
صالح عوض
عابثون.. أولئك الذين يتجشمون عبء القضية الفلسطينية، فيما هم لم يستوعبوا خصوصيتها عن كل قضايا العالم.. وهم كذلك مساكين، لأنهم سيبذلون الوقت والجهد على غير هدى وتنقضي أعمارهم في سراب ينتهي بهم إلى الإحباط، فيتحولون بفعل الفشل المتلاحق من مناضلين إلى متنازلين تتماهي المسافات بينهم والعدو، فلقد بعدت عليهم الشقة!! فمعركة فلسطين لا يصمد فيها إلا أولو العزم.
فلسطين ليست قضية تحرير وطني فقط، وليست قضية قومية فحسب، وليست محصورة بفئة من الناس دون غيرهم، هذا كله تحصيل حاصل فهي قبل كل ذلك قضية نهضة الأمة ووحدتها وقوتها، هي قضية بروز قيم الخير والإنسانية، ومواجهة منظومات قيم الشر وقوى الأشرار اللصوص العالميين الذين يصرون على استعباد البشرية. وهنا يتداخل الروحي بالسياسي، والجغرافي بالتاريخي، والمنفعي بالرّسالي، والمحلي بالإقليمي والدولي.
قيمة الرواية في الصراع:
أصبنا بغفلة مهلكة عندما انصرفنا عن روايتنا الحضارية التي أنشأت واقعا إنسانيا وحضاريا ملأ السمع والبصر، وأصاب بعض مثقفينا الزهد في تدبر تاريخنا واتجه بعضهم إلى الطعن والتشكيك في مفاصله بحجج كثيرة، فيما يختلق خصومنا روايات وهمية لا سند لها ويقاتلون من أجل تثبيتها في الواقع حتى عادت معاركنا كلها ضد أوهام مسلحة، وعادت الرواية لدى خصومنا ميدان صراع فكري يبذلون المال والجهد لجعلها مرجعية للمواقف السياسية للدول والمؤسسات والإعلام الدولي.. من تدبر تاريخ فلسطين الحافل بصراع الإمبراطوريات والأمم قبل بعثة الإسلام وبعدها نخرج باستنتاجات مهمة أولها أن لفلسطين علاقة عضوية بمحيطها والوضع الإقليمي جملة وبحالة الصراع الكوني، و فلسطين هي الجزء المباشر من بلاد الشام مذ عرفت الحضارة الإنسانية بعربها الكنعانيين الذي يقابل مصر ويصلها بالشام، وهي ما يقابل الحجاز ورحلة صيفه التي أشار إليها الله سبحانه وتعالى في سورة قريش، وهي خط اتصال العراق بالمتوسط..
وهنا تتضح خصوصية الجغرافيا التي أعطتها الرسالات السماوية قيمة خاصة على هذه الأرض ناضل الأنبياء والرسل ضد منظومات الشر ممثلة في قيم أو كيانات اجتماعية أو حكومات باطشة.. كان النبي إدريس عليه السلام المقيم بغزة ذو المقام العلي والأسرار التي أودعها المكان، وكان إبراهيم ولوط عليهما السلام وتأسيسهما لكيان إنساني يتشبث بقيم الاستقامة والنبل وجميل القيم، وبعدها كانت خطوات الانبياء والرسل جميعا موسى و زكريا ويحيى ومريم و الرسول المعجزة المسيح ابن مريم.. وكانت المعركة الكبيرة ضد الإمبراطوريات وعنفها والفرعنة الطاغوتية حيث بعث موسى من فلسطين التي جاءها فارا.. كله ربه بمهمة محددة نحو فرعون وبعده عيسى الذي انطلق ضد طغيان الإمبراطورية الرومانية وضد فساد بني إسرائيل الذين لجأوا إلى فلسطين وانحرافهم واستمرت الملجمة النبوية التي قضى فيها أنبياء وصالحون شهداء العقيدة والكرامة الإنسانية التي دعا إليها الله سبحانه وتعالى.. وكان ختامها مسك.. عندما جاء محمد صلى الله عليه آله وسلم على جناح البراق للقدس يؤم الانبياء والرسل في المسجد الأقصى.. وبذلك يعلن الرسول عالمية الرسالة، وأستاذية الأمة -التي تنهج نهجه- لقيادة البشرية بما تحمله من منظومة قيم كلها رحمة للناس قائمة على أساس عملي ” الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”.. ويكون القدس والمسجد الأقصى هو مكان إعلان هذه الأستاذية والنهضة.
توالت الأحاديث الشريفة مؤكدة مكانة القدس والأقصى في وجدان المؤمنين بالرسالة كما خص القرآن الكريم أرض فلسطين بالمباركة ي ثمن مواضع.. وانتقل هذا العشق والاهتمام بالقدس إلى قلوب الصحابة الكبار ولم ينس أحدهم وصية الرسول بإنفاذ جيش أسامة للذهاب إلى حدود فلسطين ويطأ بخيله أرضها.
وانطلاقا من إدراك عميق تحرك الصحابة لنشر دعوة الإسلام لتحطيم أنظمة الطاغوت وهدم أركان الظلم سواء كان متمثلا بقيم أو أوضاع، وفيما كانوا يسيرون نحو أهدافهم كان واضحا لديهم أن الوصول إلى فلسطين وقدسها إنما يمر بوحدة العرب تحت راية الإسلام أي بتوفير المحرك الحضاري والجامع للعرب والارتقاء بهم إلى مستوى الرسالة.. و يكون كذلك تتويجا لانتصارات على عدة أصعده، و على جبهات أساسية، فكان لابد من توحيد مصر والعراق وبلاد الشام لتصبح فلسطين تتويجا للانتصارات ويتم بعدها الانطلاق نحو العالمية..
الدرس نفسه كرره صلاح الدين الأيوبي.. فلقد سبقه عماد الدين زنكي ونور الدين زنكي وهما قائدان كبيران استطاعا أن يبعثا روح المقاومة والتحرير ويضعا قاعدة الكفاح ضد الوجود الصليبي في المنطقة.. إلا أن صلاح الدين -الذي وسع رقعته وأدخل مصر في حيزه ووحدها ببلاد الشام- هو من حقق النصر في القدس الشريف لأنه قد استحضر موضوعة الوحدة والمواجهة من أكثر من مكان.
ما كان ينبغي لأحد من المثقفين والسياسيين وهو يتعامل مع الملف الفلسطيني تجاهل هذا البعد الخاص والمركزي للقضية الفلسطينية، لأن مثل هذا السلوك إساءة ي ذاته لدور الجغرافيا وما ركب عليها من وظائف تاريخية، واشتراطات الترابط بين فلسطين وعمقها العربي والإسلامي.. كما أنه يمثل العمى التام إزاء العدوان المتنوع الذي تواصله القوى الاستعمارية في بلداننا خلال عديد القرون، وعلاقته العضوية بما يتم على أرض فلسطين.
إن غياب الرؤية قد شمل الجميع: الفلسطينيين والعرب والمسلمين، وهم جميعا يدفعون الأثمان الباهظة جراء ابتعادهم عن الوعي العميق بطبيعة علاقة حالة فلسطين بما عليه حال البلدان العربية والإسلامية وعلاقة أطراف المشروع الاستعماري ببعضها وبقاعدة المشروع الاستعماري المتقدمة الكيان الصهيوني.
المشروع الفلسطيني:
منذ بدايته برزت السمة الأساسية فيه متمثلة بعفويته وفقدانه عناصر مهمة أولها الحشد الواعي حول مشروع كفاح يستوعب طاقة الشعب، وثانيها بحضور السياسي كثيرا على حساب الكفاح المسلح وانهمكت الطبقة السياسية قبيل النكبة بمفاوضات مكوكية في لندن مع الإدارة الاستعمارية. وثالثها: التوقف في وسط الطريق بحجة الحصاد الثوري كما قال بعضهم.. ونتيجة لثقل الحمل-حمل النضال- اتجه زعماء المشروع الوطني الى القبول بتنازلات من الجسد الفلسطيني بل بمعظمه وأعلنوا اعترافهم بشرعية الوجود الاستعماري الصهيوني على أرض فلسطين وكانت هذه هي الطامة الكبرى تهون أمامها كل مصائب الشعب الفلسطيني.. وشيئا شيئا انتهى أمر زعامة المشروع الوطني الى تعطيل شبه كامل للعمل المسلح.. بل تقدموا خطوات نحو تنسيق أمني وتداخل في العلاقات والوظائف أحيانا مع المستعمر.. وهكذا كان عجز المشروع الفلسطيني وفشله سببا في تحطيم القوة الكامنة في النخبة الفلسطينية التي وجدت نفسها بلا غطاء، وقد أصبحت المقاومة عبثا وإرهابا في عرف القائمين على المشروع الفلسطيني.. وهذا هو أخطر ما انبثق عن المسيرة السلمية أو بمعنى أصح مسيرة التسوية، وكان الانصراف الى الانشغال بتحسين شروط المعيشة في ظل الاحتلال أبرز سمات المرحلة الحالية.
لقد تسرع قادة المشروع الفلسطيني الحل واستجابوا للطعم ووقعوا في شباك دهاقنة التسويف والمماطلات، منذ سنوات الثورة الفلسطينية المعاصرة فتحت القنوات مع أطراف صهيونية لإيجاد حلول سياسية، وتم ترسيم هذا التوجه عندما اقر المجلس الوطني في 1974 برنامجه المرحلي بنقاطه العشر..
لقد وجهت القوى المعادية ضربات عنيفة لحركة فتح وطاردوها في كل المواقع واشترك النظام العربي مشاركة واسعة لتكسيرها او إغوائها او احتوائها وذلك لإخراجها من المسرح السياسي تماما.. وكان اغتيال قادتها المؤسسين الكبار أبو يوسف النجار، كمال عدوان، عبدالفتاح حمود، أبوجهاد، وأبو إياد وسواهم، سببا رئيسيا في توهين العقيدة العسكرية الثورية لصالح خيار التسوية.
وبعد الانتفاضة الأولى برز دور حركات المقاومة الإسلامية حماس والجهاد ي استعادة رح المقاومة إلا أن التسرع في جني ثمار الكفاح قبل تحقيق أي هد استراتيجي اخترق وعيها وأصبحت المشاركة والمغالبة سلوكا بارزا تنهجه حركة حماس منصرفة عن التفكير والتحشيد والاشتباك مع العدو لقطع الطريق على نهج التسوية.. و تعاونت أسباب عديدة ذاتية وموضوعية لدفع حماس الى الانهماك في التنافس الوظيفي بعيدا عن الاشتباك المتواصل مع العدو وهكذا كان جر حماس للسلطة والتشريعي تحت سقف أوسلو أخطر ماتم انجازه بعد قيام سلطة الحكم الذاتي.. ولعل النقاش الدائر حاليا داخل قيادة الجهاد حيث لم يعد محرما مناقشة مسألة الدخول في الانتخابات التشريعية ولكن بشروط تصنع سلما للنزول من على الشجرة.
لقد قدم الفلسطينيون تضحيات جسيمة على مدار قرن من الزمن وكان الشعب دوما خل قيادته يرفض أي خروج عليها.. لكن المشروع السياسي أخفق وأرتكب معاصي كبيرة ليس فقط القبول بالخديعة والتسرع نحو حلول تسوية وهمية، إنما أيضا وهذا هو الأهم بالتخلي التدريجي عن وحدة الهد وقداسته لم تعد فلسطين إلا 20 بالمائة منها ولم يعد الشعب إلا 20 بالمائة منه.. فيما ذهب المروع برمته نحو انهماك في تحويل النخبة الفلسطينية إلى موظفين ومصاريف ونفقات باهضة مخففا عن الاحتلال مسئولياته كما صرح الرئيس الفلسطيني محمود عباس بأن الاحتلال الصهيوني هو الأقل تكلفة!!
موقف العرب والمسلمين:
أكثر المواقف العربية تميزا نحو القضية الفلسطينية هي تلك التي انطلقت لنصرة الشعب لتحرير الأرض.. وأعلاها سقفا تلك التي اعتبرت فلسطين جزءا عزيزا من أرض العرب الأساسية والتي لها قداسة خاصة.. وقدم العرب مئات آلاف الشهداء وتضحيات مادية جسيمة..
لكن للأسف انتهت كل تلك التضحيات الى الفراغ ولم تحقق شيئا من الهدف بل ان الكيان الصهيوني يتمدد فيما فلسطين تتقلص والأنظمة العربية تهرول نحو مشاركات أمنية و إستراتيجية مع العدو بعد أن حل اليأس في قلوب الطبقة الحاكمة.
ان السبب الحقيقي خلف ذلك يكمن في غياب الوعي بطبيعة القضية الفلسطينية الفلسطينية، وغياب روايتنا التاريخية التي تؤصل للصراع الدائر باعتباره صراعا حضاريا بين شمال وجنوب أي بين حضارة تكمن مرجعيتها بما عظمه الإسلام من قيم ومفاهيم وحضارة تستند لرؤية مادية عنصرية تجاه الآخر تقوم على مرجعية المركزية الغربية.
غياب هذه المفاهيم أفقد العرب منهج عمل وكدح صائب.. المسألة ليست دفاعا عن فلسطين مع أنها تستحق ولكن المسألة هي المستقبل العربي والإسلامي حيث تتمدد خيوط الإخطبوط الصهيوني في مفاصل الأمن العربي والجغرافيا العربية والإسلامية وهاهي الحركة الدؤوبة لتفكيك المنطقة العربية والعالم الإسلامي بزرع التنازعات العرقية والطائفية والانفصالية في العراق وليبيا والسودان وبنغلادش وكوسوفو.. وهاهو الخطر الصهيوني يحوط بإيران وباكستان وتركيا كما كان له الدور الأساس ي تدمير العراق وسورية ولبنان.. وهاهي الحركة الصهيونية تتغلغل بإفريقيا بتشاد وإرتريا وأثيوبيا وسواها من دول أفريقيا الغربية والوسطى.
عندما يدرك العرب والمسلمون ان الخطر الصهيوني يهدد دولهم وبلدانهم واقتصادهم وشعوبهم تهديدا مباشرا وذلك بإدراكهم للمشروع الاستعماري المتطور يبدأون رحلة الحياة، وقبل ذلك سيظلون في هامشها يتعرضون للصوص المحليين والخارجيين، ويدفعون للتنازع على مكاسب وهمية ويمعنون ي التيه.
وهكذا تبدو كم هي جريمة أولئك الذين يدعون الى نأي بلداننا العربية والإسلامية عن القضية الفلسطينية.. إنهم لا يسيؤون فقط لفلسطين إنما هم في حقيقة الأمر يخونون أوطانهم وشعوبهم عندما غطوا على جرائم العدو ومخططاته ضدها.
نستطيع الانتصار:
من أسوأ المقولات التي تواجه أي عملية نقد وتصويب لما نحن عليه تلك التي تدّعي أن هذه العملية تحتاج وقتا طويلا.. وكأننا لم نقض من عمر أمتنا عقودا وقرونا من العبث والتيه والضلال، علينا هنا التأكد أن السير في غير الاتجاه لم يزدنا الا بعدا عن الهدف..
ولعل أقصر الطرق للهدف هو تمكنا من هم أنفسنا وإدراك مشروع أعدائنا.. وحينذاك ننطلق الى سبل المقاومة والتصدي للمخطط المعادي كل من موقعه وسنجد ضرورة أن تتوحد جهودنا وتتشارك مؤسساتنا وينشا مناخ الوعي والإدراك وسمو المفاهيم وعلو الهمة.
لن نحتاج الا القليل من الزمن على هذا الطريق للوصول إلى القدس بنهضتنا ووحدتنا ومنعتنا وارتفاع همتنا.. فالأهداف المقدسة من المحرم تجزئتها وتشويهها لان ذلك يحبط الروح ويوهن الهمم والعزائم.. والله غالب على أمره.