في ظل الحريق الهائل الذي يلتهم قطاع غزة والضفة الغربية ويكاد يفتك بهما، والأحداث الكبرى التي تشهدهما، والعدوان المستمر عليهما، والصمت الدولي الخبيث والتآمر المريب عليهما، وضد شعبنا كله في الوطن وفي كل مكان، حيث الحرب الهمجية الإسرائيلية على قطاع غزة، التي لم تبقِ ولم تذر، ولم تترك مكاناً لم تدمره، وبنياناً لم تسقطه بالأرض، وعمراناً لم تسوه ركاماً وتحوله أنقاضاً، وشوارع جعلتها أخاديد، وطرقاً حولتها حفراً، وشعباً حولته إلى لاجئين جدد، وباحثين بلا أملٍ عن أمنٍ لا يوجدٍ، وسلامٍ لا يتحقق، ومناطق آمنة غير موجودة، ومحمياتٍ زائفةٍ كاذبةٍ، حمايةٍ دوليةٍ مفقودةٍ.
وحيث اعتداءات المستوطنين والمتطرفين على المواطنين الفلسطينيين وممتلكاتهم في القدس والضفة الغربية، التي لا تتوقف يوماً ولا تهدأ، ويحميها الجيش وترعاها الحكومة، وتسكت عنها الشرطة وتشجعها الأجهزة الأمنية، فتتغول وتشتد، وتتطرف وتشتط في مصادرة الأراضي وبناء البؤر الاستيطانية، وحرق وتخريب البيوت والمناطق الزراعية الفلسطينية، وأنشطة جيش الاحتلال اليومية العدوانية ضد مدن ومخيمات الضفة، التي تجتاحها وتدمرها، وتخربها وتعيث فيها فساداً، وتقصفها بالصواريخ والقذائف الموجهة، وعمليات القتل المستمرة بالجملة في قطاع غزة، وبالمفرق في الضفة الغربية.
تنفذ سلطات الاحتلال الإسرائيلي بصمتٍ وهدوءٍ، ودون صخبٍ أو جلبةٍ، أوسع عملية اعتقالٍ ضد مختلف فئات شعبنا الفلسطيني، حيث بلغ عدد المعتقلين حتى نهاية شهر يونيو/حزيران اكثر من 21.000 ألف معتقل، أكثر من عشرة آلاف منهم هم من أهلنا في القدس والضفة الغربية، ومثلهم من أهل غزة المكلومين الجرحى، والمصابين المدنيين، ممن جمعهم جيش الاحتلال من المخيمات ومناطق الإيواء، ومن المدارس والمستشفيات، ومن الشوارع والطرقات، وهم قليلٌ ممن نجوا من القتل، وأفلتوا من عمليات الإعدام الميدانية، حيث قتل جيش العدو على مرأى من الأهل والأولاد مئات الشبان الفلسطينيين، في مذابح يومية ومجازر بشعة تصنف بأنها جرائم ضد الإنسانية.
وكذلك أهلنا في القدس والضفة الغربية، الذين زجت سلطات الاحتلال بآلافٍ من رجالهم وشبانهم ونسائهم في سجونها ومعتقلاتها، وصنفت اعتقالها لكثيرٍ منهم بأنها اعتقالاتٌ احترازية، وإجراءاتٌ أمنية ضرورية، خوفاً من حراكٍ شعبيٍ في الضفة الغربية، أو انتفاضةٍ جديدةٍ عنيفةٍ تتساوق مع طوفان الأقصى، وتنتصر للمقاومة في غزة، وتحاول مساندتها والتخفيف عنها، ورفع العبء عنها ولو قليلاً.
وكما لا ينتبه الكثير لما يجري في القدس والضفة الغربية، فهم لم ينتبهوا لحملة الاعتقالات الواسعة التي طالتهم ولحقت بهم، وما زالت جارية ومستمرة، بينما لا يتم الإفراج عن أحدٍ منهم، وحتى قدامى المعتقلين الذين أنهوا مدة اعتقالهم، فلا تفرج سلطات الاحتلال عنهم، أو تقوم بإعادة اعتقالهم من جديد.
تأتي حملة الاعتقالات الواسعة في ظل تولي الوزير اليميني المتطرف إيتمار بن غفير، سلطة الأمن الوطني الإسرائيلي، حيث تخضع السجون والمعتقلات لسلطاته، وتنفذ تعليماته، وتلتزم بسياساته المتطرفة والعنصرية، فإذا كان الجيش والأجهزة الأمنية ينفذان عمليات الاعتقال المحمومة، التي يصاحبها عادةً عمليات قمعٍ وضربٍ وإساءةٍ وتعذيبٍ، فإن سلطة مصلحة السجون تقوم بالدور الباقي، وتنفذ المهمة الأكثر قذارةً والأشد سوءً، والتي تعبر عن نفس بن غفير المريضة، وتعكس أفكاره العنصرية البغيظة، وتظهر فطرته السقيمة المشبعة بالتطرف والإرهاب.
يفتخر بن غفير وسلطة مصلحة السجون والأجهزة الأمنية الإسرائيلية، وقادة الاحتلال عامةً، أن حالة الأسرى الفلسطينيين في سجونهم ومعتقلاتهم باتت مزرية وبئيسة، وأن أجسادهم أضحت ناحلة ضعيفة، وأن خطواتهم أضحت ثقيلة، وأن طعامهم أصبح قليلاً ومحدوداً، ولم يعد متنوعاً وكافياً، وقد سحبت منهم كل الامتيازات السابقة، ولم يعد بين أيديهم شيء شخصي يستفيدون منه، فلا أوراق ولا أقلام، ولا كتب ولا صور، ولا أموال يشترون بها من “الكنتينة”، ولا شيء يدخل إليهم عن طريق الأهل أو المحامين، ولا زيارات يلتقون خلالها بأهلهم، ولا فرصة تجمعهم بمحاميهم.
وفاض الأمر بالأسرى والمعتقلين، خاصةً أبناء قطاع غزة،أن سلطات السجون تمارس ضدهم القهر ومختلف أساليب الإذلال والإهانة، إذ تجردهم من ثيابهم وتعريهم، وتجبرهم على الركوع والإنحناء، وطأطأة الرؤوس و”القرفصة” لساعاتٍ طويلةٍ، وأيديهم مكبلة خلف ظهورهم أو مرفوعة فوق رؤوسهم، في صيرورة عذابٍ لا تنتهي، يتخللها ضربٌ وركلٌ وشبحٌ وعزلٌ، ورشٌ بالغازات الخانقة والمدمعة، وقنابل الغاز القاتلة، وحالات إعدامٍ مقصودة، وغيرها من الإجراءات القاسية العنيفة التي باتت تتكرر يومياً، ولم تستثن من إجراءاتها التعسفية المرضى والمصابين، والأطفال والنساء وكبار السن وذوي الحاجات الخاصة.
ولما كانت عمليات الاعتقال مستمرة، والأحكام الإدارية ماضية، والإجراءات العقابية متجددة، وقرارات الإفراج معطلة، وصلاحيات الجيش في الميدان في قطاع غزة مطلقة، بحشد المواطنين واعتقالهم، وسوقهم إلى معسكراتٍ تبنى خصوصاً لهم، وتكون خالية من أبسط حقوق المعتقلين الحياتية، أو إلى مراكز الاعتقال والسجون القائمة، فقد تفاقمت أحوال الأسرى سوءً، وتضاعفت أعدادهم في الأقسام والغرف والزنازين والخيام، وحشروا بطريقةٍ تجعل نومهم مستحيلاً وحياتهم صعبة، فضلاً عن انتشار الأمراض التي لا تعالج، والحشرات التي لا تقاوم، وارتفاع درجات الحرارة التي لا تحتمل.
وهي ممارساتٌ تتم بصمتٍ وتنفذ في الخفاء، ولا يسمع بها أحدٌ أو يهتم بها، رغم أن العدو يتبجح بها ويفخر، ويعلن عنها ويزيد منها، إلا أن الفلسطينيين لا ينسون أبناءهم رغم أن الحريق الأكبر يشغلهم، والزلزال المهول يحجب عنهم هذه المعاناة، التي هي جزءٌ من العدوان، وشكل آخر لا يقل عنفاً وقسوة ودماراً عن الحرب المشتعلة نيرانها، والملتهب أوراها في شوارع غزة ومدن ومخيمات القدس والضفة.
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي