أقلام

عندما تتغير طبيعة المكان‪ ‬في العلاقات الدولية

ظل تفسير العلاقات الدولية والتنافس بين الأمم لعقود طويلة مرتكزًا على مفهوم الجغرافيا السياسية، أو ما يسمى «الجيو بوليتكس»، بمعنى التنافس الدولي للسيطرة أو الحصول على نفوذ في المناطق ذات الأهمية الإستراتيجية من المنظور العسكري، ولكن مع ازدهار ظاهرة العولمة، انتقل التحليل بعد ذلك إلى الجغرافيا الاقتصادية أو ما يسمى «الجيو إيكنومكس»، بمعنى تنافس الدول للوصول للمناطق ذات الأهمية الاقتصادية، ولكن مع التطورات الحاصلة في ميدان العلوم والتكنولوجيا تغير مفهوم التحليل ليعتمد على متغيرات أخرى جديدة لتفسير العلاقات الدولية المعاصرة وهو «المتغير التكنولوجى»، بالإضافة إلى بروز فواعل عالمية أصبح لها دور كبير في تشكيل السياسة الدولية على غرار الشركات العملاقة، حيث أصبحت تشكل هذه الشركات قوة مؤثرة في النظام الاقتصادي والسياسي الدولي، لما تملكه من إمكانيات مادية وبشرية هائلة، تمتد إلى مختلف دول العالم، وتعدد أنشطتها ومنتجاتها بغية توزيع المخاطر وتنويع مصادر الربح، مستفيدة من منجزات التقدم العلمي والتقني الذي تتميز به، مما سمح لها حتى بالتدخل في الشؤون الداخلية لدول الضعيفة وقيادها لانقلابات سياسية وتحكمها في سياسات هذه الدولة بمعنى انتقلنا من احتلال دولة لدولة أخرى إلى احتلال شركة لدولة، بالإضافة إلى بروز فاعلون أخرون جدد فيما يطلق عليهم ‪CYBERACTORS‬ أصبحوا يتحركون بعيدًا عن الأطر الرسمية والمؤسسات السياسية الدولية المعروفة ويمارسون نفوذهم وتأثيرهم دون المرور بجماعات الضغط التقليدية، وهو ما يظهر أن السياسية أصبحت تمارس في إطار بيئة إلكترونية جديدة، ودفع ذلك إلى ما سمي في العصر الراهن “بتحول المنظور ‪Paradigm Shift‬، وهنا نتحدث عن تغير طبيعة المكان في العلاقات الدولية الذي انتقل من اليابسة إلى شاشات الكمبيوتر.
ولهذا يمكن اعتبار هذه الفواعل الجديدة أحد الفاعلين من غير الدول التي تمتلك القدرة على التأثير في تطورات الأحداث الإقليمية والعالمية، ومن أبرز الأمثلة علي ذلك الهجمات إلكترونية على شبكات البيت الأبيض، وجاء الهجوم الإلكتروني بفيروس “ستاكسنت” على برنامج إيران النووي عام 2010؛ ليمثل نقلة مهمة في تطور واستخدام الأسلحة الإلكترونية، ثم الدور السياسي الذي لعبته شبكات التواصل الاجتماعي في إدارة الفوضى في عدد من الدول العربية خلال ثورات الربيع العربي، بالإضافة إلى اختراق لروسيا لبعض المواقع الرسمية في الولايات المتحدة الأمريكية، واختراق الصين لبعض المواقع اليابانية وغيرها من الأمثلة.
أصبح الفضاء الإلكتروني محركًا ووسيطًا لنقل حركة التفاعل والسلوك الدولي وأنماطه الصراعية والتعاونية، سواء من جانب الدول أو من غير الدول، وساعد على إحداث تحولات في هيكل النظام الدولي وفي نمط إعادة ترتيب وتوزيع عناصر القوى في العلاقات الدولية والتحول في المنظومة القيمية للعلاقات الدولية، من خلال تحليل تأثير الفضاء الإلكتروني في دور القوى في النظام الدولي والمصالح والضوابط والدوافع التي تؤثر في حركة العلاقات الدولية.
إنّ التقدم التكنولوجي ولّد ظروفًا وبيئة جديدة تمارس فيها الدول حقوقها السيادية وتسعى إلى تحقيق مصالحها، في كل من السياسة الداخلية والخارجية، بحيث يجبر التقدم التكنولوجي الدول على التكيف مع منطق الأداء في البيئة الدولية، كما يتسم بشبكة متنامية من الترابط، وزيادة الكثافة والتعقيد والديناميكيات في العلاقات السياسية الدولية، من خلال تشكيل إطار جديد للعلاقات الدولية، يتسم بالتعقد والترابط والاعتماد المتبادل، يمكن أن يتم تصور هذه الظاهرة على أنها سلسلة من “التحولات” التي تعبّر عن تغير المجتمعات وتطور العلوم والبحوث في مختلف الميادين، والأهم من ذلك، تحول التكوينات الجيوسياسية الحالية من المستويات المحلية إلى المستويات العالمية، وهنا نتحدث عن تغير طبيعة المكان في العلاقات الدولية، ولذلك باتت الحاجة ملحة لتقديم تعريفات جديدة للقضايا السياسية ومواجهة المشكلات الدولية التي ظهرت بفعل الثورة العلمية والتكنولوجية؛ وهو ما أدى بدوره لإعادة تعريف ما هو سياسي في إطار اتساع المجال العام الدولي ‪Public Sphere‬، وهو ما عمل على تشكيل وإعادة تشكيل المفاهيم الأساسية في العلوم السياسية والعلاقات الدولية وتحديًا للمعرفة التقليدية التي استقر عليها حقل العلاقات الدولية والذي شهد خلال العقدين الأخيرين تحولات في ضوء ثورة تكنولوجيا الاتصال والمعلومات لاسيما فيما يتعلق بدور الدولة ومفهوم السيادة، ومفهوم القوة والحرب والسلام والدبلوماسية وغيرها من المفاهيم التي كانت حجر الزاوية في نظريات العلاقات الدولية.

الحروب المستقبلية…… حروب افتراضية
الحروب الافتراضية هي نوع خامس من أنواع الحروب، بعد الحروب البرية والحروب البحرية والحروب الجوية وحرب الفضاء، ومصطلح الحرب الافتراضية او الالكترونية او الرقمية او السيبرانية، مفهوم يشير الى (أي نزاع يحدث في الفضاء الإلكتروني ويكون له طابع دولي). وهناك تعريف أكثر فائدة للحرب الإلكترونية: عمل عدائي في الفضاء الإلكتروني تؤدي التأثيرات المترتبة عليه إلى تضخيم العنف المادي أو تعادله، وهو يتفرع الى عدة انواع واشكال هي، القرصنة الإلكترونية أو التخريب الإلكتروني والجريمة الإلكترونية والتجسس الإلكتروني والإرهاب الإلكتروني والحرب الإلكترونية.
بعد السيف والرشاشات والدبابات والمقاتلات، وصل العالم إلى الحرب الافتراضية، التي يمكن ألا تقتل أحداً، لكنها تسبّب خسائر ضخمة وتخريباً في البنى التحتية، كما تتيح لمنفذيها الاستيلاء على معلومات قيّمة، يمكن استخدامها لتحقيق مآرب سياسية أو غايات مالية واقتصادي، فالقرصنة ملعب مفتوح للجميع، ولاعبوها متفاوتوا الأحجام، وقدراتهم العسكرية غير متكافئة، لكنها تمكّن الطرف “الأضعف”، أقلّه نظرياً، من تحقيق “توازن رعب”، ولو ظرفياً، في ما يشبه حرباً موازية، أو بالوكالة، تتوسّل تفادي مواجهة شاملة، وكأنها أحد الألعاب الحربية في البلايستايشن، حيث تقوم الجيوش الالكترونية بخوض حروب من وراء الشاشات، من خلال إطلاق صواريخ عابرة للقارات في حالة الضرورة، أو من خلال شن هجمات الكترونية للقرصنة العنكبوتية والحصول على المعلومات السرية لدولة العدو أو لأي دولة تكون ضعيفة تكنولوجيا.
التأثير الآخر للتكنولوجيا في العلاقات الدولية، سيرتبط بالطريقة التي تتم بها إدارة الحروب، التي قد تتم بالكامل بواسطة التكنولوجيا، وستعرف الدول التي ليس لديها منظومة متطورة في مجال الذكاء الاصطناعي أنه ليس لديها أي فرصة للفوز في الحروب، في حين أن البلدان ذات المستوى الأعلى في هذه التكنولوجيا سيكون لديها طرق أفضل للحصول على ما تريد، وسوف تفسح ناقلات الطائرات وصواريخ كروز الطريق كي يحل محلها الحروب السيبرانية التي من الصعب اكتشافها‪.‬

بقلم الدكتور بن عائشة محمد الأمين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى