
بقلم الأستاذ : عادل فرحاني.
باحث في تاريخ الثورة الجزائرية (1954 – 1962 م )
- الجزء الأول :
يعالج هذا المقال موضوعا تاريخيا هاما يتعلق بتسليط الضوء على إحدى المذكرات الشخصية المهمة التي تعود لأحد المناضلين البارزين في الحركة الوطنية الجزائرية وثورة أول نوفمبر 1954وواحد من الأقلام التاريخية التي عرفت بكتابتها في تاريخ الجزائر المعاصر وهو المؤرخ محمد حربي الذي ساهم بدوره في رصد أحداث ووقائع تاريخية عايشها أثناء فترة الكفاح الجزائري للمستعمر الفرنسي ووثقها في مذكرات موسومة بعنوان حياة تحد وصمود أصبحت اليوم مصدار مهما لا غنى عنه لدى الباحثين والطلبة الجامعين في إنجاز دراستهم وبحوثهم العلمية.
- ترجمة لشخصية محمد حربي :
ولد المناضل والمؤرخ الجزائري محمد حربي بن إبراهيم بن صالح وعائشة بنت السعيد كافي في 16جوان 1933بدائرة الحروش ولاية سكيكدة ، ينتمي إلى عائلتين من كبار العائلات المتميزة بنفوذها الاجتماعي والديني ، التحق محمد حربي بالمدرسة الابتدائية الفرنسية بمسقط رأسه كما تلقى تعليما قرآنيا لمدة قصيرة ، وبعد نجاحه انتقل لسكيكدة لمواصلة تعليمه بإعدادية لوتشباني وهناك انخرط محمد حربي في النشاط السياسي داخل الكشافة الإسلامية لينظم رسميا سنة1950 لحزب حركة الانتصار للحريات الديمقراطية ،وبعد رسوبه في شهادة البكالوريا شعبة الفلسفة سنة1952 أرسله والده ابراهيم لباريس لمواصلة تعليمه وهناك أصبح مسؤولا عن الفرع الجامعي لجمعية طلبة مسلمي شمال افريقيا ، إثر الأزمة التي عصفت بحزب حركة الانتصار للحريات الديمقراطية سنة 1953 اختار محمد حربي الانضمام للجنة المركزية بحكم أنها تتماشى مع أفكاره وبعد تفجير الثورة الجزائرية تقلد حربي العديد من المهام منها مسؤول لجنة الصحافة والإعلام داخل اتحادية جبهة التحرير الوطني بفرنسا ومدير الديوان المدني لكريم بلقاسم وزير القوات المسلحة كما تقلد عدة مناصب داخل وزارة الخارجية في تشكيلة الحكومة المؤقتة الثانية حيث أصبح ممثلا لجبهة التحرير الوطني في مؤتمر منظمة تضامن شعوب إفريقيا وآسيا ،ومؤتمر مدريد للسلام ورئيس لبعثة الحكومة المؤقتة في غينيا 1960_1961 ومشاركا في مؤتمر حركة عدم الانحياز سنة 1961 وعضو خبير في مفاوضات ايفيان الأولى في 20 ماي 1961 إضافة إلى مشاركته في صياغة ميثاق طرابلس 1962م .
من أهم مؤلفاته عن تاريخ الجزائر المعاصر:
- أرشيف الثورة الجزائرية 1954_1962م
- الثورة الجزائرية سنوات المخاض
- جبهة التحرير الوطني الأسطورة والواقع
- جبهة التحرير الوطني تاريخ ووثائق ؛التاريخ الداخلي لجبهة التحرير الوطني بالاشتراك مع المؤرخ الفرنسي جلبير ميني
- مذكرات حياة تحدي وصمود :
∙ لمحة عن مذكرات محمد حربي حياة تحدي وصمود :
في الحقيقة تعود فترة صدور النسخة الأصلية لمذكرات محمد حربي المعنونة ب:
Une Vie debout”Mémoires Politiqes Tome1″ 1945_1962″
إلى سنة2001م بفرنسا وقد تم إعادة ترجمتها بالجزائر من طرف الأستاذين عبد العزيز بوباكير وعلي قسايسية حيث أشرفت دار القصبة للنشر على طبعها سنة 2004 وقد جاءت هذه المذكرات في حدود 440 صفحة مكونة من توطئة و12فصلا وملاحق عبارة عن وثائق أرشيفية، وعن أسباب صدورها يقول محمد حربي : ” من خلال تجربتي أريد أن أفهم الطريقة التي تمت بها معايشة أحداث هامة جعلت الجزائر تنتقل من عالم التقاليد إلى عالم يعيش بطريقة معقدة بحكم تأثره بفعل التأثير المرتبط بالاستعمار وذلك بتوضيح صيرورتها انطلاقا من المعايشة الجماعية والمزاوجة بين التاريخ والسيسيولوجيا من أجل الفهم الداخلي للمجتمع “
∙العوامل المؤثرة في تكوين شخصية محمد حربي :
– تأثير والدته السيدة عائشة كافي لعبت والدة محمد حربي دورا أساسيا في تكوين شخصيته ونمائه الفكري وقد تحدث حربي عنها قائلا “لعبت النساء دورا مهما في تكوين الحساسيات ،فأمي كانت هي ملاذنا ورغم أنها لم تمسسها المثاقفة إلا بطريقة محدودة وغير مباشرة؛ وقد كانت الحكايات والأمثلة والحكم التي تسردها لي كانت من نوع آخر مختلف عن العالم الذي كنا نعيش فيه خارج البيت ،فقد نقلت لي بشكل عرضي عن تاريخنا الوطني متحدثة على بيجو والمكاتب العربية التي لم أفهمها إلا فيما بعد وقد تعلمت منها كذلك أغاني حول التجنيد الإجباري وأخرى تمجد شخصية الدكتور محمد الصالح بن جلول رئيس فيدرالية المنتخبين وأغاني حول اضطرابات قسنطينة سنة 1934 “
– النفوذ السياسي والاجتماعي لعائلة محمد حربي ،رغم أن الساحة السياسة بالحروش لم تكن مفتوحة للتنافس في تلك الفترة حيث كان الرهان الحقيقي يكمن في القدرة التي يملكها الفرد من أجل كسب التأييد الشعبي وقد كانت لشخصية عم والد محمد حربي السيد أحمد حربي نفوذا عشائريا وسياسيا استفاد منه الجميع خاصة بعد ارتقائه فوق عامة الناس بفضل ثرائه وإتقانه للغة العربية والفرنسية الشيء الذي أهله ليصبح مستشارا بلديا في الفترة الممتدة من 1908الى 1936 والتي كانت فيها الهيئة الانتخابية المسلمة تضم ملاك الأراضي والتجار دافعي الضرائب، والمتقاعدين المدنيين والعسكريين ،إلى جانب ذلك تولى السيد أحمد حربي رفقة الطيب بوقادوم الإشراف على سجل دافعي الضرائب الخاصة بالمسلمين وتظلماتهم إضافة الى إعداد قوائم إغاثة “الأهالي” وقد اشتد التنافس بين العائلات خاصة بين عائلة بوقادوم وبوزيد إلا أن السيد أحمد حربي استطاع ضمان منصبه استنادا للدفاع عن قيم اللغة والدين وبناء المساجد ،واستخدام المال والحظوة والخدمات لكسب الولاءات، ونتيجة لذلك
جعل من ابن عمه حواس مساعدا له ورئيسا لجماعة الحروش ليتقلد منصب المستشار البلدي سنة 1935 فمستشاار عاما سنة 1937 لفليبفيل ، مقتفيا أثر فيدرالية المنتخبين للدكتور بن جلول ،وبعد وفاة السيد أحمد حربي خلفه جد محمد حربي المدعو صالح حيث أصبح على رأس إدارة الشعائر الدينية للحروش ومستشارا بلديا في “غاسطونفيل” وعن مسألة النفوذ والمكانة العائلية المرموقة يقول محمد حربي “ولإنهاء وصف جغرافية وسطي العائلي أضيف أنني أنتمي لسلالتين الأولى ارتقت اجتماعيا واكتسبت سلطة اقتصادية أساسها امتلاك أرض زراعية كبيرة وملك عقاري هام في الحروش وسكيكدة ،وقد مثلت في فترة الأربعينيات أغنى العائلات وأكثرها تجهيزا بالمعدات الحديثة ؛أما الثانية التي انحدرت منها أمي فقد حافظت على نفوذها الديني وساهمت في حماية المنطقة ثقافيا عن طريق تدريس اللغة العربية والقرآن الكريم وكان لذلك أهمية كبيرة في نظرها وكانت المرجعية الدينية بالنسبة إليها هي أساس السلوك والأخلاق والسياسة “
- تعليمه وبداية تشكل وعيه الفكري :
التحق محمد حربي وهو في سن السادسة بالمدرسة الابتدائية الفرنسية المختلطة بالحروش حيث كانت مكانه الأول لبداية تمرنه الاجتماعي واكتشافه المجتمع الجزائري في تنوعه العميق ،ولما بلغ سن الثامنة أخذه جده السعيد كافي للمدرسة القرآنية اين لقنه اللغة العربية وتفسير القرآن والسنة وتاريخ الإسلام ورغم استئنافه لتعلم اللغة العربية في مرحلة الثانوية إلا أن مستواه بقي محدودا نتيجة لعدم وجود أساتذة أكفاء حسب تعبيره مفضلا التعليم الفرنسي على التعليم العربي الحر نتيجة لعدة اعتبارات تتأقلم مع توجهه الإيديولوجي ،وفي سنة 1942التحق التلميذ محمد حربي بالمدرسة العربية وبها تلقى أصول التاريخ و جغرافيا الجزائر والعالم الإسلامي عند معلمه يحياوي بشير ،وفي هذا الصدد يقول محمد حربي “استمريت في ذلك لمدة سنة وأثناء ذلك ترددت على المسجد ،وحضور دروس حول العقيدة وسيكون هذا التعليم الذي غذته العلاقة الدافئة التي عرفتها في الكشافة حاسما في اختياري المستقبلية ،ومن تلك الفترة أصبحت الدروس المقدمة في المدرسة الفرنسية في تاريخ الجزائر تنزلق مثلما ينزلق الماء على ريش الإوز ،وقد كان لمعلمته السيدة شاباص أثر أخر في تكوينه الفكري وقد لخص ذلك في قوله “كانت المعلمة شاباص تجسد في عيني أكثر من أي شخص آخر هذا الدور الذي تلعبه المدرسة الابتدائية ،علمتني القراءة وجعلتني أكتشف العديد من الكتب وبفضلها لجأت إلى عالم آخر لا علاقة له بعالمي اليومي فكنت أراوح بين عالمين أحدهما مثالي والآخر واقعي ،فقد نجحت السيدة شاباص في تحطيم كل الخرافات بطريقة نبيهة جدا وأصبحت أعبر عن أفكاري بحرية والميل والشجاعة لقول الحقيقة والقناعة بأن الطبيعة يمكن تطويعها بالعمل ” ليلتحق بعد تخرجه من المدرسة الأهلية بإعدادية دومنيك لوتشياني بسكيكدة سنة 1945. وخلال تعليمه قرأ حربي محمد العديد من المؤلفات من بينها كتابات جيل فيرن ميشال ستروغروف ألكسندر ديما واركمان وشاتريون وبروسبير ميرمي فتحت أمامه الآفاق ووجد فيها وصفا قريبا من عالمه وحول هذا يضيف محمد حربي “علمتني المدرسة التساؤل والشك والتميز بين الدين والأخلاق والطاعة والخضوع وبين الفضل والحق ؛فجعلت مني واعيا مزدوجا بنيويا ” كما كان لنشاطه الكشفي هو الآخر دور في تحديد المسار السياسي لمحمد حربي وفي هذا الصدد يقول “كانت المدرسة التي أدخلني بها جدي السعيد كافي تستهويني أقل من الكشافة نظرا لما كانت تنظمه من خرجات في الهواء الطلق وبمناقشاتها وتعلم الأغاني الوطنية مع عبد الرحمان كربوش الذي عينني مسؤولا على ستة أطفال وبها تعلمنا قصيدة شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب إلى جانب الشيد الذي ألفه مفدي زكريا حول نجم شمال افريقيا كما كان المناضل العربي دماغ العتروس يقوم أحيانا بتحفيظنا للأغاني الوطنية وقد أخذت على عبد الرحمان حربوش بعض المعطيات عن رواد الإصلاح في القرن التاسع عشر جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وأخذت عليه كذلك بعض المعلومات حول الاختلاف بين الديانات خاصة المسيحية والإسلام، وبالكشافة تعلمت آيات قرآنية و الأحاديث ،وقد حاولت المشاركة معها بعد نهاية الحرب العالمية الثانية في 8ماي 1945 في مظاهرات التي نظمها حزب الشعب لكن اعتراض المعلمة شاباص حال دون ذلك “
وبخصوص العوامل التي جعلته ينفتح على عالم الماركسية فيقول حربي “لقد كانت كتابات الأستاذ بير صاوري مدرس التاريخ حول الثورة الصينية بجريدة “اشتراكية ام بربرية ” بالثانوية هي من فتحت فكري على الماركسية ، إضافة لقراءتي العديد من المؤلفات منها كتاب لينين المعنون ب “ما العمل” وكتاب “عصر المنظمين” لجيمس برينهام وحضوري للمؤتمرات الخاصة بالطلبة الاشتراكيين بليون وتبادل النقاشات مع الطلبة المتعلقين بالماركسية والذين منحوه كتبا حول الأممية الأولى لجيمس غيوم ومذكرات فيكتور سيرج والثورة المجهولة لفولتين وبخصوص هذا يقول محمد حربي :”لقد اكتشفت بفضل الطالب دانيال غيران التاريخ الثري للأممية الأولى ودرست نظرية الثورة الدائمة وأطروحات الاشتراكية والبربرية حول الثورة الروسية لسنة 1917م واكتشفت الأدبيات الوافرة لروني لوفافر المعنونة بمنشورات سبارتاكييس” وخلال تواجده بالمصحة الاستشفائية بباريس أثناء العلاج من داء السل تعمق حربي أكثر في الفكر الماركسي ونهل من مختلف كتابات رواده ومنظريه والتي رسمت توجهه الإيديولوجي للانفتاح على الماركسية
- مجازر الثامن ماي 1945 بالحروش :
بعد بداية المظاهرات وصل الطابور المغربي في اليوم الموالي حيث كان تحت تأطير ضباط فرنسيين ،وقد باشرت السلطات الفرنسية تفتيش بيت جد محمد حربي السعيد كافي للبحث عن وثائق نتيجة لمعرفتهم بأن الزعماء الوطنين المحليين كانوا يتتلمذون على يده كما تم إرسال بعض ابناء القياد القدماء إلى دواوير حبابة وأولاد مسعود بعد الإشاعة بأن القبائل المتواجدة بها تستعد لإعلان الجهاد ضد فرنسا وقد توترت الأوضاع ثم انتشر القمع في كل من قالمة وسطيف وخراطة ؛وقد فقدت عائلة أخوال محمد حربي العديد من أبنائها وعن تلك المجازر يقول حربي “إن 8ماي 1945 لا يمثل بالنسبة لي أسطورة مؤسسة للكفاح المسلح وإنما هو محنة عائلية ما فتئت ذكراها تعاودني” .