أقلام

في يومها العالمي.. وقفات مع عبقرية اللغة العربية

تقول إحدى الباحثات الغربيات بعدما تعلمت اللغة العربية (أن تعلم اللغة العربية يمنحك عقلا تفكر به وشرفا تعتز به وشجاعة تدافع بها وإيمانا بإله واحد، ولسانا واضحا بينا تتكلم به أنها لغة من السماء وبنت السماء وتهبك المروءة والإنسانية.. نثرها موسيقى. وشعرها نغم) إن هذه المقولة الموجزة لخصت كل الخصائص التي تتميز بها اللغة العربية بخلاف جميع اللغات الموجودة في العالم ولا ينكر ذلك إلا جاحدا أو متعصبا أو جاهلا بها… ولا غرابة أن نجد المتعلم لهذه اللغة أول مما يشده إليها هو مخارج أصواتها المنطوقة التي تتم وفق منظومة،مرتبة طرفاها خروج الصوت من حافة الحلق ونهايتها انطباق الشفتين عن بعضهما البعض وبين هذين النقطتين يتمدد أو ينقبض حسب حركات اللسان التي تلعب داخل الفم دور أصابع العازف على الناي.

كائن حي جميل

إنها بخلاف كل اللغات لا تغلب عليها شنشنة ولا لغلغلة ولا موهوه ولا تأتأة ولا نغنغة كما هو شائع في لغات البشر، بحيث تتكون من أصوات أحرف واضحة المخارج تتبع بعضها البعض في تناغم عجيب وباهر ولا شك في أن لغتنا أن بدت منطوقة تخرج من أعماقنا تعبر عن أفراحنا، ومسراتنا، وأحزاننا وأتراحنا بنظم من الكلام يندر أن تجد مثله في كثير من لغات العالم كله، كلام تراكيب جمله من كلمات مرصعة كأحجار الزمرد ،والياقوت مختلف شديد البريق والوهج، أو كأنها مقطوعة موسيقية كلماتها نوتات مختلفة الأنغام بعضها يشبه صفير الناي وبعضها رقصة أوتار مختلف الآلات الموسيقية ولقد انتبه العربي قديما لهذا التناغم العجيب بين حدوه ونغمه بين حدو جماله وهو في هودجه وبين صيحته وهو يمتطي صهوة فرسه فيقول عنترة بن شديد وهو في خضم حروبه والنصال تقرع النصال فيقول على صلصلة السيوف وقراعها‪:‬‬

وددت تفبيل السيوف يا بنة مالك
لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسم
‪.. ‬كما انتبه صاحب معجم العين لتدرج حروفها من الحلق إلى الشفتين ورتب أبجديتها منطلقا من العين. وكأنه يقول مثلما المرء يتحسس الموجودات عيانا بعينه فإن منطلق الأحرف نطقا يبدأ بصوت عين‪….‬‬‬
‪ ‬وإن بدت مكتوبة فأنها تخرج من شقاق اليراع أحرفا وكأنها ناطقة بمداد حبر منبسط على أسطر مستقيمة باسطة مدود رسم بعض أحرفها يميل إلى الأسفل أو الأعلى منه منتفخة أحيانا وملتوية أحيانا أخرى ومحتضنة مرات كثيرةلبعضها البعض لتكون كلمات وجملا يتطابق شكل رسمها مع منطوقها بضم مرفوعها وكسر منخفضها ،وفتح مفتوحها ،ووقف ساكنها وأحيانا تضع شدّات مشددّة على رؤوسها… فيكمل مكتوبنا بالتطابق مع منطوقنا تطابقا تاما ويتكامل المبنى مع المعنى تكاملا تاما وبذلك نعبر عن أفكارنا مرة وعن عواطفنا مرة أخرى في تداخل عجيب وباهر دون خلل أو اضطراب.‬

وتعتمد لغتنا أساليب مجازية في التعبير أصنافا وأنواعا فتأتي التورية عندما لا نريد الإفصاح احتراما وتأدبا والكناية عندما نريد عدم الفضيحة والتلميح عندما نريد الإيجاز والتشبيه عندما نريد الزيادة في المعنى ونكثر من الطباق بالأضداد عندما نريد الشرح للإفهام لأن الأمور تعرف بأضدادها وينتهج أكثر السجع وكأنه نغم متتابع لشد الأسماع والأذواق حتى لا يتسرب الملل إلى السامع أو القارئ.
‪ ‬‬
قدرة التعبير

يقول جان جاك روسو في كتابه أصل اللغات: (لابد أن اللغة الأولى كانت مجازية لقد كانت الأسباب الأولى التي دفعت الإنسان إلى التكلم هي العواطف فلقد كانت اللغة المجازية هي أول ما تولد أما الدلالة على الحقيقة فهي آخر ما اهتدى إليه) وكأن الناس لم يتكلموا في البداية إلا شعرا ولم يخطر لهم أن يفكروا إلا بعد زمن طويل ولذلك كانت العربية روحها الحقيقية التي استمرت بها في شعرها ثم في القرآن الكريم الذي بسط معانيه في تراكيب لغوية لم تألف قط مثلها إلى درجة أن معجزة صدقية القرآن الكريم في لغته .

إن لغتنا العربية الوحيدة التي تملك قدرة التعبير على القواعد اللغوية بالنظوم الشعرية كـ (الفية مالك) وعن القواعد الفقهية والايمانية كـ (منظومة بن عاشر) والأفكار الفلسفية گـ (أرجوزة ابن سبنا) وعن الوصفات الطبية والادوية كـ (اراجيز الطب والتداوي بالأعشاب)

إن اللغة العربية وصلت إلى درجة أنها تكتب ما يقال كما لو إنه سجل تسجيلا وخاصة في طريقة كتابتها للقرآن الكريم بحيث إن القارئ له وكأنه يسمع الحروف من خلال شكل رسمها وتشكيلها ومدودها وهي تتكلم أن الكاتب باللغة العربية في أي فن وكأنه قارئ يتكلم بخلاف كل اللغات الأعجمية أو غيرها‪…‬‬
إن العربية لغة رنانة متناغمة تتكلم وتكتب انغاما كما تتكلم وتكتب اصواتا صحيح كان العربي يكتب بلا حركات ولا نقاط ولكن عندما تعجمت الألسن وراح اقوام اخرى يتحدونها كان لا بد من وضعها حتى تحافظ على منطوقها ونغمها ورنتها فتكامل بذلك النطق مع الرسم‪…‬‬

لغة غنية

إنها لغة غنية بالمفردات والمترادفات والكلمات إلى درجة أحصى متخصصوها ما يقارب اثني عشر 12 مليون كلمة وكأنها اللغة الوحيدة التي تستطيع أن تستوعب كل حاجيات الإنسان وعواطفه المختلفة ومشاعره المتنوعة وانفعالاته وأفعاله المتفاوتة الدرجات والتأثيرات وكما عبرت في مراحلها الذهبية عن مختلف العلوم من رياضيات وحكمة وطب وعلم فلك وجغرافيا وفيزياء ومنطق فأنها بمقدورها أن تعبر اليوم أيضا على كل علوم العصر من تقنية وتكنولوجيا ومعلوماتية وفلسفة ذلك أنها تتمتع بقابلية تعريب أي لفظ مهما كان أعجميا أو غريبا وقدرة على نحت من الكلمة الواحدة ذات الجذر الثلاثي أو رباعي كلمات مختلفة منها ما هو اسم ومنها ما هو فعل ومنها ما هو صفة ومنها ما ينوب عنهما في سياقات جملية معينة. وأيضا تملك إمكانية التعبير على كل الأبعاد الزمنية من ماضي وحاضر ومستقبل‪…‬‬

ورغم تطور الأزمان وتغير الأحوال ورغم هجر الأهل وهجوم الأعداء من حاقدين وشعوبيين فأنها ما ماتت وإن تراخت وما جمدت وإن ثبتت وما نكصت وإن نكص أهلها لتصديقهم بسذاجة أنها في التعبير عن المخترعات والمكتشفات قد عجزت وإن كان هم من تخلفوا وعجزوا وللكسل والوهن استكانو، فإنها قاومت واستمرت ذلك أنها اللغة التي خاطب خالق الألوان والأكوان والألسن كل العالمين وبها أفصح رسوله محمد عليه الصلاة والسلام عن مراد الله بمختلف المقاصد والمضامين فكيف لها أن تموت وهي لغة رب العالمين وبها يقول (وأنزلناه قرآنا عربيا مبينا)
يقول الشاعر حافظ إبراهيم بلسان اللغة العربية

‪ (‬رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي‬
‪ ‬ونادبت قومي فاحتسبت حياتي‬
رموني بعقم في الشباب وليتني‪ ‬‬
‪ ‬عقمت فلن أجزع لقول عداتي‪)‬‬‬
ثم يقول مبينا عظمة اللغة العربية
‪ “‬وسعت كتاب الله لفظا وغاية” فكيف اليوم لا أعرف أسماء المخترعات ‪”‬‬‬
‪ “‬أنا البحر في أحشائه الدر كامن‪” “‬‬‬
‪ “‬فهلا سالت الغواص عن صدفاتي‪”‬‬‬

ادعاءات باطلة

إن العجز اللغوي الذي يدعيه كثير من الفرانكفونيين والمتغربين عن عجز العربية على أن تكون لغة علم ما هو إلا ذريعة لبسط استمرار سيطرتهم ونفوذهم على مختلف المنابر فلقد بينت كثير من التجارب في الشرق والغرب قدرة اللغة العربية على صياغة “الجملة الفلسفية والعلمية والرياضية” وبدقة تامة ومن المحال أن تحقق أي أمة نهضتها الحضارية وسيادتها دون لسانها القومي الموحد فتجارب كثير من الأمم المعتزة بلغتها كانت ناجحة كاليابان والصين. واليهود وغيرهم
يقول الرافعي (ومن يتبع تراكيب هذه اللغة ويتدبر أثر الأسباب اللسانية فبها لا يجد كلاما يعدل كلام العرب في العذوبة والبيان وفي الاختصار ونهج التأليف بين حروف الكلمة الواحدة حتى أنهم قد يراعون مواضع الحروف من معانيها فيجعلون الحرف الأضعف فيها والألين والأخفى والأسهل والأهمس لما هو أدنى وأقل وأخفى عملا وصوتا ويجعلون الحرف الأقوى والأشد والأظهر والجهر لما هو أقوى عملا وأعظم صيتا)
أي والحق: وأنه لعجيب أمر هذه اللغة في كل ما فيها من تراكيب وصبغ وأوصاف وتعابير من أدق الأدق إلى أكبر الأكبر. ولا غرو أن الله سبحانه -عز وجل- جعلها لغة كتابه وخطابه لكل البشر وسبيل عبادته والتقرب إليه
قال أحمد شوقي
إن الذي ملأ اللغات محاسنا‪]‬‬
جعل الجمال وسره في الضاد‪].‬‬
وعن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال: (تَعَلَّمُوا الْعَرَبِيَّةَ فَإِنَّهَا تُثَبِّتُ الْعَقْلَ، وَتَزِيدُ فِي الْمُرُوءَةِ)
وقال الإمام الشافعي (اللسان الذي اختاره الله -عز وجل- لسان العرب فأنزل به كتابه العزيز، وجعله لسان خاتم أنبيائه محمد، صلى الله عليه وسلم، ولهذا نقول: ينبغي لكل أحد يقدر على تعلم العربية أن يتعلمها لأنها اللسان الأولى) ، والأعجب والأغرب أنه عن أبي الريحان البيروني الفارسي الأصل أنه قال: (والله لأَنْ أُهْجى بالعربية، أحبُّ إليَّ من أن أُمدح بالفارسية)…. ومجمل القول: إن اللغة العربية لغة عالمية خالدة إلى يوم الدين ذلك أنها لسان الإنسان العربي والمسلم وخاصيته ولا يمكن أن نبدع حضارة إنسانية تحت كنف الهداية والأخلاق والشرف والعقل إلا بها وعلى ذلك يجب أن تعاد لها مكانتها والعمل على ترقيتها وتطويرها حتى تكون لغة المعرفة والعلم كما هي لغة الآداب والعبادة‪ ‬.‬

سراي مسعود

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى