين يتصورون أن يكون المستقبل شيئا سوى كونه صورة مطابقة للحاضر، قد يكون أفضل في بعض الأحيان، لكنها أسوأ على وجه العموم.. فالعالم اليوم يبدو في عيون الشباب أقل فتنة وسحرا، وبين الأوربيين والأمريكيين الناعمين بالرخاء تبدو لهم آفاق المستقبل كئيبة بائسة. وتشير التقارير الحديثة عن الانخفاض الحاد لنسب المواليد في الدول الأوربية الثرية إلى اتجاه جديد نحو العدمية والتشاؤم. والشباب يشعرون بأن السحب الداكنة تتجمع في الأفق.. لقد ضاع الاعتقاد بأن المستقبل سيكون أفضل من الحاضر.. ويبدو لدى الشباب الآن إحساس بأن الحياة –يوما بيوم– هي أفضل ما يمكنهم عمله، فأن يكون لهم أطفال أمر مكلف ومثقل بالمخاطر.. لأن ما كان ممكنا بالنسبة للأجيال السابقة لم يعد ممكنا لجيل اليوم..)). لمزيد من التوسع انظر: راسل جاكوبي، نهاية اليوتوبيا السياسة والثقافة في زمن اللامبالاة، ترجمة: فاروق عبد القادر، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، عدد 269، صفر 1422هـ ماي 2001م، ص 8 و 9، بتصرف.
إن هذا الصنف من الناس –وإن كنا لا نؤمن بما يقولون– صار يرى في ظل المشهد العدمي الآثم المعاصر أن المستقبل الذي كان يمكن التحضير له وضبط إيقاعاته سابقا، لم يعد ممكنا لأجيال اليوم، ولذا انقلب هذا الفئام من الناس نحو العدمية والدهرية في العيش، وفقد مبررات التفاؤل والاستبشار، وحل في مضائق التشاؤم واليأس العدميين المخالفين لروح الشرع والفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها لقوله تعالى: {.. إنه لا ييأس من روح الله إلاّ القوم الكافرون}(يوسف: 87)، على الرغم من تحذيرات وتنبيهات رسول الله صلى الله عليه وسلم جيل الصحابة رضوان الله عليهم من رداءة وفساد الأزمنة القادمة، إذ يقول محذرا: (( كيف بكم وبزمان يوشك أن يأتي، يُغربل الناس فيه غربلة، تبقى حثالة من الناس، قد مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا، وكانوا هكذا وشبك بين أصابعه)).
ومع كل هذا الفساد العالمي المبالغ فيه، وهذا الانهيار القيمي والسقوط الأخلاقي المريع، ومع كل هذه الضبابية السوداء التي ترين على الضمير العالمي الميت، إلاّ أن هذا لا يمنع من التخطيط والتفاؤل بالمستقبل الذي يجب أن نتمنى ونعمل ليكون سعيدا.
5 – الإنسان يسيطر على الحياة:
حوى القرآن الكريم العدد الوفير من الآيات الدالة على تمكين الله للإنسان بالمواهب والقدرات والطاقات التي تؤهله للسيطرة على قوى الطبيعة، فضلا عن تسخير الله تعالى لكل المخلوقات لتكون في خدمة هذا الإنسان المكرم، ُمشكلة بذلك التنزيل السنني قواعد وضوابط ثابتة وأساسية لعملية التفاعل بين الإنسان ومحيطه وأدواته عبر الزمن، فيما صاغه المفكر الإسلامي العالمي المرحوم (مالك بن نبي ت 1397هـ 1973م) في نظريته الحضارية الشهيرة: [إنسان + تراب + زمن = حضارة]، فقال: {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا} (الإسراء: 70)، وقال في التسخير الطبيعي: {.. وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين} (الزخرف: 13)، وكما قال سبحانه وتعالى في التسخير النسقي بين البشر: {.. ليتخذ بعضهم بعضا سخريا..} (الزخرف: 32).. وأقواله وتوجيهاته القرآنية سبحانه وتعالى في أشكال التسخير معرض من معارض الجمال والسحر والروعة الجمالية والتربوية والتعليمية والقانونية والإدارية والسياسية..
6 – عمر المعرفة:
وقد مرت حياة الإنسان وهو يصنع حاضره ويترسم معالم وآفاق مستقبله بمراحل مهمة في صراعه وتنافسه وتدافعه مع قوى الطبيعة، فكان عمر المعرفة التي يتوصل الإنسان لمعرفتها يدوم قرنا، وبسعي الإنسان الحثيث لتطوير حاضره ومستقبله صار عمر المعرفة يتقلص شيئا فشيئا، فنزل لحقبة من الزمن، ثم تدنى عمرها إلى نصف قرن، ثم إلى عقد، ثم إلى سنوات فسنة، ثم إلى أشهر وشهر، ثم إلى أيام فأسبوع، ثم إلى ساعات وساعة، حتى وصل عمر المعرفة في القرن الواحد والعشرين إلى ثلاث دقائق في غياب العرب والمسلمين عن صناعة المشهد العلمي والتكنولوجي المعاصر. ولمزيد من التوسع انظر: ميتشو كاكو، رؤى مستقبلية – كيف سيغير العلم حياتنا في القرن الواحد والعشرين-، ترجمة: سعد الدين خرفان، مراجعة: محمد يونس، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، عدد 270، ربيع الأول 1422هـ يونيو 2001م، ص 12 و 13 و 15 و 23 و 24.
وهذا كله إنما تأتى للإنسان من جراء سعيه الحثيث لتطوير حاضره ومستقبله، وتخفيف معاناته مع قوى الطبيعة، حيث تبين دراسة المعهد القومي الأمريكي للصحة بعنوان: [الإنسان يسيطر على المادة والحياة والذكاء] إلى أنه بحلول نهاية القرن العشرين كان العلم قد وصل إلى نهاية حقبة، كاشفا أسرار الذرة وجزيء الحياة ومخترعا الكومبيوتر الإلكتروني، و((.. بهذه الاكتشافات الثلاث الرئيسية التي انطلقت بتأثير ثورة الكم [QUANTUM] وثورة [D.A.N] و[ثورة الكومبيوتر]، تم أخيرا التوصل إلى القوانين الأساسية للمادة والحياة والحوسبة. إن هذه المرحلة البطولية للعلم تقترب من نهايتها، فقد انتهى عصر للعلم، وبدأت معالم عصر آخر تظهر.. إن عصر الاكتشاف في العلم يقترب من نهايته ليفتح عصرا جديدا، هو عصر السيطرة على الطبيعة..)). ميتشو كاكو، رؤى مستقبلية، ص 12.
7 – واجبات العقل المسلم:
هذا المستوى العلمي يُفترض أن يقوله المسلمون بكل اقتدار لأنه ورد واضحا بينا في كتابهم الكريم على سبيل الفروض والواجبات العينية والكفائية، وهم الذين حوى كتابهم الكريم مئات الآيات البينات التي تدعوهم للسير والضرب في الأرض، والتمعن في قوانينها ونواميسها ومظاهرها وأسرارها ومجاهيلها.. واكتشاف كنوزها وخيراتها والسيطرة والتحكم فيها، لأنها ُمسخرة لهم بداءة.
ولكننا بفعل التراجع الحضاري والأفول من عالم الشهود قاد غيرنا العالم منذ قرون خلت، حيث يقول في هذا الصدد العالم (ميتشو كاكو) في كتابه القيم [رؤى مستقبلية] عن الأعمدة الثلاثة للعلم في القرن الواحد والعشرين: ((.. تشكل هذه العناصر –المادة والحياة والعقل– أعمدة العلم الحديث، وعلى الأرجح سيسجل المؤرخون أن قمة الإنجاز العلمي في القرن العشرين كانت الكشف عن العناصر الأساسية التي تعتمد عليها هذه الأعمدة الثلاثة، والتي تمثلت في تحطيم نواة الذرة، وفك شفرة نواة الخلية، وتطوير الكومبيوتر الإلكتروني. وبإتمام فهمنا الأساسي للمادة والحياة تقريبا، فإننا نشهد إغلاق أحد الفصول الكبرى في تاريخ العلم..)).
إن المتمعن في هذا المستوى العلمي والتكنولوجي والمعرفي الذي وصل إليه غيرنا تحكماً وسيادةً وتمكنا في الزمن المستقبلي، والذي وصلوا إليه بقدرة التحكم والسيطرة على السنن والنواميس الإلهية التي لا تحابي مؤمنا ولا تضطهد ولا تتمنع كافرا، والتي تسير بفضل عدل الله وحكمته.. يحتم علينا استحداث آليات فهم شرعية تستند إلى النصوص الشرعية لاستكناه ضوابط الرؤى المستقبلية في الإسلام، لأن مستقبلنا ليس زمنا يتعين علينا انتظاره، بل هو منجز يجب علينا تحقيقه وصنعه بأيدينا معتمدين على القواعد والضوابط والسنن التي ركبها الله في جبلتنا، من أجل التحكم والسيطرة على كل المخلوقات التي وضعها وخلقها الله لنا خادمة.
8 – العقل طاقة خلاقة:
فالعقل طاقة خلاقة وهبها الله للإنسان وميزه بها عن سائر المخلوقات ليتمتع بها وليستغلها وفق ضوابط ونواميس ومقاصد خالقها عملا بالمبدإ الإلهي: {وأما بنعمة ربك فحدث} (الضحى: 11)، لا ليعطلها على حساب الاعتماد الكلي على الوحي، بحجة أن الوحي أغنى الإنسان عن كل شيء، حتى السير في الأرض والتدبر في أمور الحياة والمعاش والتنمية والتقدم والازدهار، مكبلين العقل ومخرجينه عن مساره كنعمة من نعم الله وُضعت له فضاءاته من لدن الوحي المقدس إلى جهاز أسيء فهمه واستخدامه، ينعكس سلبا على مطلوب الوحي المقدس منا.
فالوحي قدّم نسقا معرفيا مهما للإنسان، وترك مساحة بارزة للعقل البشري ليمارس فضيلة التنعم بعبادة ربه، فلكل وظيفته وحدوده ومساحته ومكانته.. وكلاهما يمد الإنسان بما يحتاجه لأداء رسالته الصحيحة في الحياة.
وخلاصة الفهم السليم:
والفهم السليم يحتم على العقل الناضج الخروج من الشراك المنصوب له من أصحاب التدين المغشوش، الذين مازالت معادلة الوحي والعقل غير واضحة لديهم، على الرغم من كون العقل هو محل الخطاب والتكليف، كما يحتم عليه الخروج من إسار المنحازين إلى القراءة الظاهرية للنصوص المحجرين على العقل والمتهمين إياه، وينفلت من عقال المؤلهين للعقل الواضعين إياه مقابل الوحي، فهذه الأصناف الثلاثة أزرت بالعقل، ولم تفهم سبب خلقه وتمييز الإنسان به عن سائر المخلوقات. وهو ما يقودنا لفهم وتدبر فقه السنن.
أ. د. أحمد محمود عيساوي