
بقلم: احسن خلاص
كانت الفترة الرئاسية لدونالد ترامب منذ بدايتها إلى هذه الأيام الأخيرة من عمرها مليئة بالاختبارات ليس لما دأبت عليه المجموعة الدولية بل حتى لما ألفه النظام الأمريكي منذ عشرات السنين من تقاليد ديمقراطية مؤسساتية. لقد وضع ترامب المؤسسات الأمريكية منذ الوهلة الأولى أمام حالة تأهب قصوى فصارت مثل الحكم الذي يتابع اللاعبين في الميدان والصفارة في فمه ويده على البطاقات ليعلن في كل لحظة عن خطأ ويشهر بطاقته الصفراء أو الحمراء إلى ذلك اقتضى الأمر ذلك.
منذ أن أعلن دونالد ترامب عدم اعترافه بالهزيمة أمام منافسه جو بايدن اتجهت أنظار العالم كله إلى الولايات المتحدة الأمريكية وصار حساب ترامب على التويتر، البوابة المفضلة لديه لمخاطبة الأمريكان والعالم، محل رصد في كل لحظة من قبل مئات الملايين من المتابعين من بينهم كبار قادة العالم، إذ صارت خرجات هذا الرجل الفريد من نوعه لوحدها تغني عن ما ينتظره هذا الطرف من سياسات ذاك.
غير أن الأسابيع الأخيرة من فترة ترامب الرئاسية كانت وستظل أكثر استقطابا بالرغم من القناعة الراسخة بأن القلم رفع عما يمكن أن يصدر فيها من قرارات وما ينجم فيها من تصرفات مجنونة حيث يعلم الجميع أن اللحظات الأخيرة من حياة ترامب في مكتبه بالبيت الأبيض لحظات وحش جريح قد يعمد إلى كل ما تتيح له هوامشه كرئيس دولة ليترك بصماته الفردية في تاريخ الولايات المتحدة والعالم كل هذا تحت أنظار الاستبلشمنت الأمريكي الراعي للتوازنات الأمريكية الكبرى.
في هذه الأسابيع الأخيرة الحرجة انتظر العالم كل شيء يترجم نزوات الرجل الفردية وروح المغامرة التي يحلو له دائما أن يرددها وقد ذكرها في آخر كلمة له ألقاها عبر حسابه الخاص عبر التويتر عندما دعا إلى الهدوء ووعد بانتقال سلس للسلطة في موعده يوم 20 من هذا الشهر. ومن بين ما انتظره المراقبون الذين انساقوا مع مغامرية ترامب أن لا ينهي ولايته إلا بعمل عسكري استعراضي ضد إيران بالرغم من أن الفترة الرئاسية لترامب لم تكن فترة تدخلات عسكرية لدى الدول بامتياز وهو ما جعل المركب الصناعي العسكري الأمريكي يمتعض منه عندما توقف عن جعل الولايات المتحدة الامريكية ومن ورائها بلدان الخليج أكبر زبائن المركب وبالمقابل نجح في افتكاك مئات الملايير من الدولارات من هذه الدول بطرق أخرى.
اختبر ترامب الجميع إذن شرقا وغربا ووصل إلى عقر دار صاحب كوريا الشمالية ورئيسها كيم جونغ أون الذي تباحث منه حول السلام ووقف برنامجها النووي والصلح مع كوريا الجنوبية على مرأى ومسمع عالم مندهش من تلك الخرجات غير المعهودة. كما اختبر إمارات الخليج بأن دفعها نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني ودفع المخزن المغربي للانسياق وراء وهم يسمى اعتراف ترامب بسيادته على الصحراء الغربية دون أن يظفر بقنصلية أمريكية في العيون أو الداخلة المحتلتين.
آخر هذه الاختبارات خطاب ألقاه يدعو فيه أنصاره لاقتحام مبنى الكابتول الذي كان يجري فيه تصويت الكونغرس الأمريكي على نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية وإقرار فوز جو بايدن بالولاية الرئاسية. كان الاختبار هذه المرة عسيرا فقد استهدف متانة المؤسسات الأمريكية ووضع التقاليد الديمقراطية الامريكية على المحك منطلقا من أن السياسة هي فن الممكن في عمل استعراضي أراد فيه التعبير عن أن الفوز انتزع أو سرق منه واعتقد من خلاله أن ضغط الشارع قد يثني نواب الكونغرس عن تزكية نتائج الانتخابات.
وبعد أن خلفت مغامرته الأخيرة خمسة قتلى من بينهم واحد من أفراد الشرطة وأدت الأحداث المأساوية إلى استقالات جماعية وسط أكبر مساعدين ورفض نائبه الانسياق وراء توجه ترامب الرافض لولاية جو بايدن وبعد أن تم التلويح بمتابعات قضائية ضده بعد أن يصوت الكونغرس على لائحة إبعاده بدافع العجز عن إدارة البلد وهو ما كان سيحرمه من حضور حفل الرسالة لجون بايدن يوم 20 من هذا الشهر حيث سيترك الأمر لنائبه مايك بانس. بعد خراب مالطا يخرج ترامب عبر حسابه على التويتر الذي علقت عضويته فيه لدواعي اتهامه بالتحريض على العنف والكراهية وإشاعة الفوضى. ولأن السياسة فن الممكن بامتياز لدى ترامب فقد انقلب في مواقفه رأسا على عقب مستنكرا “الهجمات الحاقدة ضد الكابتول” وأنه سخط كباقي الأمريكيين من العنف والفوضى التي ميزت تلك الهجمات إلى حد تدنيس مقر الديمقراطية الأمريكية وذهب إلى حد التصريح كذبا وزروا أنه أمر بانتشار فرق الحرس الوطني لحماية أعضاء الكونغرس وهو القرار الذي كان قد اتخذه نائبه أمام رفضه التام إرسال أي رسالة تهدئة أو دعوة مناصريه للكف عن تصرفاتها العدوانية الذين عبر عن حبه لهم ووصفهم بالمتميزين.
عاد ترامب إلى طريق الديمقراطية الأمريكية بعد أن فشل مسعاه العدمي “الممكن” لثني أعضاء الكونغرس عن تزكية هزيمته التي ظل مصمما على رفضها حيث ألقى اللوم على عيوب في النظام الانتخابي الأمريكي الذي دعا إلى تغييره كما دعا أنصاره إلى البقاء أوفياء له ولسياسته في الموعد الانتخابي القادم عام 2024. وقبلها ستستريح أمريكا والعالم من شطحات هذا المجنون.