أقلام

عوالم الوهم التي ابتلعت بقية الوعي

رواية خوف للسعودي أسامة مسلم

وضح أن الحصائل المرة للانهيارات الكبرى التي عرفتها البنى الاجتماعية والثقافية، لا تنفك تتجل تواليا، بعد إذ ظلت متوارية على العقول المتسطحة لمدة طويلة، في ظل فشل مهول لمشروع بناء الإنسان والمجتمع الذي تأملته الثورة ودولة الاستقلال، من خلال أدبياتها ومواثيقها، لا سيما في هذا الظرف الذي تُعتصر فيه كل قيم العالم، ويُضغط فيه على، بشكل رهيب حتى لا يكاد يفقد ذاكرته ومرجعيته الإنسانية.
هذا ما جلته فضيحة الانجراف الشعبي الكبير بالمعرض الدولي لكتاب الجزائر على جناح الكاتب السعودي أسامة المسلم، الذي صنع بروايته “خوف” الدهشة والاثارة والمفاجئة، في مجتمع تأبى أن تمضي أموره في سياقها الطبيعي، بل تحكمه المفاجآت والبغتات، ما جعل الجميع يطرح جملة من الأسئلة ذات الصلة بهذا الاتجاه القطيعي غير القطائعي مع موجات وموضات الظرفية في التعامل مع مسائل حيوية في المجتمع.
فما الذي ساق القراء الجزائريين إلى هذا الجناح زمرا وسلاسل بشرية متصلة، نحو هذا الكاتب المغمور وترك البقية من أجد وأجهد الكتاب الوطنيين والأجانب معا قائمة بأجنحتها في المعرض؟ وهل فعلا لهاته الظاهرة أسبابها ودوافعها الموضوعية؟ وهل كانت من ورائها إفادة ما؟
ربما الكاتب السعودي نفسه لم يكن مراهنا على هذا النجاح المنقطع المثيل الذي وهبه إياه القارئ الجزائري، الذي هو أحد أهزل هواة القراءة فلربما في المنطقة، وقد كان كذلك ولم يزل، منذ ما قبل ظهور الفضاء الأزرق الذي ربما فاقنها فيه بحسب ما تؤكد كل الدراسات والاستطلاعات.
وعلى ذكر الفضاء الأزرق، يمكن القول أنه هو من خلق هذا النوع من القارئ الغريب العجيب الذي يسعى خلف الاثارة التي تصنعها وسائل التواصل الاجتماعي، لكن قبل أن يُخلق هذا القارئ المتوهم، فيمكن القول أن آلية الخلق تلك، تم اعدادها بدهاء وتفعليها بذكاء بحيث تستطيع أن تستثمر بشكل كلي ومطلق في الوعي الإلكتروني الذي طغى على التاريخ اليوم حركيةً وخيالاً وصناعةً، ونقل الانسان بقوة الوهم التي وجد قابليته لها فيه، إلى عدمية وجودية غير ذات محمود من العواقب والخواتيم.
فالانسياق الكلي للقارئ أو بالأحرى، المقتني الكتب في المعرض إلى أجنحة التفاهة، لم يكن شيئا طارئا في تقاليد زوار المعرض من الجزائريين، لكن مع ذلك سبق وأن بدت بعض الاستثناءات في مراحل سابقة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر الطوابير التي شوهدت أمام أجنحة المعروضات من كتب الساسة ورجال الحركة الوطنية والدولة السابقين، عكس فيما مضى شغف هؤلاء الجزائريين بمعرفة حقائق عن تاريخهم الوطني من مصادر غير رسمية، خصوصا ما تعلق منها بقصة الثورة والخلافات والنزاعات التي طبعت سلوك الفاعلين الثوريين، كما كان الشأن مع مذكرات العقيد طاهر زبيري التي عرفت تدافعا في الصفوف غير معهودة قبل أزيد من أربع سنوات فيما أذكر.
لكن ها هو اليوم الاكاديمي والبحاث في قضايا التاريخ الوطني الدكتور الأمين بلغيث يجد نفسه أقل شأنا في اهتمامات القارئ الجزائري الذي ولَّى وجهه قبل كاتب سعودي آثر أن يمضي على نهج الوهم والشعوذة الخيالية الخالية من موضوعية التاريخ، والصاعدة إلى الفضاء الأزرق، وما أحوج الجزائري اليوم إلى الكتابة المشوهة المتشعوذة التي بات يرى فيها خلاصه من طلاسم الحاضر، أجل لم تعد الطلاسم في وعي الجزائري تلك التي بالتمائم المغلفة بالنحاس أو القماش، والتي لا يفهمها ولا يراها ولكنه يعتقد إما في خطورتها باعتبارها سحرا أو فائدتها كحل لذلك السحر الذي يظنه أنه ضحيته، إنما الطلاسم لديه صارت اليوم ما يقال ويكتب وينظر في عالم الشهادة ومن أهل التخصصات والشهادات.
أجل لقد أبان الحدث الكبير في معرض الكتاب الدولي بالجزائر عن نهاية وهم الواقع وبداية عصر واقع الوهم الكبير والخطير، واقع ينقض كل ما تم بناؤه وتشيده من عناصر إقامة وتقويم التاريخ، بانحدار العقل في قعر الهاوية ما يتهدد كل جهود التأسيس لذات قوية حاضرة بمستلزمات الوعي الحقيقي الذي من دونه لا يمكن رفع أي تحد.
وأغرب ما قرأته كرد فعل من نخب الجزائر بإيزاء ما حصل بمعرض الكتاب الدولي بالجزائري واقتياد خيال سعودي تافه لقرار الزوار بالمعرض من مقتني الكتب، كان للدكتور عبد حمادي أحد أعمدة النقد الادبي بالجزائر، وفارس الدراسات الخاصة بالأدب الاسباني بجامعة قسنطينة، الذي أكد بأن كتاب هذا السعودي إذا كان له من أهمية ومهمة يكون قد أداهما، فإنه قد خدم وساهم في توطيد اللغة العربية بالجزائر ‪!‬‬
اللغة العربية أوطد وأرسغ ما تكون في مجتمع القراءة والثقافة في الجزائر اليوم رغم تكالب الفرنكوفيليين عليها ورغبتهم في مزاحمتها وإزاحتها من المشهد الثقافي والإبداعي الوطني، من خلال ما يقدم من تسهيلات في النشر وتخفيضات في أثمان الكتب، والتوزيعات الجزافية للجوائز على الشباب والشابات ممن يكتبون بهاته اللغة من أجل الإبقاء على نشاطها، وهي اللغة الآيلة إلى الزوال، داخل منظومتنا اللغوية والفكرية والثقافية، لا سيما مع التوجه الرسمي نحو البديل اللغوي الإنجليزي والذي بدأ يؤتي أكله بإيقاع سريع فاجأ الجميع حتى ‪!‬‬
فهو إذن مشكل يتجاوز مستوى اللغة في الإفادة، بل هو بلاء خطير وقد طال عقل الإنسان الجزائري، كما الفيروسات المتدفقة من المواقع الافتراضية التي يراد من خلالها تدمير البرامج ونظم الحاسوب، فهي منتوجات فيروسية مدمرة لبرامج العقل والثقافات تستغل ضعف جهازنا المناعي الثقافي والفكري، لتنال مما تبقى من صحتنا الفكرية الرمزية والثقافية.
فكل منظومات الأمن صار لها الاهتمام واشتغال على مستوياتها حفظا للمجتمع من مخاطر يتم إنجازها في المخابر، إلا منظومة الأمن الثقافي والفكري التي يبدو أنها لا تزال مستعصية على الفهم وبالتالي على القدرة على الرصد من جانب من يقومون أو يفترض أن يقوموا عليها.
بشير عمري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى