
بقلم: جمال نصرالله
همس في أذني أحد المعلمين قائلا ونحن في مقهى بوسط المدينة (أنظر يا صاحبي لهذا المحل الخاص بالبيتزا والقرنطيطا وكيف هي الناس تتدافع نحوه. أنا فتحت مكتبة لم أبع في ظرف سنة كاملة كتابا واحدا حتى سارعت لغلقها نهائيا) شتان إذا بين ثقافة البطون وثقافة العقول. فهمّ الجميع اليوم هو ملء بطونهم أولا وليحدث بعدها ما يحدث. وهذا هو الواقع الصحي الصرف شئت أم أبيت وفي غالبية المدن الجزائرية إلا من رحم ربك؟ا أردت أن أشير لهذا الموضوع بعد أن شاهدت فيديو للزميل المخرج رفيق مبرك وهو يعرض إحدى مهازل المركز الثقافي بعين الخضراء، أينما تحول هذا المرفق الهام إلى وكر للتبول والتغوط عفاكم الله؟ا ثم أضاف مبرك بأن الولايات والمدن الكبرى أصبحت تتنافس على ثقافة الأطباق والأكلات الشعبية ليس إلا.
فمن عيد الزفيطي إلى معرض(المطلوع) إلى مهرجان الشخشوخة وآخر للدوبارة وغدا ربما يأتي عيد الزعرور والنبق ويليه مهرجان القرنطيطا والبقرير وهكذا دواليك؟ا
كل هذا يحدث في زمن غاب فيه الإنتاج الفكري والإبداع بمختلف ألوانه وأشكاله. وبرز للوجود الإنتاج المطبخي؟ ا فإلى سنوات خلت كان على أقل تقدير هناك حركية في المسرح والموسيقى والرسم، والمجلات الأدبية والأخرى الحائطية داخل المؤسسات التربوية أو داخل دور الشباب والمراكز الثقافية، لكن بعد أن تخلت الوزارة عن هذه المرافق الهامة حدثت الكوارث تلوى الكوارث، يحدث هذا على الرغم من وجود آلاف المبدعين والمبدعات في شتى الابتكارات والاختراعات.
السؤال أين ستذهب هذه الطاقات اليوم وأين ستُصقِل مواهبها إذ هي وجدت نفسها في عزلة تامة ومفصولة عن هذه المراكز التي كانت عبارة عن أحضان وورشات لتطوير الابداع وإيوائها بل رعايتها حتى تتفتق وتأتي بالجديد في شتى مجالات الحياة. ما الذي أصاب هذا البلد الحبيب حتى صارت الناس تتسابق فقط على ما يملا بطونها ونزواتها حتى لا نقول شهواتها؟ ا إنها حقا معضلة ما بعدها معضلة يصعب الخروج من نفقها المظلم إن لم تتبدل السياسات الفوقية وتتجدد. وإلا سوف تزداد حدة هذه المهازل ويصعب علينا جميعا الوصول إلى أنصاف الحلول على أقل تقدير. لقد صار النشاط الثقافي في قبضة وسلطة الجهات الوصية والرسمية بدليل أنه لا يظهر للوجود إلا بعد أن يقترب موعد قدوم هذا الوفد أو ذاك، فلم يعد هنالك نشاط دائم ودؤوب أو حركية حية ومستمرة لفائدة دفع المواهب والطاقات الخلاقة نحو الأمام، بل شعار الجميع هو (
الشعب يريد هكذا) وكأن بالنشاط الفكري أو العلمي والأدبي من هموم النخب فقط، والذي وجب التوجه نحوه هو العادات والتقاليد الشعوبية. إنه واقع مريد فعلا وجد من يشجعه ويرفع من قيمته إلى درجة الإعلاء من شأنه واعتباره بمثابة الحقيقة المُثلى، وخوفنا كل الخوف أن يكون ذلك مقصودا ومبرمجا ومن باب سياسة تخدير الشعوب، أما إذا كانت القواعد والجبهات الاجتماعية تريد ذلك حقا، فلا يسعنا هنا سوى أن نقول، فلندعها تدفع الثمن لأنها هي من اختارت هذه البهرجات العابرة، وويل لأمة إذ هي غفلت عن جواهر وألباب أزماتها، فاهتمت بالقشور وتركت ما ينير لها السبيل نحو نهضتها وصناعة حضارتها بكلتا يديها.