أقلام

قراصنة وموساد وإرهاب وقواعد أجنبية

150905 476144202443098 2010259773 nبقلم: صالح عوض

هنا وعند أحد أخطر المواقع الإستراتيجية تدور معركة في أكثر من اتجاه لإفقادنا عنصر قوة حقيقي في معركة الوجود.. منطقة شرق أفريقيا المتحكمة بمنابع النيل والمسيطرة على مداخل البحر الأحمر وخليج عدن: الصومال وجيبوتي وإريتريا وإثيوبيا، وتتسع أكثر لتشمل كينيا والسودان وجنوب السودان وأوغندا، وعلى الضفة الأخرى اليمن بموانئه، ليصبح الممر المائي باب المندب عربيا بامتياز كما تجلى ذلك في حرب 1973 عندما أغلقت البحرية المصرية واليمنية المضيق أمام السفن الأمريكية والصهيونية ستة أشهر كاملة فكانت الإشارة الأخطر للأمريكان لكي يتم تنفيذ خطط منهجية متواصلة لتفتيت المنطقة واختراقها و إفقاد العرب إمكانية السيطرة عليه.. فعاد القرن الإفريقي موبأة الفساد الأمني والسياسي و تفريخ الإرهاب والتغلغل الصهيوني.. إنها معركة على حدود العرب الإفريقية حول البحر الأحمر والمحيط الهندي في إطار الحرب العالمية على العرب في أكثر من موقع استراتيجي وبأكثر من أسلوب وأداة لإخراجهم من احتمالات النهضة والوحدة والمساهمة في المسيرة الإنسانية.. من المسئول وهل من سبيل لتدارك ما فات؟ هنا محاولة لرؤية المشهد بأبعاده الحقيقية.

الأهمية الإستراتيجية:

 تمتع منطقة القرن الإفريقي تاريخيا باهتمام القوى والإمبراطوريات المهيمنة في العالم، للسيطرة على ثرواتها الهائلة من النفط والغاز والذهب والفضة واليورانيوم ولقد ازدادت أهميتها بعد اكتشاف النفط في جزيرة العرب فأصبحت مجاورة لدرب حاملات النفط والغاز والاتجار بالبضائع والأسلحة وعبور الأشخاص حيث يقدر عدد السفن وناقلات النفط العملاقة التي تمر بجوارها  عبر مضيق باب المندب في الاتجاهين، بأكثر من 21000 قطعة بحرية سنوياً (57 قطعة يومياً). .. فهي منطقة محيطة بواحد من أهم ممرات النقل والمعابر على الطريق البحرية بين بلدان أوربية والبحر المتوسط، وعالم المحيط الهندي وشرقي أفريقيا ، كما أن قيام الكيان الصهيوني على إطراف البحر الأحمر يعني إضافة حساسية جديدة وأهمية إستراتيجية أكثر خطورة.. فقد اكتسبت المنطقة أهمية إستراتيجية من خلال موانئ وجزر دول القرن الإفريقي حيث اعتبرها الكيان الصهيوني جزءاً من نطاق أمنه الحيوي الجنوبي. القرن الإفريقي سواء بحدوده الضيقة أو الواسعة، والقرن الإفريقي يعتبر منبعاً لنهر النيل؛ حيث تحصل مصر على 85% من حصتها السنوية من هضبة الحبشة، و15% من البحيرات العظمى، وهنا تتجلى خطورة تداعيات سد النهضة الإثيوبي الممول أمريكيا وصهيونيا حيث تتحكم إثيوبيا في كمية مياه النيل الأزرق التي تنساب لكل من مصر والسودان، وإحاطة المنطقة لممر مائي أكسبت أهميتها حساسية خاصة تجارية وعسكرية بعد افتتاح قناة السويس فأصبح ارتباط المنطقة استراتيجيا ببقاء قناة السويس وممر هرمز مفتوحين للملاحة، أمام ناقلات النفط خاصة بحيث يدفع إغلاق أحدهما كثيرا من السفن إلى طريق رأس الرجاء الصالح ومن هنا جاء التلازم الأمني الاستراتيجي بين الممرات الثلاث ومن هنا تبرز أهمية منطقة القرن الإفريقي كحلقة وسيطة في الحركة بين الممرين الآخرين.. الأمر الذي حولها إلى نقطة استقطاب وجذب دولية غاية في  الحساسية للاقتصاد العالمي والأمن العالمي.  

التنافس الإقليمي والدولي:

  اهتمت بخطورة المنطقة كل من الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة و الصين والهند واليابان وتركيا وإيران والكيان الصهيوني والدول العربية: السعودية والإمارات وسعى كل منها إلى تقوية نفوذه بها. و لخطورة المنطقة وأهميتها اتجهت الخطوات الاستعمارية الامريكية  الأولى إلى تفتيت المنطقة وزرع الفتن داخلها وتحويلها إلى أجزاء منهكة بالحروب والأمراض لتفريغها من أي فعل مركزي منظم، وبذلك أصبح القرن الأفريقي أكثر المناطق الأفريقية احتمالا للتفجر. وبعد أن عانى من أطول الصراعات وأكثرها مرارة خلال القرن العشرين، شهدت المنطقة خلال العقدين الماضيين مجاعات وحروبا بسبب سياسات منظمة من قبل القوي المتصارعة اتجهت لتفقير الناس وتجويعهم بضرب أعمدة اقتصادهم الوطني الأمر الذي أنشأ الجفاف وانعدام الأمن الغذائي فتولدت الصراعات السياسية التي مزقت البلاد وأنهكتها، وهو ما دفع السكان ثمنه قتلا وتشريدا فتمزقت الأوطان وبرزت قوى القراصنة البحرية و المليشيات المسلحة و تهديد الملاحة البحرية.. وكان هذا هو الوضع النموذجي الداعي للتدخل الأجنبي تحت حجج عديدة (الحرب على الإرهاب ومكافحة القرصنة).

لقد أولت الولايات المتحدة منذ أواخر القرن الماضي منطقة القرن الأفريقي أهمية جيوسياسية إستراتيجية كبرى وذلك ترجمة للعقيدة الأمنية الأمريكية “الربط بين الأمن القومي الأميركي وأمن الطاقة النفطية”.. وقد ساهمت حالة الفراغ العسكري والأمني الإقليمي في دفع واشنطن للاهتمام به أكثر والتحرك سريعا، بعد أن بدأ تغلغل الصين بأفريقيا عامة والقرن الأفريقي خاصة، فأقامت واشنطن قاعدة عسكرية في جيبوتي، و قواعد عسكرية سرية لها بالقرن الأفريقي في كينيا “مومباسا ونابلوك”، وفي إثيوبيا “أربا مينش” الجوية لـ الطائرات بدون طيار منذ عام 2011، وذلك للاستطلاع والتجسّس في شرق أفريقيا.. وقد أطلقت الإدارة الأمريكية على المنطقة اسم القرن الإفريقي الكبير مضيفة للدول سابقة الذكر بعض الدول الإفريقية.

وقد وجد الكيان الصهيوني  مجالا حيويا في المنطقة، فأسس وجودا عسكريا وأمنيا في المنطقة واستطاعت الأجهزة الأمنية الصهيونية من الاستيلاء على بعض الجزر بالقرب من باب المندب اما بشرائها في جزيرتي «دهلك» و«فاطمة» الإرتريتين، أو بالسيطرة والاغتصاب مباشرة وتقيم الأجهزة الصهيونية عليها مراكز رصد للبحر الأحمر ودوله تستهدف السعودية والسودان واليمن، وتقيم في «دهلك» أكبر قاعدة بحرية لها خارج حدودها، وقد وقعت إرتريا اتفاقية أمنية مع الكيان في 1996 تسمح لـ«الموساد» بحرية الحركة داخل إريتريا مقابل التزام الاحتلال بتوفير احتياجات أسمرا في المجال الدفاعي والأمني. ووسع الكيان علاقاته السياسية وطورها مع بعض أنظمة المنطقة وخاصة الإريتري والأوغندي والجنوب سوداني والإثيوبي.

و حاولت الصين منذ فترة التواجد في منطقة القرن الأفريقي، بحجة مكافحة القرصنة وضمان أمن باب المندب لتأمين تجارتها، واعتبار المنطقة أحد أهم أضلاع تقوية طريق الحرير الجديد لحماية سفنها والتواصل المباشر مع إفريقيا الجنوبية، فقامت ببناء قاعدة عسكرية في جيبوتي تضم عشرة آلاف جندي بدأ الترتيب لها منذ العام 2017م.

وأما اليابان فقد أخذت على عاتقها الاستعداد لمواجهة التهديدات التي تحيط بسفنها في البحر الأحمر، حيث فتحت قاعدة عسكرية في جيبوتي منذ عام 2010 م، وتنقل السفن اليابانية جُلَّ بضائعها عبر البحر الأحمر، ويعود إليها الإشراف على 10 % من النقل البحري في المنطقة، حيث تسعى طوكيو إلى مزاحمة النفوذ الصيني المتصاعد في أفريقيا.

وسعت تركيا لتعزيز وجودها عبر البوابة الصومالية فكثفت من تدخلها الإنساني والتنموي، وعززت وجودها عام 2017 بافتتاح أكبر قاعدة عسكرية لها خارج حدودها جنوب العاصمة مقديشو لتدريب عشرة آلاف جندي حكومي، وتساهم تركيا بشكل كبير في بناء وإعادة مؤسسات الدولة الصومالية، وعقدت اتفاقيات وتفاهمات مع السودان لتطوير ميناء سواكن، ومن الجدير بالذكر أن الاستثمارات التركية في إثيوبيا هي الأكبر في دول جنوب الصحراء في القارة الإفريقية.

أما إيران فقد نهجت سياسة نشطة في المنطقة من خلال إبرام شراكات اقتصادية وتحقيق اختراقات ثقافية (نشر التشيع) بجانب تعزيز وجودها العسكري، حيث تمكنت من بناء مركزا لتموين سفنها وقاعدة بحرية عسكرية في إريتريا، لتدريبها عناصر من الحرس الثوري والميليشيات التابعة لها في إريتريا، وكان النظام الإرتري حلقة وصل ودعم عسكري للحوثيين في اليمن في انقلابهم على حكم عبد ربه منصور هادي،  لكن الموقف الاريتري انقلب فوقفت إرتريا مع المحور الخليجي على حساب الجانب الإيراني.

إن تشكيل القرن الإفريقي كما تهوى الإدارة الأمريكية وأوربا والصين وروسيا يتجه نحو أثيوبيا بوصفها المرتكز الإستراتيجي لمنطقة القرن الإفريقي الكبير بأسرها، وليس السودان أو الصومال أو جيبوتي أو إرتريا.. مما يعني سحب مركز الفعل في القرن الإفريقي بعيدا عن طبيعته العربية والإسلامية.

حرب اليمن: 

من اجل إنهاء قيمة ممر باب المندب وإنهاء الهيمنة العربية عليه كان لابد من ان يحدث الانهيار في القرن العربي كما حصل الانهيار في القرن الإفريقي وبعثرة اليمن فتضيع الدولة الوطنية الأهم على باب المندب ويتقاسم المتنافسون الحصص في الممر المائي الحساس وكما هو واضح فان كل السفن التجارية والحربية الإيرانية والأمريكية واليابانية والصينية والإسرائيلية متجاورة في المنطقة، فكان المخطط الذي تم بإشراف أمريكي إنما يقصد إحكام السيطرة على المنطقة العربية.. 

 انطلقت بقيام الحوثيين، وهم مجموعة قبلية شيعية صغيرة تعيش في الجبال شمالي اليمن “صعدة”، بالدخول إلى العاصمة صنعاء وطرد الحكومة الشرعية وبالسيطرة على موانيء على البحر الأحمر.. وهي على ولاء لإيران بدأت حكمها لصنعاء بان فتحت المجال الجوي لاستقبال العديد مم الطائران الايرانية المحملة بما يحتاجه الحوثيون وكان انتصار الحوثي هدفا كبيرا لايران بالقرب من باب المندب وفي دائرة صراع النفوذ.

تسير الحرب الى نهاية عامها الخامس، كأسوأ أزمة إنسانية في عصرنا. تتراوح تقديرات القتلى اليمنيين أكثر من 70 ألف قتيل، في أكثر من 30 جبهة قتال، وقد نزح أكثر من 3.3 مليون شخص من مناطقهم،كما صرحت منظمات دولية.وأدى هذا إلى غرق اليمن، في مستنقع الفقر والكوارث الاقتصادية. وشهد العام الجاري انتقال الصراع إلى خارج اليمن على سفن الشحن في البحر الأحمر، وحتى على أهداف بعيدة داخل السعودية مثل العاصمة الرياض و”ارامكو”

كان المتحدث باسم التحالف واثقا من أن المقاومة الحوثية ستنهار في غضون بضعة أشهر وسوف يسعون لتحقيق السلام. والآن بعد أكثر من أربع سنوات يتضح صعوبة أن يحسم الأمر في اليمن الذي تمزق مزقا و أصبح بتصرف أكثر من دولة إيران والسعودية والإمارات.

علاقة القرن الافريقي بالعربي

 حول القرن الأفريقي برزت المحاور، حيث نجد الإمارات والسعودية ومصر وإسرائيل في جانب، بينما نجد تركيا وقطر والصومال (وبدرجة أقل أثيوبيا) في جانب.. وعلى القرن العربي رأينا الإصطفافات تحت ذريعة التصدي لتوسع النفوذ الإيراني في اليمن بعد انقلاب الحوثيين انطلق التحالف العربي الذي أعلنته السعودية وانضمت إليه الإمارات العربية والسودان.. و قد التقى ذلك مع مصالح مجموعة من القوى (أميركا والكيان الصهيوني وبعض دول الخليج) لمواجهة الخطر الذي يمثله النفوذ الإيراني مستقبلا.. و رغم  علو نبرة الخطاب الإعلامي النابذ للحرب فمن الواضح انه لا رغبة لدى الدول الغربية لرأب الصدع في الإقليم، بقدر ما تغذيه وتستغله.. ومن هنا يصبح من الواضح أنه لا يمكن التغلب على المشكلات البنيوية المزمنة في القرن الأفريقي والقرن العربي إلا بتعاون المنطقة، وذلك ببروز قوة عربية حقيقية تجمع الموقف العربي حماية للأمن القومي العربي في مجالاته العديدة السياسية والأمنية والمائية والإستراتيجية. ولعل من أولويات الحل إنهاء حرب اليمن فوراً قبل فقدان الأمل باستعادة الدولة اليمنية، وما سيتركه ذلك من آثار كارثية على المنطقة، كما حدث في الصومال من قبل، فالترابط الأمني بين القرن الأفريقي والقرن العربي يعني بوضوح ان الانهيار على احد جانبيه يعني انهيارا مقابلا على الجانب الآخر ولذا نصبح في أمس الحاجة اليوم إلى منظور استراتيجي، يضع هدفا له وحدة القرنين حالاً ومآلاً وأهميتها بالنسبة للأمن القومي العربي..

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى