
بقلم: صالح عوض
بعضهم اختزلها للخمس، وبعضهم يريد أن يودعها لدى آخرين.. بعدت عليهم الشقة فأرادوا التخلص منها.. لم تسلم الرواية الفلسطينية عبر عشرات السنين من التشويه ومحاولات الاستبدال.. وأصبحت محاولة تلاوتها كما هي دربا من المثالية لدى البعض وتطرفا لدى البعض الأخر.. تصلح للشعر والأدب والخطب الدينية والإيديولوجية ولكن منطق السياسة والساسة لا يطيق حملها.. ف”الشعب الفلسطيني سيقضي تحت أقدام الفيلة، الكبار يموتون، والصغار ينسون” كما قال وزير خارجية أمريكا جون دالاس..عمليات ضخمة مارسها العدو اللدود والصديق الضعيف والقادة المهازيل.. لتستقر صورة الفلسطيني القابع في خيمته يتلقف المطر بكفيه ويتقي البرد بما تجود به وكالة غوث اللاجئين من ملابس ممزقة ورثة، ويدرأ الحر بما لا يدرأ، متشبثا بمخيمات اللجوء يختزن فيها مشاعره ومفاتيح بيته.. ليتم التعامل معها على أنها قضية إنسانية معيشية وليست قضية شعب يريد استرداد حقه في أرضه ككلمة سر وحدة الأمة ونهضتها.
ولكن لأنها فلسطين ظلت بقوة تفرض منطقها وبعد قرن من صراع الوجود على كل قضايا المنطقة تسأل الجميع: لماذا يريدون حرمانكم من ماء النيل؟ لماذا يفتتون بلدانكم ويشتتون مجتمعاتكم ويثيرون النعرات الانفصالية بينكم؟ ولماذا يمنعونكم من الصناعة والنهضة؟ لماذا يمنعون توحدكم وقوتكم؟ ويدمرون عواصمكم ومصانعكم وتجارتكم؟ ثم بعد أن سلم البعض بالتنازل عنها او عن جزء منها ماذا كان جزاؤه؟!!
فلسطين تقرر بوضوح ان كل من استبدل الرواية الفلسطينية فلسطين الواحدة روح الأمة وسر عروجها ليس له الا دروب الذل والعار والتخلف والتمزق والارتماء عند أحذية الأعداء..
المقاومة الفلسطينية:
في مرحلة زمنية واحدة كان الهجوم الغربي على فلسطين بثلاثة أضلاع: اتفاق فرنسي بريطاني “سايكس بيكو” لتقسيم بلاد الشام والمشرق العربي، ووعد بلفور البريطاني المدعوم أمريكيا وفرنسيا وسوفيتيا لليهود بوطن قومي على أرض فلسطين، والضلع الثالث الاحتلال البريطاني لفلسطين لانجاز الهدفين الأولين.. من خلال الأرقام ووقائع تاريخية عبارة عن مفاصل مراحل متتالية نشير لمسيرة الكفاح الفلسطيني المتواصلة منذ بداية الاحتلال البريطاني لفلسطين سنة 1917 فلقد انطلقت الانتفاضات والثورات الفلسطينية ضد التواجد الاحتلال الانجليزي وفي مراحل متتالية1918* 1919 *1920* 1921* 1929* وقدم فيها الفلسطينيون شهداء أعزاء.. ثم انطلقت ثورة الشيخ عز الدين القسام 1935 واستمرت لمدة عامين كانت عبارة عن شرارة الثورة الكبرى 1936-1939 بقيادة الحاج امين الحسيني مفتى فلسطين وبإدارة عبدالقادر الحسيني لجناحها العسكري “الجهاد المقدس”.. وقد سقط فيها 26 ألف شهيد وجريح.. و اقترفت العصابات الصهيونية خلال النكبة 1948 ﺃﻜﺜﺭ ﻤﻥ 70 ﻤﺫﺒﺤﺔ ﻭﻤﺠﺯﺭﺓ ﺒﺤﻕ ﺍﻟﻔﻠﺴﻁﻴﻨﻴﻴﻥ، وتدمير مئات القرى وحرقها واستشهد ﻤﺎ ﻴﺯﻴﺩ ﻋﻥ 25 ﺃﻟﻑ ﻓﻠﺴﻁﻴﻨﻲ وتم ترحيل 800 ألف… ومنذ النكبة 1948 استشهد 100 ألف فلسطيني.. فيما تم تسجيل مليون حالة اعتقال منذ عام 1967.
بعد النكبة الثانية سنة 1967 كسر الفلسطينيون الصمت مرة أخرى وبعد ان كاد النظام العربي أن يخنق فلسطين وإذا بالصورة تشرق من جديد.. انها صورة الفلسطيني الملثم بكوفية مرقطة وبين ذراعيه كلاشنكوف يجتاز واديا أو يقفز عن حفرة يخترق الحدود والأسلاك الشائكة والملغمة أو يتربص خلف ساتر أو يركب قاربا يمخر البحر للاشتباك مع العدو..و الفلسطيني الحائز على اعلي المستويات العلمية والأدبية في أرقى الجامعات والمهرجانات في العالم.. أحلي الأشعار والأناشيد والأفكار فلم يكن درويش وادوارد سعيد وغسان كنفاني وناجي العلي وابو عرب إلا عناوين لجيل من الشعراء والمفكرين والأدباء رسموا بدم قلوبهم خارطة الوطن الجميل في وعي الشعب والأمة والعالم.. وكانت المظاهرات والمواجهات بكل الوسائل بالحجر والأربي جي وفي قلاع الصمود والمقاومة في الكرامة وقلعة الشقيف وبيروت وخلدة ونهاريا والخليل وجنين وغزة ..قاتل الفلسطينيون من شرق نهر الأردن ومن جنوب لبنان ومن الحدود السورية قبل ان يجمع الإقليم وقوى الاستعمار العالمي على طرد مقاومتهم من حدود فلسطين.. وقاتل الفلسطينيون في داخل فلسطين بلا معين يذكر بعمليات عسكرية فردية وجماعية وصولا الى الحرب على غزة حيث تركها النظام العربي في ثلاثة حروب تقاتل وحدها بل توجه بعضهم لمحاصرتها.. إنها رحلة قرن من الزمان والفلسطيني يتصدى لعملية شطبه من الخريطة..
أجل.. لقد حافظ الفلسطينيون على وهج قضيتهم، ودخلوا حروبا غير متكافئة العدد والعدة.. وشارك العرب وفي أسوأ ظروفهم بالدفاع عن فلسطين ولكن في ظل عمل لا يستند إلى التخطيط والإعداد والقرار الواضح الجازم فيما الشعوب كانت ولازالت تضم فلسطين في قلبها لا تنتظر كثيرا من الشروحات فالأمر واضح لديها مرتبط بعقيدتها وتاريخها.. وفرزت القضية الشعوب والأمم فوجدنا أوروبيا مسيحيا او لادينيا ويهوديا غربيا أو شرقيا يندد بعنصرية إسرائيل وجريمتها.. هذا ويواصل القانون الدولي ملاحقة قادة الكيان الصهيوني ويضع أسماءهم في المطارات طلبا لسوقهم لمحاكمات دولية.. و دوما كان الدم الفلسطيني يغلب السيف الصهيوني في معركة الضمير والإنسانية.. ولكن تبرز الان عناصر خلل في المسيرة ذاتية وموضوعية تهدد القضية بمرحلة عسيرة.
المقاومة المعاصرة:
ولدت منظمة التحرير الفلسطينية في البداية كإنتاج عربي، ليتخلص النظام العربي من ثقل القضية الفلسطينية وتبعاتها من جهة ولضبط إيقاع تحرك الفلسطينيين من جهة أخرى.. إلا أن النكبة الكبيرة لحقت بالعرب في 1967 فسمح النظام العربي مرغما على تحرك المقاومة الفلسطينية متحررة من سطوته لفترة معينة ريثما يستعيد التقاط أنفاسه بعد ان كانت فتح قد أطلقت طلقتها الأولى وقامت بتنظيم خلابا وتفعيلها في أكثر من مكان..
خاضت المنظمة وفتح عمودها الفقري معركة الوجود عشرات السنين واستطاعت أن تثبت على وجود الكيانية السياسية الفلسطينية من خلال معارك ضد الكيان الصهيوني وضد بعض النظام الرسمي العربي وضد حركات طائفية وأحزاب انعزالية وتيارات مرتبطة مع هذا النظام او ذاك..
لم يستسلم الأعداء لهذا الواقع فانشغلوا بكل أشكال المؤامرات للزج بالمنظمة في معارك جانبية بالإغراء حينا والأوهام والسراب أحيانا.. فكانت تفاهمات النظام العربي والولايات المتحدة الأمريكية بأن إنهاء منظمة التحرير هو ثمن الاستمرار في الحكم والاستقرار.. تورط النظام السوري والليبي بعد حرب 1982 في إخراج المقاومة الفلسطينية من لبنان سنة 1983في حرب استهدفت اخر مواقع المقاومة في طرابلس لبنان، وكانت هذه الضربة العنيفة والإستراتيجية كفيلة بإنهاء المنظمة وقد أبعدوها عن حدود الوطن.
انخرط جهاز أبوجهاد “القطاع الغربي” لإعادة تنظيم صفوف فتح بالداخل وبعث بكل قوة في إحياء الخلايا وبعث العمل العسكري والتنظيمي الى أقصى حد واستطاع من خلال لجنة الدعم والصمود إنعاش الاقتصاد الفلسطيني وبناء مؤسسات إعلامية وثقافية واجتماعية تعزز روح الصمود في الضفة الغربية وقطاع غزة وتقضي على محاولات صنع تيارات انفصالية في الشعب الفلسطيني.
جاءت الانتفاضة نتيجة عدة عوامل كان أهمها بلا شك جاهزية تنظيم فتح للانطلاق بانتفاضة وكان شعار أبوجهاد في ذلك “لا صوت يعلو فوق صوت الانتفاضة” وانبعث ابو إياد معه يعزز هذا الموقف بأنه “ينبغي عدم إلقاء السلاح ولا بآي سبب أثناء المفاوضات”..وأيضا بإسهامات قوية سباقة من حركة الجهاد الإسلامي ولحقت حماس فيما بعد.. لم يكن شرا كله الذي فعلوه بإخراج المنظمة من لبنان بل كان في الشر خيرا لها عندما تعمقت في الوطن وتصاعد فعل الثورة بالداخل.
المغامرة الخطرة:
تم الالتفاف الأمريكي على المنظمة منذ منتصف الثمانينات لينتزعوا استعدادات للاعتراف بدولة إسرائيل ثم جاءت اتفاقية أوسلو حيث يتم حسب مخططهم نقل كل صلاحيات منظمة التحرير الى سلطة تولد تحت شروط معينة على وهم تحقيق الاستقلال.. الا ان ياسر عرفات حاول منذ اللحظة الأولى فرض التفسير الفلسطيني للاتفاقية وبنى مؤسسات للشعب تحميه وتؤطره وتفرض واقعا سياسيا رغم الاحتلال ولم يستسلم لمنطق المستعمرين فواجههم في حادثة جبل ابو غنيم وفي انتفاضة الأقصى وكانت السنوات العشرة الاولى1994 الى 2004 مرحلة مواجهات واشتباك مسلح ولقد قدمت فتح فيها خيرة قادتها شهداء وعلى رأسهم ياسر عرفات.
كانت فترة التسويفات والاشتراطات تعمل على تفريغ المشروع الوطني الى مؤسسات تحقق استقرار وامن الدولة العبرية وكما قال أبومازن: أصبح الاحتلال الإسرائيلي هو الأقل تكلفة من اي احتلال عبر التاريخ، وكما قال أيضا: ان إسرائيل تريد مفاوضات ومفاوضات و مفاوضات فقط.. وأكد أبومازن انه: قد تم الضحك علينا.
المهم أن أوسلو حاولت تفريغ المنظمة وتكبير بشكل سرطاني السلطة على حساب المنظمة وأصبحت السلطة هي الكيان السياسي وفي ظل أوسلو تم انشقاق حماس عن الكيان السياسي الجديد وهي خطوة خطيرة تم الاعداد لها صهيونيا بإتقان لفتيت التمثيل السياسي الفلسطيني والكيانية السياسية الفلسطينية.
هنا ظهر الخللان الكبيران في المسيرة الفلسطينية “أوسلو والانقسام”، وهنا بالضبط انزلق الوضع الفلسطيني بجملته نحو المرحلة الحرجة.. ففي حين انطلق العمل السياسي لمنظمة التحرير بقبول قيام سلطة فلسطينية على أي بقعة أرض فلسطينية في منتصف السبعينات كتكتيك تحول الى إستراتيجية، وبعد ان كان الخطاب الفلسطيني حول التسوية مناورة لتحطيم الحصار المفروض على قضية الشعب الفلسطيني أصبح عقيدة ونهجا وممارسة.. فلم يقف السياسي الفلسطيني عند حدود التسوية المطروحة دوليا قرار التقسيم والتي بموجبها قبلت الأمم المتحدة إسرائيل كدولة بناء على قرار التقسيم بل ذهب السياسي الفلسطيني إلى البناء على قواعد حدود 1967.. وخلال فترة أوسلو تم تفريغ المشروع الوطني من عناصره الأساسية.. وسائله وادواته واهدافه.
في الموازاة انتقلت حركة المقاومة في غزة من محاربة الفساد الى الانفصال وهو المفسدة الأعظم.. ومن نقد الهدنة واتفاقية أوسلو إلى هدنة موثقة وتواصل عبر وسيط قطري أو مصري والانشغال بتفصيلات تسير في حالة تطبيع مع واقع تكريس الانفصال بين الضفة وغزة.
كان مفهوما في الإطار الوطني النضالي ان يتنافس المتنافسون على طريقة الاستلام والتسليم على الأرض الفلسطينية وليس عن طريق الانشقاق والبعثرة والتمزيق وتدمير الكيان السياسي الفلسطيني.
شيطنة الفلسطيني:
تجد القيادة العنصرية الصهيونية فرصتها الثمينة هذه الأيام رغم ان المرحلة ليست ثمينة بالنسبة لها فتفح جبهة جديدة من صياغة المعلومة والزج بها في أوساط الشعوب وإفشاء مناخ نفسي القصد منه تشويه الفلسطيني وإسقاط قيمته الأخلاقية والنضالية لتجريده من أي تعاطف عربي وإسلامي وإنساني.. والتهيئة للتطبيع التام مع وجود الكيان الاستيطاني.
فأصبح الفلسطينيون حسب إذاعات إسرائيل وصحفها اما عملاء لها تمكنت من تجنيدهم والدفع بهم لاختراق أعلي مستويات القيادات الفلسطينية و أدق الدوائر حساسية فيها وان يكونوا فاسدين أخلاقيا يسرقون أموال الشعب والوقف ولا يرتدعون عن منكر أبدا أو أن يكونوا أجراء للأمن الإسرائيلي من خلال تنسيقات أمنية على الأرض لملاحقة المسلحين الفلسطينيين في القرى والمخيمات.. حيث يتكرر القول الإسرائيلي انه لولا التنسيق الأمني لما حققنا المطلوب في ملاحقة المقاتلين الفلسطينيين.. إنها من ذلك تحاول نشر وتعميم على ان هذه هي حالة عامة للشعب الفلسطيني وحركاته المقاومة.. تدرك القيادة الصهيونية قبل غيرها ان هذا محض افتراء وكذب فاضح.. وان الفساد والانحدار إنما يضرب بعنف الكيان الصهيوني حيث يقاد الوزراء ورؤساء الوزراء الى المحاكم بتهم التحرش والسرقة والرشوة.. ويسير في الخطاب الصهيوني إعلاميون عرب وشخصيات سياسية وبعض الفنانين من خلال اعمال تحاول شيطنة الفلسطينيين الى درجة لم تكن في الحسبان يوما ما تصل بان يوضع هشتاق “فلسطين ليست قضيتي”. ليس مستغربا ما تروجه وسائل الإعلام الصهيوني ولكن جماعتنا في الخليج العربي
من يستطيع ان يدلنا على شعب تعرض لمثل ما تعرض له الشعب الفلسطيني وبقي كما هو الآن رغم أن نخبته السياسية تواجه مأزقا في عدم قدرتها ان تكون بمستواه ا وان تعبر عن طموحه او أن تتحدث بلغته ..
التحدي:
نواجه الان مشروع الضم لاراض جديدة في الضفة والغور بعد ان تم الاعلان عن ضم القدس وتقف السلطة عاجزة عن فعل شيء الا التهديد بالانسحاب من الاتفاقيات ومتى كانت الاتفاقيات تحمي الضعيف وتصون كرامته؟ وتسير اوضاع غزة في خارج سياق القضية الفلسطينية حيث تحول المسألة الى ازمة معيشية وحصار متواصل وانفصال مكرس.
ان الشعب الفلسطيني يدفع ثمنا باهضا لعبث العملية السياسية ولمأزق الانقسام.. فماذا تبقى للسلطة فعله وماذا تستطيع المقاومة في غزة فعله في مواجهة العدوان الواسع الذي تقوم به الحكومة الصهيونية.. لعلها نهاية المأساة وبداية فعل يبدعه الشعب العظيم بدعم من طلائع أمته العربية الإسلامية.. والله غالب على أمره.