بقلم: جمال نصرالله
في بداية التسعينيات سافرت نحو باريس عن طريق مارسيليا ضمن باخرة الحرية من ميناء الجزائر في رحلة سياحية لا غير،ومكثت هناك 21 يوما كاملا.
وحين عدت سألني زميل لي (ما الذي أعجبك في فرنسا وما الذي أكرهك فيها) أجبته بأني الذي أعجبني هو الكثير من المعالم الأثرية،وكلما مررت بأحدهم إلا وتذكرت حادثة تاريخية،وكذلك بعض الأزقة التي كان يجلس بها رواد الفلسفة والأدب في ذاكم البلد ،ناهيك عن محلات بيع العطر والكتاب،زيادة على دخولي إلى معهد العالم العربي هناك وتلك الكولاجات التي ينظمها نفر من المغتربين العرب، وكل هذا الذي عددته لزميلي خلته من بنات الجوانب الشكلية ليس إلا، أما في العمق (أي كل ما يتعلق بالمجتمع والعادات) فهذا يدخل ضمن ما كرهته في هذا البلد، خاصة مسائل اتخاذ الخمر كحساء يومي ومع كل مأدبة.بل يُستعمل مثلما نستعمل نحن (القازوز أو ماء سعيدة) وتقديمه مُرفقا مع الوجبات داخل المطاعم.دون أن ننسى طبعا نوعية اللحم.الذي تبذل بشأنه أنت جهدا شاقا كي تعثر على نوعية من سلالة الأغنام أو حتى الماعز.فالغالب أن الجميع يتلذذ لحم الخنزير على الرغم من علمهم المسبق بأنه يسبب أمراضا خطيرة وقاتلة.ورغم ذلك يتمادون في التفنن في طبخه. وفي المطاعم نفسها أنت تلاحظ تلك العلاقات المشبوهة(قياسا على ثقافتنا نحن طبعا) فالمرأة تناقش من تحب وتجلس كذلك مع من تحب وتراقصه بحرية علنية .وتواعد كما تشاء،والعذرية بالنسبة إليهم شيء ثانوي وجزء من الحرية الفردية الخاصة ،أمور مثل هذه وغيرها تدخل ضمن عدم وجود ضوابط أو مبادىء في الحياة تركتني مجرد مشاهد ليس إلا؟اـ ولست مثل العلامة المصري رفاعة الطهطاوي الذي أرسل عام 1926 في بعثة من أجل الدراسة. وحينما وصل رمى بلحاف رأسه على الأرض، وقيل أن ذلك نتيجة صدمته بالتطور والحضارة التي شاهدها والتمسها بأم عينه..خاصة عند المرأة.
ومن هنا كان ولا بد أن نعرج على السينما. لأنها بالنسبة لي تُعتبر قواسم مشتركة بين جل الدول الأوروبية في الحياة العامة.وكذلك عدد من الدول الأمريك لاتينية…. التصرفات الآنفة الذكر نلتمسها في معظم الأفلام.. خاصة تلك المصنفة في أفلام الدراما والإثارة فالخيانة الزوجية مُباحة حتى لا نقول مُشرعة وفق العُرف والثقافة…. بل تجدها مودة للتباهي لدى كثير من النساء والفتيات.
وعلاقتي الشخصية بهذه الأفلام على مدار ثلاثين سنة تقريبا مكنتني من أن أتوغل جيدا في تحديد أطر هذا المجتمع أو ذاك..تسليما بأن السينما مرآة تعكس حياة البشر خاصة الواقعية منها.. وجعلتني بالقابل أنظر للفيلم من عدة زوايا متجاوزا في بعض الأحايين تلك المشاهد المقززة والمنفرة والتي تستنفذ الوقت وتهدره ,وتترجم ثقافة المخرج وشخصيته.الذي ليس بالضرورة أن يكون عمله هذا ذا قيمة (فهناك مخرجين كبار معروفين ارتكبوا المهازل) ومن الجهة الأخرى هناك مخرجين جادين في معظم أعمالهم,لا شيء سوى أنه يدركون بأنهم يقدمون مادة دسمة للمشاهد .وحالة أخرى تقول بأن هناك نوع من المخرجين كانوا وراء عشرات الأفلام.ومعظمها أعمال تافهة .لا تستحق إلا الرمي في سلة المهملات .بل هي إفلاس ثقافي وهدر للمال. ونوع آخر هاجسه الأوحد هو تمرير ايديولوجية معينة والترويج للديانة المسيحية بمختلف مفاصلها الأرثوذكسية والبروتستانية .والكاثوليكية .نفهم هذا جيدا من خلال الرموز أو نوعية الخطاب.ونوع خامس من المخرجين لا يبتغي إلا ترجمه هواجسه النفسية في الحياة على رأسها طبعا الهاجس الشهواني الجنسي .مستغلا في ذلك الكثير من الفئات والمكانة المرموقة والفرص التي أتيحت له.
وهذا لربما يحيلنا إلى نقطة مهمة وهي المقارنة بين السينما الأوروبية والعربية .هذه الأخيرة التي عجزت صراحة عن ترجمة الواقع العربي ترجمه صادقة.بل للأسف انخرطت في حشو الخيال والتجميل السيء الذي يعبر بأي حال من الأحوال عن شدة الذهول بالآخر,وعدم وجود مخرجين يملكون من الوعي النزر الكثير ـ ما عدا بعضهم طبعا ـ وفي أقل من المشاهد .
والأغرب من كل هذا أنك تجد اليوم ومع تطور الصحافة والمواقع الالكترونية بعض الأفلام القصيرة العربية والتي يمكن إدراجها كعمل هواة.فيها الكثير من النضج والوعي.فقط هي تحتاج إلى توفر امكانيات.وإتاحة الفرص والتشجيع.
السينما الأوروبية على مدار حقب وأزيد من قرن نقلت لنا جزءا كبيرا من آليات التفكير العقلي…يوم توظف الكثير من الأطروحات والمفاهيم المُعبرة عن الميولات الشخصية والحياة العامة والفلسفية .التي تحاول في كل مرة أن تبرز حجم تفوقها على الأجناس والشعوب الأخرى.أي بنظرة إستعلائية.ومازالت لحد الساعة غير راغبة في التوبة و طلب الغففران من الأقاليم الأخرى المستضعفة…وهذه أم المشكلات التي وجب معالجتها قبل أن تنتقل السينما إلى فن عادل وموازي لتحولات العالم .
شاعر وصحفي جزائري