أقلام

قراءة في مذكرات الرائد عمار جرمان “الحقيقة” الجزء الثاني

بقلم فرحاني طارق عزيز 

نواصل في هذا العدد من جريدة الوسط كشف اللثام على أهم الأحداث التي تطرق إليها المجاهد عمار جرمان في مذكراته الشخصية، والتي حاول من خلال نقل أهم معايشاته وذكرياته وأهم الاحداث التي مرت بها منطقة الشريعة قبل اندلاع الثورة التحريرية، باعتبار أنها المنطقة التي نشـأ وترعرع فيها خلال تلك الحقبة. 

  • انخراط عمار جرمان في العمل النضالي 

عرج المجاهد عمار جرمان عن بدايات انخراطه في العمل النضالي، وتحدث عن المعاملة التي كان يتلقها أبناء الشعب الجزائري من طرف جنود الجيش الاستعماري الفرنسي، والذين كانوا قساة ومتغطرسين، وتظهر هذه المعاملة بصورة جلية أثناء المباريات الرياضة التي كانت تجرى بين فرق جزائرية، وفرق عسكرية فرنسية خلال الفترة ما بين 1954-1955م، هذه المعاملة ولدت شعورا في نفس عمار جرمان الذي رفضها، وبلورت في الوقت ذاته مشاعر الوطنية وحب الوطن، بعد أن احتك مباشرة بجنود الجيش الاستعماري الفرنسي الذين كانوا يتوافدون على مطعم فتحه شقيقه وإبن خالته وكان مقصدا أيضا لسكان الجهة، وتحول المطعم بعد ذلك إلى نقطة لقاء يقصدها المناضلين ونشر الوعي الوطني بين المواطنين وجمع الاشتراكات. 

وفي أثناء ذلك قامت قيادة الجيش الاستعماري الفرنسي باعتماد مجموعة من الإجراءات عسكرية لأجل محاصرة الثورة التحريرية ومنعها من الانتشار في منطقة تبسة، حيث قامت بجلب فيلق من المشاة وتمركز بالشريعة، وكان محمد زرقيني قائد لهذا الفيلق المكلف بقمع الثورة. 

 

  • استغلال المقابلات الرياضية لخدمة الثورة الجزائرية 

بعد تفجير الثورة الجزائرية تغيرت المعطيات الموجودة في الميدان، ولذلك فكر عمار جرمان في وسيلة تسمح له بدعم الثورة ومجاهدي جيش التحرير الوطني، ولهذا الغرض استغل المقابلات الرياضية التي كانت تقام في المنطقة لأجل أن يتعرف أكثر على الجنود العاملين في الجيش الاستعماري الفرنسي، خاصة الجزائريين منهم وعلى رأسهم العربي سايغي الذي ينحدر من وهران، ومحمد حُرّي من الشلف الذي كان يمارس رياضة الملاكمة، هذه المقابلات وظفها لخدمة الثورة الجزائرية، فاحتكاكه المباشر مع الجنود الفرنسين سمح له بإقامة علاقات اكتشف على إثرها نقاط الضعف الموجودة عند بعض الجنود، خاصة المدمنين منهم على تناول مادة “الكيف” المخدرة، حيث كان يقوم بتزويدهم بهذه المادة ويقاضيهم على بعض الذخيرة الحربية والقنابل والمعلومات كمقابل لهذه المادة التي يتناولها الجنود. 

وحتى يتمكن من الحصول على مادة الكيف تنقل إلى مدينة سوق أهراس سنة 1955م، في شاحنة من نوع TP 45 يقودها العيد طالب، حتى وصلوا إلى ساحة المدينة التي كانت تسمى “بلاصة السردوك”، أين قاموا بشراء عدة قناطير من السميد، واشترى عمار جرمان عدة علب من الكيف، ورتبها بتجزئتها إلى علب أخرى أصغر، وقام بتعبئتها وإخفائها داخل أكياس السميد بعناية تامة، ثم رجعوا بعد ذلك إلى الشريعة، وأثناء مرورهم في مرتفع فج القعقاع اعترضهم حاجز عسكري أقامه الجيش الاستعماري الفرنسي، حيث قام جنود الحاجز بتفتيش السلعة المحملة في الشاحنة، لكنهم لم يعثروا على مادة الكيف، وسمحوا للشاحنة بالمرور حيث تجاوزت الحاجز وعادت إلى الشريعة، حيث قام عمار جرمان بتسليم البضاعة للجنود الذين سلموا له ذخيرة حية وقنابل يدوية كمقابل لها.

من النجاحات التي حققها جيش التحرير الوطني خلال هذه الفترة، النجاح في تهريب العديد من الجنود الجزائريين الذين كانوا في صفوف وحدات الجيش الاستعماري الفرنسي، وكان من بينهم محمد العسكري، الذي أبلاء بلاء حسناء بعد التحاقه بصفوف جيش التحرير الوطني المنتشر بمنطقة تبسة. 

ونشط عمار جرمان في مجل تزويد المجاهدين بالذخيرة الحية، حيث قام بتسليم كمية كبيرة منها إلى الطاهر بن علي المنحدر من عشيرة أولاد جلال والمقيم ببئر مقدم، وكذلك إلى براهيم ولد عيدة من عشيرة أولاد البهلول الزرامة والقاطن بدوار المرجة غرب الشريعة، ودفع ببعض رفاقه من بينهم حمّة ذيب والهادي صغير لأجل نقل اللباس والذخيرة والأدوية إلى المجاهدين. 

الانتقال إلى بسكرة 

في أواخر سنة 1954م قدم إبراهيم ولد عيدة وأخبر والدة عمار جرمان بأن السلطات الاستعمارية الفرنسية ألقت القبض على أحدهم، وغادر بعد ذلك، وبعد عودة عمار جرمان إلى البيت أخبرته والدته بالخبر فشعر بالقلق، وساورته بعض الشكوك خوفا من أن يُدلي “ولد عيدة” بمعلومات عن التنظيم، وهو تحت التعذيب والاستنطاق، فافتعل أمر مرض والدته، وتقدم إلى الإدارة الاستعمارية بطلب رخصة للتنقل لأجل علاج والدته في بسكرة، وبعد جهود مضنية وضمانات تحصل على الرخصة وقبل مغادرته للشريعة قام بإخفاء بعض الأسلحة والذخيرة قرب مدرسة الحياة ثم انتقل إلى بسكرة في شهر جانفي 1955م، أين أقام ببيت أخيه، واشتغل كنادل في مقهى الجنين لصاحبه لوام الصادق، ثم اشتغل كغاسل للكؤوس في مقهى يسمى مقهى الصحراء يديروه فرنسيون. 

وفي مدينة بسكرة تعرض عمار جرمان للاعتقال من طرف الجيش الاستعماري الفرنسي، بعد مداهمة وقعت على الساعة الثانية صباحا شملت المنزل الذي يبيت فيه والواقع في زقاق “مصطفى بن رمضان، حيث نقل إلى “جنينة بن قانة”، وبقي بها إلى غاية الساعة الثالثة مساء وهو معرض لأشعة الشمس والاستنطاق، ليطلق سراحه بعد ذلك. 

العودة إلى الشريعة 

خلال إقامته ببسكرة أرسل محمد التونسي إلى عمار جرمان رسالة مشفرة، وأخبره من خلالها بأن عليه العودة إلى الشريعة لمواصلة النشاط بها، وتنفيذا لما ورد في الرسالة عاد عمار جرمان إلى الشريعة مباشرة، حيث قرّر استخراج الأسلحة والذخيرة التي أخفاها سابقا قرب مدرسة الحياة، لكنه تفاجئ باستحداث السلطات الاستعمارية الفرنسية لنقطة مراقبة بجوار مسكن الشيخ امحمد الشبوكي بمدرسة الحياة وهي مقابلة للمكان الذي خزن فيه الأسلحة، فعمل استخراجها دون لفت انبياه الجنود الفرنسيين المكلفين بالمراقبة والحراسة، حيث افتعل عدة أسباب ودخل إلى المزبلة وتمكن من استخراج العتاد دون أن ينتبه له الحرّاس. 

الالتحاق بصفوف جيش التحرير الوطني 

بعد نجاحه في استخراج الأسلحة والذخيرة قرّر الالتحاق بصفوف جيش التحرير الوطني، فاتصل ببعض أصدقائه وطلب منهم مساعدته في تحقيق رغبته، لكنهم قدموا له أعذارا مختلفة ولم يساعدوه في ذلك، ذلك قرّر أن يتصل بقريبه ناصري العيد، الذي استجاب لطلبه دون تردّد، وطلب منه توضيحات وإرشادات. 

فامتطيا دراجتين وتوجها إلى مضارب قبيلة أولاد سعيدان بدوار عبلة، قاصدين منزل صديقهم السيد الزين سلطاني، وهناك تجندا على يدي المجاهد عبد المجيد بلغيث، وانضما إلى صفوف جيش التحرير الوطني بمنطقة تبسة. 

القائد الزين عباد يشرف على العمل الثوري بناحية الشريعة 

يتحدث المجاهد جرمان عمار عن النشاط الثوري الذي قام به رفاقه المناضلين، حيث كانوا على اتصالات مستمرة مع المجاهدين، الذين كانوا يجلبون المواشي والأبقار لهم من “الفيرمات” التابعة للكولون، ثم يسلمونها للسيد الزين سلطان الذي يضعها بداخل مركزه ثم تتولى مجموعة مكونة من ثلاثة جزارين وهم: جرمان بشير بن بولعراس، ناصري عمار بن الطيب، جرمان محمد امزيان بن بولعراس، عملية بيع هذه المواشي والأبقار للجنود الفرنسيين، هذه العملية سمح بتمويل جيش التحرير الوطني.

ولم ينحصر عمل أفراد هذه الخلية في بيع المواشي فقط بل كانوا مكلفين بالتجنيد والتوعية ونشر المناشير الصادرة عن جيش التحرير الوطني وجمع وإيصال المعلومات حول التحركات الفرنسية، وكان القائد الزين بن إبراهيم عباد مشرفا على عمل هذه الخلية التي تنشط بناحية الشريعة. 

فدائيو الشريعة ينجحون في تصفية أحد مساعدي السفاح كونور 

في إطار محاولة التهدئة التي كانت تسعى إليها السلطات الاستعمارية الفرنسية بالمنطقة بعد تفجير الثورة التحريرية، لذلك قامت بإنشاء عدد من مراكز الشؤون الأهلية المتخصصة، وكلفت ضباط متمرسين في مجال التعامل مع السكان بهدف السيطرة عليهم ومحاولة فصلهم عن الثورة وجيش التحرير الوطني، وكان “النقيب” كونور أحد هؤلاء الضابط الذين كلفوا بتنفيذ هذه المهام، وعُين في المركز الإداري المتخصص بالشريعة (SAS. Chéria) وعُرف في الأوساط الشعبية بغطرسته وقسوته وقد كانت له يد طويلة في المجازر التي لحقت بسكان المنطقة إبان الثورة التحريرية، حيث تم اكتشاف مقبرة جماعية بجانب مقر المركز الذي كان يشرف عليه هذا السفاح سنة 2001م. 

وأمام السياسة التي اتبعتها السلطات الاستعمارية الفرنسية بالمنطقة، تكونت خلايا للفدائيين كانت مكلفة باستهداف المتعاونين مع الاستعمار، وتنفيذ عمليات فدائية تثير أصداء في الأوساط الشعبية للتأكيد على قوة الثورة الجزائرية، والحزم الذي يعامل به الخونة والمثبطين ورافضي الثورة، حيث تحول اسطبل تعود ملكيته لرجل يدعى صميدة، وهو أحد الجنود متقاعدين من صفوف الجيش الاستعماري الفرنسي، إلى مكان لتنسيق العمليات الفدائية بالشريعة، وذبح المواشي التي ترسل من عند مركز الزين سلطاني.

حيث سخر صميدة جهوده لخدمة الثورة الجزائرية، وعمل على تزويده الفدائيين بالسكاكين التي يحتاجونها لتنفيذ عملياتهم الفدائية، وفي سنة 1956م ترصد واحد من بين هؤلاء الفدائيين تحركات أحد المخازنية المغاربة والذي يعمل كمساعد للنقيب كونور، وبعد أن تأكد من تواجده في مخبزة يمتلكها “بوسعيد بتيوان القبايلي”، فحمل الفدائي خنجرا من اسطبل صميدة، وتوجه مباشرة إلى المخبزة أين قام بتوجيه ضاربة قاتلة للمخازني المغربي، حيث أمسكه من شعره وذبحه، وفرّ مسرعا باتجاه الاسطبل، ورمى بالخنجر إلى صميدة وغادر المكان حتى لا يثير الشكوك، وعندما سُئل سعيد بتيوان صاحب المخبزة عن الفاعل، أبلغ السلطات الاستعمارية الفرنسية أن هول المشهد الذي حدث أمامه منعه من ملاحظة الفاعل أو معرفة شخصيته. 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى