
الجزء الأول
بقلم فرحاني طارق عزيز
تعد المذكرات الشخصية من بين أهم مصادر كتابة تاريخ الثورة التحريرية، لما تحتويه من معلومات مفيدة للباحثين تساعدهم على فهم تطورات الأحداث التي شهدتها الثورة ومعرفة تفاصيل عن طبيعة العمل العسكري أو السياسي الذي قام به جيش وجبهة التحرير الوطني لمواجهة السلطات الاستعمارية الفرنسية، في هذا العدد من جريدة الوسط سنحاول إماطة اللثام عن بعض المحاور التي تضمنتها مذكرات عمار جرمان والتي عنونها بتسمية “الحقيقة” مذكرات عن ثورة التحرير الوطني وما بعد الاستقلال، هذه المذكرات صدرت في سنة 2007م عن منشورات دار الهدى للطباعة والنشر والتوزيع بعين مليلة، والتي حملت تصديرا كتبه محمد الصالح ونيسي الذي تحدث فيه عن المذكرات وعلاقته بصاحبها.
مولد المجاهد عمار جرمان
ولد المجاهد عمار بن بولعراس بن رمّاش جرمان يوم 03 فيفري 1934م بسيدي أرغيس في مشتى علي ويذير، بولاية أم البواقي حاليا، وينحدر من عرش الحراكتة وهو رابع إخوته الستة أربعة ذكور وبنتين. يتحدث عمار جرمان عن والده بقوله: “والدي بولعراس بن رمّاش، كان يمتهن مثل أغلبية الجزائريين في ذلك الوقت مهنة الفلاحة والتجارة، وكان يعيش عند عمه عبد الله في دار واحدة بمشتى علي أويذير مع إخوته الربيعي وجفّال وبوعقال، وبعد وفاة الجدّ رمّاش، كفلهم عمهم عبد الله وقام بتزويجهم”.
انتقال عائلة بولعراس جرمان إلى قرية الشريعة بلدية تبسة المختلطة
في سنة 1937م انتقلت عائلة عمار جرمان إلى قرية الشريعة (بلدية الشريعة) التابعة لبلدية تبسة المختلطة (ولاية تبسة حاليا)، واستقرت هناك اسوة ببعض أقاربها المقيمين بالقرية، حيث واصل والده بولعراس النشاط هناك في ميدان التجارة والفلاحة.
محاكمة عمار جرمان من طرف القضاء الاستعماري الفرنسي
يسرد عمار جرمان حادثة غريبة وقعت له وهو طفل صغير بعمر 04 سنوات، حيث وجهت له محكمة تبسة استدعاء للمثول أمام القاضي، وتم اتهامه بالفرار من الجندية الفرنسية، واستدعيا بهذه التهمة لسبع مرات متتالية، حيث تولى خاله أرغيس عمر بن عمار، نقله إلى مدينة تبسة لصغر سنه، وبمجرد أن عرض على القاضي الذي كلف بهذه القضية واستغرب من استدعاء طفل صغير واتهامه بالفرار من الجندية الفرنسية.
واتضح فيما بعد أن تشابها في الأسماء تسبب في وقوع هذه المشكلة، حيث أن أحد أقارب عمار جرمان يحمل نفس الاسم، وبعد فرّاره من الجيش الاستعماري الفرنسي خلال الحرب العالمية الثانية، وقعت السلطات الفرنسي في التباس بعد تشابه الاسمين، فوجهت الاستدعاء لعمار من أجل أن يمثل أمام المحكمة لهذا السبب، ويصف هذا الموقف بقوله: “كنت وأنا صغير السن، استغرب من هذه التصرفات، ولم أفهم أبدا ما يدور حولي”.
ذكريات عن مرحلة التعليم في مدرسة الحياة
عاش عمار جرمان في رعاية والده إلى غاية وفاته سنة 1942م، ليترك أسرة مكونة من أرملة وأبنائه الأيتام، هذه الوفاة أجبرت “الطفل الصغير” عمار على أن يشمّر عن ساعديّه لإعالة أفراد أسرته الفقيرة.
وظل الطفل عمار يعيل أسرته ويواصل تعليمه الذي كان يتلقاه في القرية حيث كان يتعلم القرآن الكريم واللغة العربية، ودخل إلى مدرسة عربية تقع بالشريعة ويطلق عليها سكان الجهة تسمية “الوكالة”، وهي مدرسة أسستها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وتضم 10 أو 12 قسما مفروشين بالحصير، ويتولى الشيخ امحمد الشبوكي إدارتها، ودرس عمار جرمان بعد التحاقه بهذه المدرسة على يدي كل من الأساتذة: سي صالح بن امحمد مقراني الشكراوي، وقواسمية محمد الحميداني، وسي محمد بن زروال من عشيرة أولاد موسى، وسي الشافعي ومن عشيرة أولاد موسى أيضا.
وعن التعليم الذي تلقاه بمدرسة “الوكالة” يقول عمار جرمان: “كانت الدروس عبارة عن تحفيظ القرآن الكريم، واللغة العربية والحديث والفقه”، بعد مدة من نشاط المدرسة تمّ تحويل مقرها إلى بناية جديدة وتقرر تغيير تسميتا من “الوكالة” إلى “مدرسة الحياة”.
أسهب عمار جرمان في مذكراته في سرد بعض الذكريات عن مرحلة التعليم التي قضاها في مدرسة الحياة، حيث يصفها بقوله: حدثت قصص وأحداث عجيبة في تلك المرحلة، لكنها تعتبر عادية في ذلك الوقت، ومن ذلك أن معلمي تلك الفترة كانوا يستعلمون “العنف” تعليم الأطفال، هذه العادة كانت عادة مألوفة عند الأولياء.
وأبرز نموذج المعلم سي صالح بن امحمد الذي كان شديدا مع القدادشة ومفردها اقداش وهي التسمية التي تطلق على التلاميذ بالجهة، حيث وفور خروجهم من الأقسام لقضاء فترة الراحة كانوا يحدثون ضجيجا وصخبا في الساحة وهم يتراكضون وصراخهم يتعالى بين أرجاء المدرسة، ولوضع حد لحالة الفوضى السائدة في فناء المدرسة، كان سي صالح يجمع القدادشة ويضع عصابة على عينيه ثم يقوم بضربهم بصفة عشوائية، ولما سئل عن سبب ذلك، أجاب بقوله: “أفعل ذلك حتى لا يقال بأني أفضل تلميذا على آخر، وحتى يكونوا جميعا سواسية في العقوبة”، وكثيرا ما يرّدد مقولة: “العصا لمن عصى”.
ولم يقتصر التعليم عن تحفيظ القرآن الكريم واللغة العربية فقط، بل كان “إقداشن” المتمدرسون بمدرسة الحياة يتعلمون الأناشيد، وكانوا يرددونها عند خروجهم من المدرسة، واختلفت من أناشيد وطنية وأناشيد دينية حيث رددوا أناشيد: “من جبالنا”، و”شعب الجزائر مسلم”.
يوميات بين الدراسة، العمل، ممارسات الرياضة، وتوزيع المناشير السياسية
أمام الأوضاع القاسية التي كانت تعيشها أسرته، اضطر عمار جرمان إلى العمل في مؤسسة “لاصاب” La sap المختصة في الفلاحة لأجل إعالة أسرته، حيث أرغم وهو فتى يبلغ من العمر 13 سنة على الدراسة والعمل معا، حيث فضل العمل على الدراسة وكان يزور مدرسة الحياة بصفة متقطعة، وفي سنة 1947م انتقل للعمل في مزارع كانت تصدر الخضر والفواكه إلى مالطا وإيطاليا وغيرهما.
ولما بلغ عمار جرمان من العمر 14 أو 15 سنة، انخرط في عدة فرق رياضية كانت تتنافس في احتضانه لما أظهره من قدرات فائقة في لعب كرة القدم، وغيرها من الرياضات الأخرى مثل الصيد والجري، والكرة التقليدية والسباحة في الأودية، وكان يمارس هذه الرياضات مع أقرانه طيلة النهار خلال فترات البطالة التي كان يمر بها بين الفينة والأخرى.
ممارسة عمار جرمان للرياضة جلت له المتاعب من جديد، واستدعي مع زميله التونسي محمد المدعو “المهندس” للمثول أمام قاضي محكمة تبسة بعد أن وجهت له اتهامات بالضلوع والتسبب في حرق غابة تقع بالشريعة، وقبل أن يتوجها للمحكمة قدم لهما أحد معارف عمار جرمان نصيحة تتمثل في التنكر لكل التهم الموجهة لهما، وبعد ذلك توجها معا إلى محكمة تبسة، أين تحصلا على البراءة من تهمة حرق الغابة، بعد أن أنكروا أمام القاضي كل التهم التي وجهت لهما، وأخبروه عن الفاعلين الحقيقين والذين كانوا أوليائهم يتمتعون ببعض النفوذ واستغلوه لتوجه التهمة ورميها على أكتاف عمار جرمان ومحمد التونسي بحكم أنهما يتيمين.
في أثناء ذلك انخرط عمار جرمان ومحمد التونسي في النشاط السياسي حيث قاما بتوزيع مناشير الحزب الشيوعي كان أحمد النقريشي القاطن بمدينة تبسة يقوم بتزويدهم بهذه المناشير لتوزيعها على المواطنين، ولم يكتفوا بهذا فقط بل قاموا بتوزيع مناشير أخرى صادرة عن حزب البيان الذي يرأسه فرحات عباس، رغم عدم إدراكهما الجيد لفحوى هذه المناشير، حيث دفعهما الفضول والشغف للقيام بذلك، وعن هذه المرحلة يتحدث المجاهد عمار جرمان بقوله: “…وصل الحد بنا إلى درجة كتابة عبارات شتم وسب في حق “الخليفة” على جدران إدارية الاستعمارية، بعد أن تلقيا أمرا بذلك”.