
بقلم: احسن خلاص
فتح نشر التقرير الذي أنجزه المؤرخ الفرنسي بن جامين ستورا للرأي العام حلقة جديدة في مسلسل الذاكرة الاستعمارية بين الجزائر وفرنسا الذي صار ضمن المأساة الملهاة وأظهر البون الشاسع الذي لا يمكن تقليصه بين سرديتين ظلتا ولا تزالان في خطين متوازيين. وكما يقول المنطق فإن طبيعة المقدمات هي التي تحدد طبيعة النتائج فإن النتائج جاءت مخيبة للآمال بالرغم مما أظهرته القيادات السياسية في البلدين من حسن الظن وطيب النوايا وما أبرزه الخطاب السياسي من إرادة لتصفية الأجواء مثل ذلك الخطاب الذي أنتجه التفاعل الإيجابي بين الرئيسين الجزائري والفرنسي منذ ما يقرب من عام لاسيما وأن الرئيس ماكرون يعد من أكثر الرؤساء حرصا على طي ملف الذاكرة الشائك، وقد أولاه اهتماما خاصة منذ بداية فترته الرئاسية وهو ما جعل الرئيس تبون يثني على صدق هذه الإرادة وعلى ما عبر عنه الرئيس الفرنسي الشاب من رغبة في النظر إلى الملف بمزيد من الموضوعية بل وأثنى على اختيار ستورا الذي اعتبره الأكثر صدقا ومعرفة بتاريخ فرنسا الاستعمارية.
لم تنطلق عملية البحث عما يسمى المصالحة الذاكراتية بين فرنسا والجزائر من لا شيء لأن كل واحد من الطرفين يعلم بأدق التفاصيل الثوابت والمتغيرات في مقاربة الآخر لموضوع الذاكرة. لذا لم ينتظر المراقبون أن تكون الورشة التي أطلقها الرئيسان تبون وماكرون فرصة لإحداث ثورة معرفية في المقاربات التقليدية المعهودة منذ ما يقرب من ستين عاما من الخطاب الفكري والأدبي والسياسي المتعلق بفترة الاستعمار بشكل عام وبمحطاته المأساوية والحرجة بشكل خاص، ذلك أن النزعة الكولونيالية المستبدة والتمييزية لم تغادر الذهن الفرنسي المفكر في الماضي الاستعماري ولا تزال ملتصقة به وستبقى، وهذا ما بينه تقرير ستورا الذي خيب ظن بعض المراقبين الذين كانوا ينتظرون ما يشبه القطيعة المعرفية والنفسية مع هذه النزعة بالقدر ذاته الذي أكد ما كان ينتظره مراقبون آخرون من أن ما ترسب وتراكم لعقود لا يمكن أن يتجاوزه تقرير رسمي موجه لسلطة سيادية فرنسية متمثلة في رئيس الجمهورية.
غير أن هذا التقرير الذي استقبله الجزائريون باستياء شديد لم يكن ليمر دون أن يحدث أثرا إيجابيا للطرفين الفرنسي والجزائري. وأول ما نجح التقرير في تحقيقه في الضفة الفرنسية أنه أنهى الجدل الداخلي في فرنسا وقضى على مخاوف عبرت عنها أطراف أكثر تطرفا وحقدا من أن ينزلق تقرير ستورا المتهم بتعاطفه مع الجزائر إلى أي شكل من أشكال المراجعة للسردية الكولونيالية التقليدية لاسيما وأن الجزائر لم تبد أي ضغط على الطرف الفرنسي بهذا الشأن بل تركت المجال للخطاب المطمئن الذي جرى على لسان الرئيس الفرنسي الذي وضعت فيه ثقة عمياء في أن يمهد الطريق نحو المصالحة بين الجاني والضحية.
وبنجاحه في تخفيف حدة الجدل الفرنسي الداخلي يكون تقرير ستورا قد حقق مصالحة فرنسا مع ذاتها بدل أن يخطو الخطوة الأولى نحو المصالحة المنشودة بين ذاكرتي الشعبين وثاني ما نجح فيه التقرير أنه استطاع أن يرسل رسالة يأمل أن تكون الأخيرة مفادها أن من ينتظر خطوات شجاعة من فرنسا تجاه ماضيها الكولونيالي فهو واهم لاسيما في هذا الظرف الذي تتأهب فيه الطبقة السياسية في فرنسا لخوض استحقاقات رئاسية هامة فالخروج عن الإجماع الفرنسي القائم حول الذاكرة الكولونيالية يعد مجازفة للرئيس ماكرون الذي يأمل في فترة رئاسية ثانية بالرغم من الهزات التي تتعرض لها شعبيته ولأن مثل هذه الخطوات من شأنها أن تؤلب المستعمرات الفرنسية كلها وتنهض لتطالب بالاعتذار والتعويض من فرنسا الذي لا تزال تأمل في أن تستمر هيمنتها عليها لعقود أخرى من الزمن. تضاف إليها مسؤولية الدولة الفرنسية تجاه من شارك في العملية الاستعمارية و”حرب الجزائر” بشكل خاص وقد عبر تقرير ستورا عن هذا الموروث عندما استحضر مقاطع من خطاب ألقاه الرئيس الأسبق جاك شيراك عام 2002 وهو يقول: “أريد أن أعبر عن عرفان الأمة للجنود للذين ماتوا من أجل فرنسا في إفريقيا الشمالية منذ ما يقرب من نصف قرن وهم 22 ألف جندي أريد توجيه التحية بحماس وامتنان لإخلاصهم وشجاعتهم وتضحيتهم بشبابهم. أريد أن أقول لعائلاتهم الجريحة أننا لن ننساهم أبدا” وعندما تحدث عن الحركى بقوله: “إن الحركى والقوات الإضافية الذين أعطوا الكثير لبلادنا قد دفعوا ثمنا غاليا إليهم وإلى شرفهم كجنود وإلى أولادهم الذين يجب أن يجدوا مكانهم في بلادنا تتوجه فرنسا برسالة تقدير خاصة وامتنان وصداقة”. هذه العبارات كافية لتدل على أن لجنة ستورا لم تتخلص من النظرة العاطفية والسياسية إلى ملف الذاكرة.
غير أن ما أحدثه التقرير على الجانب الجزائري لا يقل أهمية عن مفعوله على النقاش الداخلي الفرنسي فقد أتاح الفرصة للجزائريين لأن يدركوا ويوقنوا أن مقاربة المصالحة في التعامل مع الذاكرة الاستعمارية لا تعدو أن تكون تضييعا للوقت في خطاب سياسي قد يصلح لمعالجة إشكالات ظرفية دون أن يذهب إلى حد تصور حلول نهائية من شأنها أن تطوي الملف بالطرق الديبلوماسية. فبعد ما يقرب من 60 عاما من الاستقلال عن فرنسا لا يزال الإرث الاستعماري المأساوي قائما وجاثما ولا يمكن لأي إرادة سياسية أن تردم الهوة بين نظرة الجاني ونظرة الضحية. لقد حاول تقرير ستورا أن يضعهما في سلة واحدة باعتبارهما ضحيتي حقبة مأساوية لا ذنب لأحد فيها ولا أحد منها بريء.